"ليل تشيلي" تأملات تدين الحياة السياسية والدينية والثقافية

الشاعر والروائي التشيلي الراحل روبرتو بولانيو صوت من الأصوات الروائية المجددة في الفن القصصي الأميركي اللاتيني المعاصر. وقد أفاد من بداياته الشعرية وأفكاره المتداخلة مع الفلسفة والسياسة في صياغة أعمال روائية مازالت إلى اليوم مؤثرة ومرجعا جماليا وحتى فكريا، على غرار روايته "ليل تشيلي".
بعد سنوات من كتابة الشعر تحول الكاتب التشيلي روبرتو بولانيو إلى كتابة القصة والرواية، كاشفا عن وجود وريث شرعي لجيل كتاب أميركا اللاتينية الذي ترك بصمة مؤثرة في تاريخ الرواية، مثل ماريو بارغاس يوسا وغابرييل غارسيا ماركيز، الأمر الذي شكل حدثا كبيرا في الدوائر الثقافية والأكاديمية في العالم الناطق بالإسبانية. ومن هنا كان الاهتمام الأكاديمي والإعلامي بروبرتو بولانيو، فضلا عن معدلات توزيع كتبه التي تضاهي كتاب أميركا اللاتينية الكبار.
وأيضا صنع منه موته المبكر (في الخمسين من عمره)، بعد سنوات قليلة من بدء انتشاره وشهرته وترجمته إلى كل اللغات الأوروبية، أسطورة أدبية وإنسانية تترسخ مع رواياته التي مثلت علامات فارقة في تاريخ السرد.
وتعد رواية بولانيو “ليل تشيلي”، التي ترجمها وقدم لها المترجم عبدالسلام باشا وصدرت عن دار التنوير، عملا شديد الأصالة والتفرد بما حملته من تأملات مدهشة تشكل إدانة لتناقضات الحياة السياسية والدينية والثقافية، تمت صياغتها بلغة شعرية مكثفة ومنفتحة على مستويات الدلالة، بطلها الرئيسي سباستيان أوروتيا لاكروا، قس وناقد أدبي وشاعر متواضع الموهبة والثقافة، مدلس للسلطة، كاره للحرية والمساواة.
يتذكر الأحداث الهامة في حياته في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث يعيش في مجتمع تقليدي محافظ، يفوز فيه الاشتراكي سلفادور أليندي برئاسة الجمهورية، ويشكل فوزه انتصارا للديمقراطية وأملا في الحداثة والتغيير في تشيلي. لكن الانقلاب العسكري الذي قام به بينوشيه يعيد المجتمع إلى الدكتاتورية.
يرسم القس، الناقد الأدبي والشاعر أوروتيا، عبر ذكرياته وعلاقاته الشخصية التي عرفها وموقعه ككاهن صورة مبطنة بالسخرية عن تلك الفترة من تاريخ تشيلي: مجتمع المثقفين، السلطة، الكنيسة. وتمثل شخصياته ومصائرها التي يرصدها في الرواية واللصيقة بالواقع وأحداثه التاريخية والسياسية الحقيقية تأريخا موازيا لتلك الفترة.
إدانة غير مباشرة

كل شخصيات الرواية لم تقم بإدانة العنف والنفاق الذي كان مستشريا. فقط قامت الشخصية الرئيسية بتبرير صمتها بأنها لم تره ولم تعرفه
كل شخصيات الرواية لم تقم بإدانة العنف والنفاق الذي كان مستشريا أثناء حكم بينوشيه. فقط قامت الشخصية الرئيسية بتبرير صمتها بأنها لم تره ولم تعرفه. لكن الإدانة جاءت بسخرية وتهكم غير مباشرين على الإطلاق.
ويلفت المترجم عبدالسلام باشا في مقدمته التحليلية للرواية إلى أن الإدانة في "ليل تشيلي" لم تكن إدانة للعنف فقط، بل كانت إدانة لكل شيء، المجتمع المحافظ، نفاق الأفراد، بالإضافة إلى السخرية غير المباشرة، على الأقل تلك التي تطرح في ذهن القارئ تساؤلات عن وعي الشخصية الرئيسية بما يحكي من دون أي اهتمام بالتناقضات.
وتشهد الصفحات الأولى من الرواية تقديم الشخصية الرئيسية للقارئ: قس، هو ناقد أدبي وشاعر، هذا القس عندما يقع فريسة للحمى لا يقوم بالاعتراف كما يفترض أن يفعل أي شخص كاثوليكي متدين، بل على العكس يحاول تقديم التبريرات، يظن أن لديه القدرة والقوة على تذكر الوقائع والحقائق التي تنصفه، في مقابل الافتراءات والاتهامات التي توجه له.
إنه قس ينشغل بتبرير أفعاله ومواقفه أكثر من الاعتراف بخطاياه. لم تكن حمى فقط، لأنه عندما كان بكامل وعيه أدرك أن أشعاره مليئة بالهرطقات والهذيان، ومع هذا لم يرغب في الاعتراف بهذا للقس الذي يعترف له. الشخص نفسه لا يتخلى عن رداء الكاهن عند لقائه الأول (واللقاءات التالية) بالمجلس العسكري الذي تولى الحكم بعد الانقلاب الذي قاده بينوشيه على سلفادور أليندي. وهو أيضا نفس الشخص الذي يقرر بشجاعة وحسم، بعد حيرة وتردد، ألا يغير زي الكاهن قبل لقاء الضيوف المهمين على العشاء في ضيعة الناقد الأكبر في تشيلي.
يرى باشا أن هذا التناقض، أو ازدواج المعايير، يقود بالضرورة إلى حالة الازدواج أو التناقض العامة التي تشهدها شخصيات الرواية بدءا بالشخصية الرئيسية القس أوروتيا لاكروا. الشخصية الوحيدة التي تبدي تناقضا وتماسكا داخليا وخارجيا هي شخصية شاعر تشيلي الكبير بابلو نيرودا.
ويبدو الظهور الصغير لنيرودا في الصفحات الأولى من الرواية متسقا تماما مع ما يعرف عنه: شاعر كبير، يناجي القمر، نجم تصل كلماته بعيدا حتى السحاب (لكنها لا تصل إلى السماء، هذا لم يقله القس، لكنه حدد ارتفاعها بالسحب التي وصفها بودلير). ورغم ذلك يشك القس أوروتيا في كون بابلو نيرودا ملحدا حقا. ربما يكون ذلك رغبة منه كقس في إنقاذ روح الشاعر الكبير، أو نفيا للآخر؛ مجرد نفي أو رفض لوجود أشخاص ملحدين، خاصة إذا كانوا محل تقدير واحترام.
التناقض والازدواج
ويؤكد باشا أن التناقض والازدواج بشكل ما يمثلان أساس الرواية؛ حيث يوجد الشيء ونقيضه دائما، بمعنى أدق يتعايش الشيء ونقيضه، لكن أحدهما على حساب الآخر دائما. القس هو نفسه الشاعر والناقد الأدبي. القس "طاهر طهرا لا شائبة فيه"، لكن الشاعر والناقد الأدبي "طهره بين بين". القس لا بد أن يحمل الرحمة في قلبه، لكنه كشاعر وناقد يتحدث عن شخصيات مهمة تنتظره على العشاء، ولا يكبح تقززه ورؤيته للمزارعين "الذين يتماهون مع العبودية، كشخصيات قبيحة لا معنى لكلماتها أو تعبيرات وجوهها". هذه الأمثلة يوجد العديد منها داخل الرواية.
◙ التناقض والازدواج بشكل ما يمثلان أساس الرواية، حيث يوجد الشيء ونقيضه دائما، بمعنى أدق يتعايش الشيء ونقيضه
ومن بين الشخصات التي تطالها رؤية القس المتناقضة شخصية السيدين بعر وهرك، بعكس ترتيب الحروف يمكن قراءة الاسمين “رعب”، و”كره”. إنها حيلة لغوية من المؤلف للتعبير عن شخصيتين تمثلان نقطة تحول في الشخصية الرئيسية كلما واجهت أزمة أو مشكلة روحية أو وجودية. كأنه يجب أن يتعايش مع هذين الشعورين الخوف والكره. هما شريكان يعملان لحساب شخص غير معروف. يتميزان بالكفاءة لكنهما يفتقدان اللباقة، أحدهما مهادن (بعر) والآخر قاس مهاجم دائما (هرك).
هذان الشخصان يمثلان العصا والجزرة، يظهران في حياة القس أوروتيا في اللحظات الحرجة، كأن ظهورهما يمثل الحل النهائي، الحل الذي يجمع بين النقائض، لكي يستطيع البطل/ البطل الضد، وبالتبعية البلد، الاستمرار في الحياة. يقدمان له حلا في صورة عمل مجز (وهو ما تفعله الأنظمة الشمولية والدكتاتورية): الاستقرار والازدهار الاقتصادي مقابل الحرية الشخصية. لكنه لا يرفض هذه الحلول. بالعكس يرحب بها ويرى أنها طوق النجاة في لحظات الضعف والانهيار. حتى صورة الدكتاتور بينوشيه في الرواية لا تخلو من هذا الازدواج: رجل عسكري مهيب قوي، لكنه لا يهتم بقراءة الكتب، بل وكتابتها. ورغم أن مؤلفاته (المذكورة في الرواية) تنحصر في العلوم العسكرية، إلا أنه بالمقارنة مع الرؤساء المنتخبين ديمقراطيا قبل قيامه بالانقلاب العسكري يعتبر شخصا مثقفا، محبا للقراءة والكتابة، حسب وجهة نظر القس بالطبع (وهو أمر قد يخفي نوعا من السخرية والتناقض).
يذكر أن روبرتو بولانيو هاجر مع عائلته إلى المكسيك في عام 1968، وعاد إلى بلده قبل الانقلاب العسكري على سلفادور أليندي. تم اعتقاله بعد الانقلاب، لكنه تمكن من الهرب بعد ثمانية أيام. عاد إلى المكسيك، ثم في عام 1977 هاجر إلى إسبانيا حيث عمل في وظائف عديدة لكنه ثابر على كتابة الشعر. قرر كتابة الرواية والقصة فقدم أسلوبا خاصا جعله وريث كتاب أميركا اللاتينية الكبار.
مقتطف من الرواية
حينئذ تذكرت أول مرة تكلمت فيها مع الجنرال على انفراد إلى حد ما، قبل الدرس الثاني أو الثالث، قبله بدقائق، عندما كنت ممسكا بفنجان الشاي فوق ركبتي، والجنرال، مرتديا زيه العسكري مهيبا وقويا، اقترب مني وسألني إن كنت أعرف ماذا كان يقرأ أليندي. وضعت فنجان الشاي على الصينية ونهضت. وقال الجنرال اجلس يا أبت. وربما لم يقل شيئا وأشار بيده فقط لكي أجلس.
وبعد ذلك قال شيئا متعلقا بالدرس التالي، شيئا متعلقا بممر عالي الجدران، متعلقا بحشد من الطلاب، وابتسمت بأريحية وأحنيت رأسي موافقا. وحينئذ سألني الجنرال إن كنت أعرف ماذا يقرأ أليندي، إن كنت أعتقد أن أليندي كان مثقفا. وأنا لم أعرف بسبب المفاجأة كيف أرد، قلت هذا لفارويل. وقال لي الجنرال كل الناس تقدمه الآن كشهيد ومثقف، لأن الشهداء فقط لم يعودوا يثيرون الاهتمام كثيرا، أليس كذلك؟ وأحنيت رأسي وابتسمت بأريحية. لكنه لم يكن مثقفا إلا في حالة وجود مثقفين لا يقرأون ولا يدرسون. قال الجنرال ما رأيك أنت؟ هززت كتفي مثل طائر جريح. لا يوجد، قال الجنرال. المثقف يجب أن يقرأ ويدرس وإلا لا يكون مثقفا، هذا يعرفه أكثر الناس بلاهة. وماذا كان أليندي يقرأ إذن باعتقادك؟ حركت رأسي قليلا وابتسمت قائلا: مجلات، كان يقرأ مجلات فقط، ملخصات كتب، مقالات يجمعها معاونوه. أعرف هذا من مصدر موثوق به، صدقني.
ارتبت في هذا الأمر دائما، همست، إذن شكوك لها ما يبررها. وماذا كان يقرأ فراي؟ لا أعرف يا سيدي الجنرال، غمغمت بثقة أكثر. لا شيء. لم يكن يقرأ شيئا. لم يقرأ الإنجيل حتى. هذا بالنسبة إليك، كقس، كيف يبدو لك هذا؟ ليس لي رأي محدد حول هذا الأمر سيدي الجنرال، غمغمت. أنا أعتقد أن أحد مؤسسي حزب “الديمقراطية المسيحية” كان يمكنه على الأقل أن يقوم بقراءة الإنجيل، أليس كذلك؟ قال الجنرال. ربما، غمغمت. أقول هذا دون سوء نية، فلنقل إنني أوضحه، إنها حقيقة، وأنا أوضحها، لا أستنتج شيئا، على الأقل ليس حتى الآن، أليس كذلك؟ هو ذاك، قلت. وأليساندري؟ لا يا سيدي الجنرال، همهمت مبتسما. لقد كان يقرأ روايات عاطفية. الرئيس أليساندري يقرأ روايات عاطفية، قدرنا أن نشهد هذا، ما رأيك؟ غير ممكن، يا سيدي الجنرال. بالطبع ما دام الأمر يتعلق بأليساندري فهذا يبدو، فلنقل طبيعيا، لا، منطقيا. منطقي إلى حد كبير أن تميل قراءاته إلى هذا. هل تفهمني؟ لا أفهم يا سيدي الجنرال، قلت وعلى وجهي تعبير المعاناة. حسنا، المسكين أليساندري، قال الجنرال بينوشيه ونظر إلي مليا. آه، بالطبع، قلت أنا. هل تفهمني الآن؟ أفهمك يا سيدي الجنرال، قلت.
هل تتذكر مقالا لأليساندري؟ شيئا كتبه هو بمفرده وليس أحد الكتاب من الباطن؟ لا أعتقد يا سيدي الجنرال، غمغمت. بالطبع لا، لأنه لم يكتب أي شيء مطلقا. ويمكن قول الشيء نفسه عن فراي وأليندي. لم يكنوا يقرأون ولا يكتبون. كانوا يدعون أنهم مثقفون، لكن لا أحد من الثلاثة كان يقرأ أو يكتب، لم يكونوا رجالا للكتب، على الأكثر كانوا رجالا للصحافة. بالطبع سيدي الجنرال، لو رأينا الأمر من هذه الزاوية، قلت مبتسما بأريحية. وفي تلك اللحظة سألني الجنرال: كم كتابا تعتقد أنني كتبت؟ فقدت النطق، قلت لفارويل. لم تكن لدي أدنى فكرة. ثلاثة أو أربعة، قال فارويل بثقة. على أي حال أنا لم أكن أعرف هذا. وكان علي أن أعترف بهذا. ثلاثة، قال الجنرال. في الواقع لقد نشرت دائما في دور نشر غير معروفة، أو في دور نشر متخصصة. لكن اشرب شايك يا أبت، سوف يبرد. أي خبر مدهش، أي خبر جيد، قلت. حسنا إنها كتب عسكرية، في التاريخ العسكري، الجغرافيا السياسية، أمور لا تهم سوى المتخصصين في هذه الموضوعات. هذا رائع، ثلاثة كتب، قلت بصوت مبحوح.