بوتين يتعثر في جبهتي القتال والطاقة

تسير أوروبا وأوكرانيا بخطوات بطيئة لكنها مثمرة، ففي حين تتجه الدول الأوروبية نحو إيجاد بدائل للغاز الروسي، تحرز القوات الأوكرانية تقدما على الأرض، ما يجعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام حرب استنزاف تبعثر مخططاته العسكرية وأيضا في مجال الطاقة في وقت يعجز فيه عن اتخاذ خطوات أكبر من شأنها تهديد أمن المنطقة بأكملها وفي مقدمتها روسيا.
موسكو - حقق الهجوم الأوكراني المضاد للغزو الروسي تقدما ملموسا، حيث استعادت كييف مناطق يتجاوز مجموع مساحتها ثلاثة آلاف كيلومتر مربّع هذا الشهر في شمال شرق البلاد. وهو ما يكشف عن ضعف المخططات القتالية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وأفاد الجنرال الأوكراني فاليري زالوجني في بيان على وسائل التواصل الاجتماعي أنه “منذ مطلع سبتمبر، عاد أكثر من 3 آلاف كيلومتر مربع إلى السيطرة الأوكرانية. وفي محيط خاركيف، بدأنا التقدّم ليس في الجنوب والشرق فحسب، بل أيضا باتّجاه الشمال. نحن على بعد 50 كيلومترا عن الحدود”.
ويفيد تقرير لموقع أويل برايس الأميركي أنه ورغم أن الهجوم الأوكراني المضاد لم يحقق تقدما كبيرا في الجنوب، لكنه لا يزال يشير إلى نقطة تحول حاسمة للحرب، حيث لا يمكن لروسيا أن تأمل في الفوز من خلال التمسك بنمط حرب الخنادق ومبارزات المدفعية.
واقترح بعض المعلقين “الوطنيين” أن فشل الهجمات الأوكرانية سيمهد الطريق لهجوم روسي جديد على ميكولايف وأوديسا، لكن القيادة العليا في الكرملين لا تثير البتة مثل هذه التخيلات الإستراتيجية (سفوبودنايا بريسا، 3 سبتمبر).
ومكّن الهجوم الصيفي الروسي من الاستيلاء على سيفيرودونيتسك وليسيتشانسك من خلال الاعتماد الكثيف على الموارد المادية والكتائب. ولا تنبئ النتائج المحققة من خلال هذا الهجوم باحتمال تحرك جديد. وفي المقابل، اعتمدت القوات الأوكرانية بشكل أكبر على الضربات بعيدة المدى جيدة التوجيه واستغلال نقاط الضعف في دفاعات القوات الروسية المليئة بالثغرات.
الاستخدام المكثف لصادرات الطاقة كأداة سياسية يجلب المزيد من المشاكل لصناعة النفط والغاز الروسية
وجاء في تقرير الموقع نقلا عن مؤسسة جايمس تاون، أن المنطق الإستراتيجي يفرض انسحابا روسيا من المواقع المكشوفة الواقعة غرب نهر دنيبرو، لكن الطموحات السياسية التي لم يحدّ منها إجهاد القوة العسكرية تدفع إلى الاحتفاظ بخيرسون بأي ثمن.
وبدأت القوات المسلحة الروسية مطلع سبتمبر مناورات فوستوك 2022 الإستراتيجية في الشرق الأقصى. وحضر الرئيس فلاديمير بوتين العرض العسكري بالقرب من فلاديفوستوك في السادس من سبتمبر.
وتراجع حجم التدريبات بشكل كبير مقارنة بفوستوك 2018، لكن الهدف يكمن في إظهار مدى توفر الاحتياطيات والموارد لحرب طويلة في أوكرانيا.
وفي أجزاء مختلفة من التدريبات، طاردت القوات الروسية غواصة معادية في بحر اليابان بالاشتراك مع سرب سفن من البحرية الصينية، وصدت هجوما برمائيا على جزر الكوريل، واعترضت هجوما صاروخيا ضخما. وتثبت هذه التدريبات استعداد موسكو لأداء مهام أكثر تعقيدا من قصف المدفعية في مسرح أوكرانيا.
لكن حجم الإنفاق على الأصول الرئيسية، وخاصة الصواريخ بعيدة المدى، خلال الأشهر الستة من القتال العنيف يتجاوز قدرة المجمع الصناعي الدفاعي الروسي على استبدال الإمدادات بشكل مناسب. كما برز أن الأداء الحي للقوات الروسية كان أقل أهمية بشكل خطير مقارنة بالتدريبات المخطط لها، فلم تبهر شركاء الكرملين الصينيين، من بين آخرين.
وقد ترغب روسيا في إثبات أن آليتها العسكرية يمكن أن تعمل لعدة أشهر، إن لم يكن لسنوات، تحت ضغط العقوبات الغربية. ومع ذلك، فإن انهيار سلسلة التوريد واضح للغاية، ولا يمكن تمويه الاستخدام المتزايد لأنظمة الأسلحة السوفيتية القديمة.
إن تحذيرات موسكو لحلف الناتو والولايات المتحدة بشأن خطر أن يصبحا طرفا في النزاع إذا استمرا في تزويد أوكرانيا بأسلحة هجومية بعيدة المدى أصبحت أقل مصداقية بشكل متزايد مع كل تكرار لهذا التحذير.
ويبقى السبيل الوحيد للتصعيد الذي يبدو أن بوتين حريص على اتباعه هو خفض صادرات الطاقة إلى الاتحاد الأوروبي، ويُنظر إلى الإغلاق غير المحدود لخط أنابيب الغاز نورد ستريم 1 في أواخر أغسطس على أنه خطوة ستحول مخاوف المستهلكين الأوروبيين إلى ذعر.
وأصبح الضغط شديدا بالفعل. ولكن الاتحاد الأوروبي يواصل انتقاله في مجال الطاقة بعيدا عن روسيا بدلا من التوسل للتوصل إلى حل وسط، ويستعد لفرض حد أقصى لسعر النفط والغاز الروسيين وهو اقتراح يتخطى “خطا أحمر” مؤكدا في سياسة الطاقة في موسكو.
ويشير التقرير إلى أن الاستخدام المكثف لصادرات الطاقة كأداة سياسية يجلب المزيد من المشاكل لصناعة النفط والغاز الروسية التي تعاني بالفعل من العلاقات المقطوعة مع الشركاء الغربيين وشركات الخدمات.
ويوضح أن هذه المشاكل تسبب مخاوف حادة بين نخب رجال الأعمال الروسية التي واجهت عقوبات شخصية.
وساهمت الوفاة المسترابة لرئيس شركة لوك أويل الروسية رفاييل ماغانوف الذي عُثر على جثته صباح الأول من سبتمبر بعد سقوطه من نافذة في الطابق السادس لمستشفى مرموق، في تسليط الضوء على هذه القضايا.
وليس من الواضح ما هي “الخطوط الحمراء” التي كان من الممكن أن تتجاوزها شركة لوك أويل، وقد سبق أن عثر على مدير كبير آخر لهذه الشركة ميتا في مايو، ولكن الشائعات في الكرملين تشير إلى خمس حالات وفاة غامضة لمديرين تنفيذيين من الشركات التابعة لشركة غازبروم في وقت سابق من هذا العام. ويشعر المليارديرات في موسكو بالتوتر. وعلى سبيل المثال، اختار روبن فاردانيان الأسبوع الماضي مغادرة روسيا والتخلي عن جنسيته الروسية.
وحدّت الحرب الراكدة من النفوذ السياسي لما يسمى بـ”الأوليغارشية”، لكنها منحت امتيازات جديدة وحرية كاملة للمسؤولين التنفيذيين في النظام الروسي، وخاصة جهاز الأمن الفيدرالي. ولم يجرؤ أحد على التشكيك في استكمال جهاز الأمن الفيدرالي الروسي السريع بشكل واضح لتحقيقه في السيارة المفخخة التي أودت بحياة داريا دوغين، مع إلقاء اللوم بشكل مباشر على المخابرات الأوكرانية. وفي الواقع، أصبح أبوها الفيلسوف اليميني المتطرف ألكسندر دوغين مصدر إزعاج للكرملين بدعوته إلى التخلي عن “عملية عسكرية خاصة” وتعبئة البلاد لشن حرب شاملة ضد أوكرانيا والغرب المعادي.
الاتحاد الأوروبي يواصل انتقاله في مجال الطاقة بعيدا عن روسيا بدلا من التوسل للتوصل إلى حل وسط، ويستعد لفرض حد أقصى لسعر النفط والغاز الروسيين
ومن الأسهل بكثير على جهاز الأمن الفيدرالي الروسي تأديب المنتقدين والمدونين “الوطنيين” الذين أصيبوا بخيبة أمل في غياب رد قوي على الهجمات الأوكرانية على القرم من قمع المعارضة الروسية الحقيقية المناهضة للحرب التي تجمعت في منتدى روسيا الحرة في فيلنيوس بليتوانيا الأسبوع الماضي.
ولن يعيد تصنيف المؤلفين المشهورين مثل ديمتري بيكوف، وموسيقيي الروك مثل أندري ماكاريفيتش على أنهم “عملاء أجانب” كابوس الخوف الذي بَدّدَه ميخائيل غورباتشوف منذ أكثر من ثلاثة عقود.
ويجسد غورباتشوف بالنسبة إلى بوتين، الذي اختار عدم حضور جنازته، القيادة الضعيفة التي أدت إلى الفوضى. ومع ذلك، فإن محاولة بوتين الخاصة لإرساء قيادة حازمة تعيد لروسيا عظمتها قد أطلقت العنان لأزمة تهدد وجود الدولة الروسية. وفي الوقت الذي حاول فيه غورباتشوف شق طريق نحو مستقبل غير عنيف، كان بوتين يرسم مسارا إلى ماضي “القوة التي تصنع الصواب”، وكانت خياراته كلها سيئة وتدفع بوضوح في اتجاه الطريق المسدود. ويخشى بوتين إظهار الضعف من خلال الانسحاب الضروري من خيرسون بعد سلسلة من النكسات.
ويوضح التقرير أن روسيا لا تملك مع اقتصادها المتدهور أي فرصة أمام الغرب المصمم وأوكرانيا المتحدية في حرب الاستنزاف. ويشمل التصعيد عن طريق إصدار أوامر بالتعبئة الاقتصادية والاجتماعية الكاملة مخاطر كبيرة تتمثل في انهيار الاستقرار الداخلي الهش في روسيا. كما قد يأتي أي تصعيد نووي بنتائج عكسية من خلال ردود الولايات المتحدة وحلف الناتو غير المتكافئة ولكن القاسية والرفض الصيني. ويفضل بوتين تأجيل الخيارات الصعبة حتى فوات الأوان مثل غيره من القادة الضعفاء.