"تيكاد" يرسّخ الالتفات الياباني نحو أفريقيا

اليابان وبعد أن كانت الشريك التجاري الرابع لبلدان أفريقيا جنوب الصحراء في عام 2004، لم تعد حتى من بين أكبر عشر دول استثماراً في القارة، وتجاوزتها دول أخرى مثل الإمارات العربية المتحدة وسويسرا والهند.
تونس - خطة استثمار كبيرة مدتها ثلاث سنوات بقيمة 30 مليار دولار لأفريقيا، أعلنت عنها اليابان في ختام الدورة الثامنة لمؤتمر طوكيو الدولي حول التنمية الأفريقية ”تيكاد 8“ الذي عقد في تونس في 27 و28 أغسطس الماضي، في سعي حثيث من طوكيو إلى إعطاء دفعة جديدة لسياستها الأفريقية الجديدة.
اليابان بذلك لا تدشّن علاقاتها مع أفريقيا، بقدر ما تعود إلى نهج دأبت عليه عبر القرون الماضية، يعود إلى نهاية القرن السادس عشر، وقد تعرّضت تلك الاستثمارات اليابانية في القارة السوداء لانكفاءة كبيرة بسبب تموضع اليابان في الحرب العالمية الثانية، وخروجها بخسارة كبيرة أثرت على مكانتها الاقتصادية العالمية.
مع انهيار جدار برلين مطلع التسعينات، لم تضيع اليابان الوقت، فانخرطت مجدداً في الساحة الأفريقية، وانطلقت النسخة الأولى من ”تيكاد” في عام 1993، ثم أعقبته ثلاثة مؤتمرات أخرى كل 5 سنوات. حيث تم الاتفاق على دورية القمة كل ثلاث سنوات، بالتناوب بين أفريقيا واليابان.
حمدي عبدالرحمن أستاذ العلوم السياسية بجامعة زايد، والباحث في مركز المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة تتبع الشهية اليابانية المفتوحة للاستثمار في أفريقيا، متسائلاً عمّا يريده اليابانيون من أفريقيا من جهة، وما تريده أفريقيا منهم من جهة ثانية.
أسبقية بلا صدارة

ويرى عبدالرحمن أن الافتقار إلى نتائج ملموسة من المعونة بعد نهاية حقبة الحرب الباردة، إلى جانب الركود الاقتصادي للبلدان المتقدمة، تسببا في إرهاق البلدان المانحة وعدم الرغبة في دعم أفريقيا. في ذلك الوقت، كانت الحكومة اليابانية تبحث عن طرق جديدة لزيادة مساهمتها في الشؤون العالمية. بحلول عام 1989، أصبحت اليابان، التي كانت آنذاك في ذروة ازدهارها الاقتصادي، أكبر مساهم في المساعدات الانمائية الرسمية على الصعيد العالمي. وفي هذا السياق، ظهرت فكرة ”تيكاد“ الذي يطمح إلى تعزيز حوار السياسات رفيع المستوى بين القادة الأفارقة وشركاء التنمية، وحشد الدعم لمبادرات أفريقيا للتنمية المعتمدة على الذات.
ويتم تنظيم هذا المؤتمر اليوم بالاشتراك ما بين اليابان ومفوضية الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة وبرنامج الأمم المتحدة الانمائي والبنك الدولي. وبه افتتحت اليابان طريقاً سوف تسلكها كل من الصين والهند وتركيا والولايات المتحدة وأخيراً روسيا قبل ثلاثة أعوام.
ورغم هذه الأسبقية اليابانية فإنها ليست في مركز الصدارة في السباق على السوق الأفريقية لبعدها عن مسار الفاعلين الكبار في اقتصاد هذه القارة. علاوة على عامل ذاتي تمثل في تراجع اليابان نفسها عن بعض المكتسبات التي حققتها في السابق؛ وبعد أن كانت الشريك التجاري الرابع لبلدان أفريقيا جنوب الصحراء في عام 2004، لم تعد حتى من بين أكبر عشر دول استثماراً في أفريقيا وتجاوزتها دول أخرى مثل الإمارات العربية المتحدة وسويسرا والهند.
إلا أن هيكل ”تيكاد“ يبدو فريداً من نوعه، فهو منصة مفتوحة ومتعددة الأطراف، لا تقتصر على أفريقيا واليابان فحسب، بل يمكن للمجتمع الدولي أيضاً مناقشة سبل تعزيز ودعم تنمية أفريقيا من خلالها.
اليابان تمتلك 796 شركة في أفريقيا، معظمها يتركز بجنوب أفريقيا. مقابل 2500 شركة صينية في أنحاء القارة
أهداف ومصالح اليابان مما سماه عبدالرحمن ”هجوما ناعماً لها على أفريقيا يمكن اختزالها في عناصر محددة؛ أولها كسب الأصوات الأفريقية في الأمم المتحدة، فقد كانت اليابان تسعى إلى زيادة مكانتها الدولية وكانت تهدف إلى الحصول على مقعد دائم في عضوية مجلس الأمن الدولي. وللقيام بذلك، كانت بحاجة إلى دعم الدول الأفريقية التي كانت طوكيو تأمل في الحصول عليها مقابل المساعدة المالية التي تم التفاوض عليها خلال هذه القمم”.
تلي ذلك رغبة طوكيو في اللحاق بالفاعلين الآسيويين والغربيين الآخرين في السوق الأفريقية، فعندما بدأت البلدان الأفريقية تشهد نمواً قوياً في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مدفوعاً بالاستثمارات الصينية والهندية والغربية، عندئذ أدركت اليابان أنها تفتقد المحرك الذي يعيدها مرة أخرى إلى مقدمة السباق الأفريقي. منذ ذلك الوقت تحاول اليابان أن تلقي بظلالها على الصين تحديداً في أفريقيا.
ويبدو دمج أفريقيا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة من ضمن رؤية رئيس الوزراء الراحل شينزو آبي الذي تعمد ترسيخ أفريقيا في إستراتيجية اليابان الواسعة للمنطقة. ويعتمد هذا المفهوم على ثلاث ركائز أساسية هي نشر وإرساء سيادة القانون وحرية الملاحة والتجارة الحرة، والسعي إلى تحقيق الازدهار الاقتصادي، وضمان السلام والاستقرار.
وأخيراً سعت طوكيو في ظل حكومة شينزو آبي إلى الانتقال من سياسة تركز على المساعدة الانمائية الرسمية، التي تتقلص ميزانيتها باستمرار، إلى نهج قائم على الاستثمار الخاص. لذلك، كانت تعبئة مجتمع الأعمال الياباني عاملاً أساسياً لتوسيع الوجود الاقتصادي الياباني في هذا السوق الواعد، ولكن أيضاً للاستمرار في تأمين موارد الطاقة والموارد المعدنية الإستراتيجية.
"تيكاد" تونس

تناول إعلان تونس لقمة تيكاد الثامنة مجالات التعاون الثلاثة الرئيسية لليابان مع أفريقيا، عبر تسريع النمو مع الاستثمارات في الاقتصاد الأخضر والمشاريع الناشئة؛ وخلق “اقتصاد مرن” مع دعم إنتاج الأدوية واللقاحات بالإضافة إلى تعزيز الأمن الغذائي؛ والوصول إلى “السلام والأمن” من خلال دعم الوساطة ومنع النزاعات.
رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا كان قد تعهد عبر اجتماع الفيديو في 27 أغسطس الماضي، أثناء قمة ”تيكاد“ بتونس، بأن بلاده ستستثمر 30 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات في أفريقيا، وهو رقم ليس ببعيد عن الأربعين مليار دولار من القروض التي وعدت بها الصين، المنافس الإقليمي الكبير لليابان في أفريقيا. ومع ذلك واقعياً، يبدو أن هناك فجوة بين الوعود اليابانية والواقع. إذ يعتقد بعض المحاورين الأفارقة أن اليابانيين يتحدثون كثيراً لكنهم لا يفعلون سوى القليل. بعبارة أخرى، لا تتحقق دائماً وعود الاستثمار بمليارات الدولارات. وعليه فإن منافسة اليابان للصين في أفريقيا تبدو غير ذات مصداقية.
لم يخف كيشيدا مطامع اليابان في “معالجة الظلم التاريخي” لأفريقيا للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي، وقال إن بلاده ستدفع في هذا الاتجاه عندما تكون عضواً غير دائم في عام 2023 – 2024. وقد أكد هذا الموضوع بإسهاب مطول الرئيس السنغالي والرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي ماكي سال، الذي قال إن “العقليات تتغير وإن ما يزعزع استقرار أفريقيا ويمنعها من التطور يجب أن يأخذه مجلس الأمن بعين الاعتبار”.
طوكيو لا تمتلك قدرات بكين نفسها في أفريقيا، من حيث حجم المساعدات والاستثمار والتجارة، أو حتى من حيث عدد المغتربين
ثم يأتي دور مشاركة اليابان في جهود السلام والأمن الأفريقي بتوجيه نسبة من الأموال الخاصة والعامة لأفريقيا على مدى ثلاث سنوات، إلى مكوّن السلام والأمن وتدريب ضباط الشرطة، والمساعدة في تنظيم الانتخابات وأمن الحدود. كما سيتم تخصيص مساعدات ملموسة بقيمة 8.3 مليون دولار على وجه الخصوص لمنطقة الساحل في المثلث الحودي ليبتاكو غورما، بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر، والتي دمرتها الهجمات الإرهابية العنيفة.
الجديد أيضاً أن اليابان قرّرت تعيين مبعوث لها للقرن الأفريقي، نظراً إلى تدهور الأوضاع هناك مع تدفق اللاجئين ونقص الغذاء بسبب الجفاف وتغير المناخ الأفريقي.
ما يقف في وجه الطموح الياباني في أفريقيا هو تصور الشركات اليابانية للقارة على أنها تمثل بالنسبة إلى هذه الشركات مكاناً بعيداً جغرافياً وثقافياً محفوفاً بالمخاطر. أما العامل الثاني فهو أن أفريقيا ليست هدفاً ذا أولوية عالية لمجتمع الأعمال الياباني الذي يعمل بشكل أساسي في آسيا والولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والشرق الأوسط. كما أن أفريقيا موضوع تنافس للقوى الدولية، لاسيما الدول الغربية والصين وروسيا.
ولو وضعنا الصين في المقارنة مع اليابان في هذا السباق، فإنه يمكن القول إن هذا التنافس”غير متكافئ”، فطوكيو لا تمتلك قدرات بكين نفسها في أفريقيا، من حيث حجم المساعدات والاستثمار والتجارة، أو حتى من حيث عدد المغتربين، إذ يعيش 8 آلاف ياباني في أفريقيا مقابل نحو 2 مليوني صيني.
لن يكون التركيز على المهارات والتعليم كافياً لتكرار النموذج الياباني أو حتى تكييفه في أفريقيا، بينما يرى الكثير من الأفارقة أنه إلى جانب تعهدات مؤتمرات ”تيكاد“، يتعين على اليابان الحفاظ على المصالح السياسية والاقتصادية طويلة الأجل في أفريقيا وتطوير خبرتها في القضايا الأفريقية.