طمأنة مصر ومساعدات السعودية

حدثني صديق عربي عما كتبته في “العرب” عدد الأربعاء (06 – 09 – 2022) بعنوان “مصر والسعودية علاقة إستراتيجية فقدانها يمثل خسارة للطرفين”، وأبدى تقبله للمنطق النهائي الذي استند عليه التحليل، لكن رآه غير كاف لتصويب العلاقات واعتمد على تفسير ما أطلقت عليه سحابة صيف دون الغوص في ما يجب أن يقوم به كل طرف لتستقيم العلاقة طويلا ولا تهتز بخلاف في وجهات النظر أو تباين في تقديرات سياسية.
كانت ملاحظة الصديق جيدة وفي محلها وتوقيتها ووعدته بالاستجابة لنصيحته والاجتهاد في تقديم تحليل لما يوصف بطمأنة مصر لمخاوف سعودية تعتمل لدى قيادتها، وما هو مطلوب من الرياض لتقديمه إلى القاهرة ومعظمه ينصبّ على مسألة المساعدات الاقتصادية في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها النظام المصري.
يدار جزء كبير من العلاقات بين البلدين في الخفاء ولا تخرج الخلافات إلى العلن غالبا ما يجعل الجزء الغاطس فيها يصعب الوصول إليه عبر المصادر الرسمية، لكن السياقات العامة في بعض المحكّات السياسية المهمة في هذه الحالة تتكفل بتفكيك ما هو مجهول وتجعله أشبه بالمعلوم.
أصبح الفتور من السهولة استشفافه من خلال وسائل الإعلام في البلدين وما يظهر على معظمها من برود في بعض المعالجات التي تخصّ كل طرف، ومواقع التواصل الاجتماعي التي لا تترك كبيرة أو صغيرة في المتغيّرات التي تطرأ على العلاقات بين الدولتين إلا وتوقفت عندها، فضلا عن الجمود في الزيارات واللقاءات الرسمية.
كشفت السنوات الماضية عن تغير كبير في آليات إدارة العلاقة، وأن القواعد التي جرى تأسيسها بموجب أن مصر تمثل رصيدا أمنيا وسياسيا للسعودية، وأن الثانية ركيزة اقتصادية مهمة للأولى منح البعد الإستراتيجي في العلاقة أهمية فائقة.
لدى السعودية فرصة كبيرة لتوطيد العلاقة مع مصر في الوقت الحالي إذا قدمت لها مساعدات سخية تمكّنها من تخطي الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها
لن أخوض في المتغيرات تفصيليا فقد تم التعرض لها في مقالات سابقة، والفكرة الجوهرية هنا تنصبّ على تحديد طبيعة التطمينات المطلوبة سعوديا وتلك التي تستطيع مصر تقديمها بالفعل وحجم المساعدات التي تحتاجها، والحدود التي يمكن أن تذهب إليها الرياض وبأيّ طبيعة أو وظيفة اقتصادية، كي لا تصبح العلاقة رهينة لمد وجذر من حين إلى آخر، وسوء فهم حقيقي أو مفترض بين الطرفين.
تحتاج السعودية معرفة موقف مصر من إيران والأذرع التابعة لها في المنطقة بدءا من الميليشيات والأحزاب العراقية وحتى حركة أنصارالله في اليمن، مرورا بحزب الله اللبناني، حيث ترى الرياض أن القاهرة تتبنى موقفا مطاطيا ويعتمد على الرمادية، وتعتقد في ضرورة أن تصبح متوافقة مع الرياض في هذه القضية وعليها ارتداء اللون الأسود الذي يعتبر عنصرا مركزيا في الذهاب إلى مدى مرتفع من التفاعل الإستراتيجي.
تبتعد حسابات مصر في هذه المسألة عن السعودية من زوايا عدة، لا ترتبط بالنظام الحاكم حاليا في القاهرة، فقد ظلت العلاقة مع طهران في أوج سنوات الخصومة معها تحتفظ بخط رجعة لم يقدم عليه أيّ من الرؤساء سوى الرئيس الإخواني محمد مرسي الذي بالغ في الانفتاح عليها لأسباب أيديولوجية، ولم يستمر ذلك أكثر من عام.
ترى الرياض في هذه المراوحة أحد عناصر القلق الإقليمي، بينما تراها القاهرة ورقة رابحة سياسيا لأن إيران دولة كبيرة ومن المهم ألا تفرط فيها، فإن لم تكن لها فوائد مباشرة لمصر فعلى الأقل لا تراكم خصومها، حيث أثبتت تجربة العداء مع تركيا في توقيت بالغ الحساسية مدى الفداحة مع أن مصر تمكنت من عبورها مؤخرا.
كما أن القاهرة تتعجب من مطالبتها بموقف صارم من طهران بينما الرياض نفسها لا تعدم وسائل الحوار معها، سرّا وعلنا، وهو ما كان كابحا لبعض التقديرات التي ذهبت إلى أن طمأنة السعودية لن تحدث قبل موقف واضح من العلاقات بين مصر وإيران وتحركات حاسمة حيال تصرفاتها في المنطقة تتجاوز حدود الإدانة الجماعية التقليدية التي تباركها القاهرة في المؤتمرات العربية.
انتبهت القيادة المصرية مبكرا إلى حجم التحولات في العلاقات الدولية بشأن إمكانية انفتاح قوى مختلفة وإجراء حوارات مع خصوم ومنافسين وربما أعداء، وهذا لا يعني تطبيعا أو قبولا بالآخر أو تأييدا له.
القيادة المصرية انتبهت مبكرا إلى حجم التحولات في العلاقات الدولية بشأن إمكانية انفتاح قوى مختلفة وإجراء حوارات مع خصوم ومنافسين وربما أعداء، وهذا لا يعني تطبيعا أو قبولا بالآخر أو تأييدا له
في شأن العلاقات مع إيران لن تصل مصر إلى مستوى ما وصلت إليه الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية التي تصرخ في وجه طهران وتوجه لها اللعنات واللطمات بالنهار ثم تسعى لاسترضائها في الليل للقبول بالاتفاق النووي.
تستطيع القاهرة أن تطمئن الرياض بأنها لن تنحاز إلى طهران على حسابها، وهو ما يحدث منذ فترة بلا تعهدات مكتوبة، فكثيرا ما ردد بعض المسؤولين الكبار في مصر سرا أن الكابح الرئيسي لتطوير العلاقات مع إيران هو الحرص الإستراتيجي على عدم تعكير الأجواء مع دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية.
إذا تفهمت الرياض هذه المعادلة ورسالتها السياسية العميقة تكون قد ضمنت انحياز القاهرة لها على الدوام ولا تجعل من هذا الملف حاجزا يمنع الحفاظ على متانة العلاقة الإستراتيجية بين البلدين، ومهما تمادت مصر في درجة الرمادية لن تتحول إلى لون أسود أو أبيض بشأن إيران لأسباب خاصة بالقاهرة قبل أن تكون خاصة بالرياض.
لدى السعودية فرصة كبيرة لتوطيد العلاقة مع مصر في الوقت الحالي إذا قدمت لها مساعدات سخية تمكّنها من تخطي الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها، وهو رهان كبير، لأن الموقف السعودي عقب سقوط الإخوان كان وازنا ومنع الكثير من الضربات التي كانت ستتعرض لها القاهرة من قوى دولية، واعترف الرئيس عبدالفتاح السيسي أكثر من مرة بأهمية المساعدات النوعية التي قدمتها الرياض لبلاده.
قد تكون هناك تحفظات سعودية على طريقة الإنفاق المصرية لما قدمته من مساعدات خلال السنوات الماضية، وأن عوائدها السياسية بالنسبة إليها لم تكن مرضية، ما دفعها لتغيير الآلية وتحويلها من منح ومساعدات إلى استثمارات، بما يحوّلها إلى ورقة ضغط عند اللزوم إذا وجدت الرياض أن القاهرة لم تتجاوب بالدرجة الكافية مع تطلعاتها.
يبدو أن السياسة الاقتصادية الجديدة هي المقابل للورقة الإيرانية التي تمتنع مصر عن التفريط فيها لأسباب لا علاقة لها بالسعودية، وإذا قبل الطرفان بوضوح بهذا التوازن وحافظا عليه في الحدود التي تقوّي العلاقة بينهما ولا تضعفها، يمكن حل الكثير من الألغاز التي تظهر وتختفي فجأة، لأن التفاصيل التي تلوكها مواقع التواصل تحصر الخلاف دائما في شق المكايدات، وهو اجتهاد غير دقيق وبعيد عن الحقيقة.
ولذلك فالمصارحة الفورية في عمليتي الطمأنة والمساعدات هو العنوان الذي يمّكن البلدين من تجاوز شرنقة الأزمات المتكررة التي يؤدي تركها وعدم مواجهتها إلى تقويض العلاقات الإستراتيجية في وقت أشد ما يحتاج فيه كل طرف إلى الآخر.