روسيا تحوّل إيطاليا إلى ساحة معركة جديدة

يضع سائقو الشاحنات الكبيرة المحمّلة بالبضائع والتي تجوب أوروبا لوحات على عرباتهم تكيل الشتائم إلى فلاديمير بوتين، فقد أصبح الرئيس الروسي الشبح الذي يقلق منام الجميع كلما اقترب الشتاء، وكلما اقتربت أي مناسبة قد تؤثر على الاتجاه السياسي والإداري لأي دولة من دول أوروبا. وفي إيطاليا تصاعدت المخاوف من لجوء روسيا إلى أداة ضغط جديدة قد تؤثر على مجريات الانتخابات البرلمانية الوشيكة، والتي ستكون حاسمة في تحديد طبيعة العلاقة مع روسيا.
روما - يعتقد الإيطاليون أن روسيا قد تلجأ إلى استخدام المهاجرين غير النظاميين القادمين من شرقي ليبيا لإغراق البلاد في فوضى من الممكن أن تضع الناخبين تحت ضغط اتهام الحكومة الحالية بالفشل في إدارة البلاد وإيقاف الهجرة غير الشرعية وتدهور الأوضاع الاقتصادية.
ويؤكد تقرير اللجنة البرلمانية لأمن إيطاليا ”كوباسير“ وجود علاقة وثيقة بين ازدياد عدد المهاجرين الذين يغادرون إقليم برقة شرقي ليبيا، وبين إستراتيجية الكرملين الشاملة للضغط على دول الاتحاد الأوروبي لاسيما التي تمر بمرحلة انتخابات.
إقليم برقة تسيطر عليه قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وتورد تقارير متضاربة أنباء عن نفوذ واسع فيه لمرتزقة شركة “فاغنر” الروسية.
دور فاغنر
صحيفة “لا ريبوبليكا” الإيطالية كانت قد تحدثت في وقت مبكر، وقبل التقرير البرلماني، عن دور محتمل لـ”فاغنر“ في تشجيع موجات الهجرة التي تتدفق نحو الشواطئ الإيطالية انطلاقاً من سواحل ليبيا الشرقية، وهو نشاط مستجد لم يكن في السابق معبرا ملائماً للمهاجرين غير الشرعيين بسبب بعده الجغرافي، على النقيض من السواحل الغربية للبلاد، والممتدة من زليتن شرقا إلى زوارة في أقصى الغرب، مروراً بالقره بوللي والزاوية وصبراتة التي عادةً ما تشهد أكثر عمليات الهجرة غير النظامية نحو السواحل الجنوبية لإيطاليا، ما زاد من الشكوك حول هذا النشاط غير المسبوق.
وتدعم الأجهزة الأمنية الإيطالية الاعتقاد بوجود دور لـ”فاغنر“ في ارتفاع نسبة المهاجرين من شرق ليبيا بالتزامن مع استعداد البلاد للدخول في انتخابات مبكرة.
أما الحكومة الإيطالية فتنفي وجود علاقة بين ملف المهاجرين من شرقي ليبيا وبين ”فاغنر“ وسعيها للتأثير على الانتخابات، ويقول وكيل وزارة الداخلية الإيطالية نيكولا مولتيني إنه “منذ بداية العام إلى غاية 29 يوليو الماضي وصل 21 ألفا و507 مهاجرين من ليبيا إلى إيطاليا”، موضحاً أن “أقل من 4 آلاف مهاجر منهم جاؤوا عبر سواحل برقة بينما انطلق الآخرون من إقليم طرابلس”.
غير أن أصحاب الرأي المؤيد لاتهام ”فاغنر“ بمحاولة التأثير على الانتخابات يردون بأن مولتيني ما هو إلا قياديّ في حزب ”الرابطة“ الإيطالي اليميني المتطرف الذي يتزعمه رئيس الوزراء الأسبق ماتيو مالديني، وأن تصريحه هذا تصريح سياسي ولا يمثّل حكومة ماريو دراغي المكلفة بتصريف الأعمال، فمن مصلحة اليمين أن يتدفق المهاجرون عير النظاميين على إيطاليا، لأن تنامي هذه الظاهرة سيعزز الخطاب الشعبوي المتطرف الذي يعتمدون فيه على كراهية الأجانب وسيلة لكسب المزيد من الأصوات في صناديق الاقتراع.
حروب روسيا المختلطة
اللجنة البرلمانية أشارت إلى أن ضغط الهجرة يعدّ اليوم إحدى وسائل الحرب المختلطة لروسيا في محاولة لخلق إستراتيجية حقيقية للفوضى.
”الحرب المختلطة” التي تتحدث عنها إيطاليا هي حرب تتهم دول أوروبا روسيا بشنها بشكل واسع، وتشمل حصار موانئ تصدير الحبوب الأوكرانية وتقليص إمدادات الغاز، ثم استعمال ورقة المهاجرين لإحداث فوضى في الدول الأوروبية.
"الحرب المختلطة" التي تتهم أوروبا روسيا بشنها عليها تشمل حصار موانئ تصدير الحبوب وتقليص إمدادات الغاز
وقد تعمد روسيا إلى تأجيج الصراع في ليبيا لزيادة تهديد الخاصرة الجنوبية الرخوة لأوروبا، ومن المحتمل أن تحول النفط الليبي إلى سلاح إضافي.
الشتاء البارد هو ما تراهن عليه روسيا لما يطيب للمحللين وصفه بـ ”تركيع الأوروبيين“ عبر تقليص أو حتى وقف إمدادات الغاز، لإجبارهم على وقف دعم الأوكرانيين بالسلاح والمساعدات وإنهاء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
ورغم نفي الكرملين لذلك، إلا أن موسكو تبقى تراهن على فوز الأحزاب اليمينية في الانتخابات البرلمانية المقبلة في أوروبا، من جهة، ومن جهة ثانية حصول الحزب الجمهوري على الأغلبية في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي، بغرض خلخة الموقف الأوروبي والأميركي من الحرب الروسية في أوكرانيا وكسر طوق العقوبات الغربية على موسكو. ضمن ما تعرف بـ “إستراتيجية روسيا للفوضى” والتي حذّر تقرير اللجنة من أن “إيطاليا تخاطر بأن تكون ضحية محتملة” لها.
ويرجّح ديمتري سوسلوف، مدير مركز الدراسات الأوروبية والدولية في مدرسة موسكو العليا للاقتصاد في تصريح لوكالة الأناضول، أن موقف الغرب الجماعي سيتغيّر أوائل العام المقبل، حيال الدعم العسكري لأوكرانيا والعقوبات على روسيا.
في السنوات الأخيرة وجهت إلى روسيا العديد من الاتهامات بالتدخل في العملية الانتخابية حول العالم، وسبق أن فتحت جهات أمنية وسياسية أميركية تحقيقات رسمية حول ذلك التدخل المحتمل، لاسيما في ما يخص التأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2016، والتي فاز بها الرئيس السابق دونالد ترامب، أمام منافسته هيلاري كلينتون.
علاوة على اتهام روسيا بالضلوع في عملية إسقاط حكومة دراغي بعدما سربت وسائل إعلام محلية معلومات عن عقد سالفيني زعيم حزب الرابطة لقاءات مع مسؤول دبلوماسي روسي كبير في روما خلال الأيام التي سبقت سقوط الحكومة الإيطالية، بالإضافة إلى ما تم كشفه عن إجراء رئيس الوزراء الأسبق سيلفيو برلسكوني اتصالا مطولا مع السفير الروسي عشيّة التحوّل المفاجئ في موقفه، بعد أن كان قد أعلن تأييده الكامل لبقاء دراغي، في رئاسة الحكومة حتى نهاية الولاية التشريعية.
الأوروبيون قلقون من قدرة روسيا على الإطاحة بحكومة ثالث أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، وهنا لا يجب نسيان موقف دراغي الذي يعدّ من الصقور الذين تحمّسوا لفرض عقوبات على روسيا، بعد أن تمكن في فترة وجيزة من تقليص اعتماد بلاده على الغاز الروسي من 40 إلى 25 في المئة في ظرف أشهر قليلة، بفضل اتفاقه مع الجزائر على زيادة إمداداتها من الغاز ومباحثاته مع دول أخرى مثل قطر وأنغولا والكونغو وموزمبيق، وحين تم التضييق عليه، قال وزير خارجيته لويجي دي مايو “إن الذين أسقطوا الحكومة قدّموا رأس دراغي على طبق من فضّة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين”.
قدم دراغي استقالة حكومته في 21 يوليو الماضي، بعد فقدانه الأغلبية في البرلمان، فقرر الرئيس سيرجيو ماتاريلا حل البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة. ودعم تلك الشبهات تأكيد الناطق باسم المفوضية الأوروبية في اليوم الذي سقط فيه دراغي حول معلومات مخابراتية تؤكد قيام روسيا بمحاولات لزعزعة الاستقرار في دول الاتحاد عن طريق التأثير في السياسات الداخلية للدول الأعضاء.
وتميل استطلاعات الرأي إلى فوز الائتلاف اليميني بقيادة حزب “إخوة إيطاليا” الذي تقوده جورجيا ميلوني في الانتخابات المقبلة.
حوّلت روسيا الساحة الإيطالية إلى ساحة نزال مع الولايات المتحدة وأوروبا، وفي حال فازت الأحزاب اليمينية برئاسة الحكومة، فسيعلن بوتين ثاني انتصاراته على أرض أوروبية جديدة، بعد سقوط حكومة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون.