صدام جديد بين مالي وفرنسا يزيد من التوتر في منطقة الساحل

اتهمت السلطات المالية القوات الفرنسية بتسليم أسلحة وذخائر ومعلومات استخبارية إلى الجماعات الإرهابية ونقل قياديين من الإرهابيين، فيما نفت باريس كل تلك التهم.
باماكو - يعتبر انسحاب آخر جندي فرنسي من مالي في 15 أغسطس الجاري بداية أزمة دبلوماسية جديدة بين باريس وباماكو، بعد أن اتهمت الأخيرة القوات الفرنسية بانتهاك مجالها الجوي، بل والتجسس عليها ودعم الإرهاب.
وذهبت باماكو إلى ما هو أبعد من ذلك عندما دعت مجلس الأمن إلى عقد اجتماع طارئ لبحث الانتهاكات الفرنسية المتكررة لمجالها الجوي، والعمل من أجل “وقف فرنسا، على الفور، أعمالها العدوانية ضد مالي".
وتحدثت وزارة الخارجية المالية، في رسالة بعثتها إلى الأمم المتحدة، عن امتلاكها “أدلة موثوقة” على تسليم فرنسا أسلحة وذخائر ومعلومات استخبارية إلى جماعات إرهابية لم تذكرها.
وتضمنت رسالة وزير الخارجية المالي عبدالله ديوب إلى الرئاسة الصينية لمجلس الأمن اسمي القياديين إبراهيم آغ بابا والعقيد أبوطلحة قائد إمارة تمبكتو. وقالت إن مروحية تابعة لعملية "برخان" نقلتهما من غابة أوغريش بمدينة غوندام في ولاية تمبكتو إلى وجهة مجهولة، وذلك ليل 6 ـ 7 أغسطس الجاري.
ولم يحدد ديوب الجماعة المسلحة التي ينتمي إليها آغ بابا وأبوطلحة، رغم أن الأول واضح أنه من الطوارق، سواء من متمردي الأزواد في الشمال أو من تنظيم أنصار الدين بقيادة إياد آغ غالي.

ويعتقد أن أقرب شخص معروف بكنية العقيد أبوطلحة هو أبوطلحة الموريتاني، القيادي في تنظيم القاعدة ببلاد المغرب، والذي يشكل مع جماعة أنصار الدين وكتيبة المرابطين وكتيبة ماسينا تحالف نصرة الإسلام والمسلمين، وينافسه تنظيم داعش الإرهابي في الصحراء الكبرى.
وأصدر الجيش المالي، في نفس اليوم الذي اتهمت فيه باماكو عملية برخان الفرنسية بنقل آغ بابا وأبوطلحة في طائرة عمودية، بيانا أعلن فيه عن توثيق "عمليات سرية وغير منسقة تؤكد أن الإرهابيين استفادوا من دعم كبير وخبرات خارجية". وجاء ذلك عقب سقوط 42 قتيلا والعديد من الجرحى في صفوف الجيش المالي أثناء هجمات متزامنة منسوبة إلى تنظيم داعش، في المثلث الحدودي مع النيجر وبوركينا فاسو.
وقبل ذلك، في نهاية يوليو الماضي، سقط 66 قتيلا على الأقل بعضهم جنود وآخرون مدنيون في هجمات متزامنة لماسينا تبنتها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، أخطرها الهجمة التي استهدفت قاعدة كاتي التي تُعد مقر إقامة العقيد عاصيمي غويتا الرئيس الانتقالي لمالي، وشكل ذلك خرقا أمنيا واستخباريا فادحا للجيش المالي، حاول ربطه بدور لجهات خارجية.
وشنت الجماعات المرتبطة بالقاعدة وداعش خلال أقل من أسبوعين هجمات متزامنة وغير مسبوقة منذ 2012، خلفت عددا كبيرا من القتلى، بالتزامن مع انسحاب آخر الجنود الفرنسيين.
ويرى مراقبون أنه بعد أن كان الحديث عن تلقي الجماعات الإرهابية دعما من جهات خارجية تلميحا إلى فرنسا، أصبح اليوم اتهاما مباشرا لها، بل وطلب من مجلس الأمن التدخل للنظر في الأدلة التي جمعتها باماكو على "الانتهاكات الصارخة للمجال الجوي المالي، استخدمتها باريس لجمع المعلومات لصالح الجماعات الإرهابية العاملة في منطقة الساحل، وإلقاء الأسلحة والذخيرة”، حسب ما جاء في رسالة وزارة الخارجية المالية.
وهددت مالي بتصعيد الضغط الدبلوماسي إلى التهديد بالرد العسكري ضد فرنسا على هذه الانتهاكات، عندما تحدثت عن احتفاظها بحق "استخدام الدفاع عن النفس"، وفق المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
وتنص المادة المذكورة على أنه “ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء (الأمم المتحدة) وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين”. ويعتبر هذا الأمر تهديدا باستهداف المقاتلات والمروحيات الفرنسية وطائرات الاستطلاع المسيرة في حال انتهاكها مجال مالي الجوي.
وجاء أول رد على الاتهامات المالية لفرنسا بدعم الجماعات الإرهابية من سفارة باريس لدى باماكو، في تغريدات عبر حسابها على تويتر في 17 أغسطس، ونفت بشكل واضح جمع معلومات استخبارية لصالح الجماعات الإرهابية أو تقديم أسلحة وذخائر لها.
وقالت السفارة “من الواضح أن فرنسا لم تدعم أبدا، بشكل مباشر أو غير مباشر، هذه الجماعات الإرهابية”. وذكّرت بأن “باريس قامت بتحييد عدة مئات من الإرهابيين في مالي”، وقضت على “شخصيتين تاريخيتين للإرهاب في المنطقة”، في إشارة إلى زعيم داعش بالصحراء الكبرى عدنان أبو وليد الصحراوي، وزعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب عبدالمالك دروكدال.
وعددت السفارة الفرنسية التضحيات التي قدمتها لمالي منذ 2013 حتى 2022، على غرار تحرير عدة مدن من أيدي الجماعات الإرهابية لاسيما تمبكتو وغاو (شمال)، ومقتل 53 جنديا فرنسيا خلال هذه الفترة.
بينما عبّر قائد قوة برخان الجنرال برينو باراتز، في تصريح صُحفي، عن استغرابه من اتهامات مالي بانتهاك سيادتها الجوية، بل اعتبر الأمر “إهانة لرفاقنا الـ59، الذين قتلوا دفاعا عن مالي”.
وأشار باراتز إلى أنه “حتى في وقت فك الارتباط (مع الجيش المالي)، كان هناك اشتباك بين أفراد المجموعة الـ13 (الفرنسية)، ومجموعة من تنظيم داعش في الصحراء الكبرى، ما تسبب في مقتل شخصين في صفوف التنظيم”.
ويعتقد مراقبون أن دور فرنسا في محاربة الإرهاب بمالي لا ينفي استباحتها لأجواء البلاد التي تعاني من ضعف قواتها الجوية، وتغير موقف باريس من باماكو بعد انقلاب عسكري داخل الانقلاب في أغسطس 2020.
◙ مالي هددت بتصعيد الضغط الدبلوماسي إلى التهديد بالرد العسكري ضد فرنسا عندما تحدثت على الدفاع عن النفس
وتتطور العلاقات بين البلدين من سيء إلى أسوأ، بالنظر إلى قرار فرنسا إنهاء عملية برخان دون تنسيق مع الحكومة الانتقالية المالية التي اعتبرت أن باريس تخلت عنها في معركتها ضد الجماعات الإرهابية، وطردت سفيرها، وألغت الاتفاقيات الدفاعية معها، وطالبتها بالرحيل سريعا من أرضها.
وكانت باريس أعلنت أنها ستسحب آخر جندي لها نهاية هذا الصيف، لكن يبدو أنها سرعت العملية بعد مظاهرات قادها العشرات في "غاو" في 14 أغسطس، منحوا خلالها القوات الفرنسية إنذارا لمدة 72 ساعة للرحيل نهائيا من مدينتهم، رافعين عدة شعارات بينها "برخان عرابة الجماعات الإرهابية وحليفتها”، لكن برخان لم تنتظر انتهاء المهلة وغادرت المدينة والبلاد في أقل من 24 ساعة.
وقررت فرنسا نقل جنودها من مالي إلى النيجر المجاورة، حيث سينتشر ثلاثة آلاف عنصر من قوة برخان في تشاد والنيجر. ولا تلقى قوة برخان ترحيبا شعبيا في النيجر، على غرار بقية دول الساحل الأخرى، حيث منعت السلطات مسيرة احتجاجية ضد وجود القوات الفرنسية في بلادهم، كانت مقررة في 17 أغسطس.
وتتجه السلطات الانتقالية بقيادة غويتا إلى تصعيد الصراع مع فرنسا وإحراجها دوليا، مستقوية في ذلك بحليفها الجديد روسيا، التي زودتها مؤخرا بـ5 طائرات حربية ومروحية عسكرية، وذلك لإدراكها أن باريس ستسعى باستغلال نفوذها في المنطقة لإسقاط النظام العسكري في باماكو بكل السبل الممكنة.
ويعتقد أن الصراع بين غويتا وماكرون معركة كسر عظم تحاول من خلالها فرنسا إبراز أنها قوة عظمى ولها كلمتها في غرب أفريقيا، بينما تحاول الحكومة الانتقالية المالية الدفاع عن سيادة البلاد ورفض أي إملاءات فرنسية تذكّرها بالعهد الاستعماري، ما يزيد من شعبيتها ويقوي موقفها في الانتخابات المقررة بعد عامين.