قطاع الكهرباء في ليبيا مجال مربح للفاسدين

أزمة الكهرباء تكشف حجم الفساد في البلاد.
الخميس 2022/07/14
الكهرباء ثاني أفضل مجال للفساد بعد استيراد السلاح

الأموال التي أنفقتها الحكومات الليبية المتعاقبة على "إصلاحات" مرافق الكهرباء تكفي لبناء عدة مفاعلات نووية تنتج أضعاف حاجيات البلاد من الكهرباء، ما يشير إلى حجم الفساد المهول في القطاع الذي يعاني منذ سقوط نظام معمر القذافي.

طرابلس - اعترف رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبدالحميد الدبيبة بأن ما تم إنفاقه من أموال على قطاع الكهرباء يشكل إدانة لحكومته. ولكنه لم يعرض سوى الاستمرار في المنهج نفسه الذي فتح للفساد أبواب هذا القطاع.

وبدلا من الاستقالة آثر الدبيبة الهروب إلى الأمام، وذلك بأن عيّن نفسه رئيسا شرفيا لشركة الكهرباء الليبية. وهو منصب يتيح له الإشراف على قطاع اعترف بأنه لم يُعطه الوقت الكافي، رغم أنه فتق من أكبر فتوق الإنفاق، لا يمكن تجاهله.

وقال محمد يوسف الزيداني وزير التخطيط في حكومة الدبيبة إن إنفاق الحكومة الحالية على قطاع الكهرباء بلغ نحو 11 مليارًا و800 مليون دينار. وعندما أضاف الزيداني أن “هناك مبلغا آخر خُصص للكهرباء وهو 977 مليون دينار” قاطعه الدبيبة قائلا “الأرقام هذه تدينك وتديننا بعد أن يسمعها الناس الذين يعانون من انقطاع الكهرباء”.

ويعادل هذا المبلغ وفق مراقبين أكثر من ثلاثة مليارات دولار، زعم الدبيبة أنها “خصصت لصيانة محطات توليد الكهرباء القائمة حاليًا والمحطات القديمة التي لم تشهد صيانة منذ 40 عامًا”.

والأربعون عاما مجرد قول لا أثر للحقيقة فيه. لأن محطات التوليد الليبية قبل عشر سنوات كانت تنتج 34 ميغاواط/ساعة وهي قادرة على إنتاج 46 ميغاواط/ساعة. ولئن كانت عائدات الكهرباء تبلغ نحو 1.7 مليار دينار، فإن كلفة الإنتاج تبلغ 2.3 مليار دينار، أي هناك خسائر تتحملها خزينة الدولة وتقدر بـ0.6 مليار دينار فقط، أو ما يعادل أقل من 150 مليون دولار سنويا، معظمها بسبب الوظائف الزائدة عن الحاجة.

◙ أعمال الفساد طالت كل شيء ومنها مليارات الدولارات التي أنفقت على شراء أدوية ولقاحات

وتشير هذه النتائج إلى أن قطاع الكهرباء تحت سلطة معمر القذافي كان مستقرا ويلبي الاحتياجات الأساسية للبلاد، وأن التدهور لم يحصل إلا بعد أن استولت الميليشيات على مقدرات البلاد.

وزعم الدبيبة أيضا أن “الإصلاحات” أُنجزت بنسبة 70 في المئة، حيث يرى مراقبون أن هذه مفارقة أبشع من الحقيقة؛ لأن هذه النسبة لو كانت صحيحة بالفعل لتم حل المشكلة بنسبة مماثلة، بينما الواقع يقول إن الأزمة تشتدّ وانقطاع الكهرباء يصل في بعض الأحيان إلى 12 ساعة في اليوم.

ويلفت خبراء إلى أنه حتى لو ورثت الحكومات التي تولت السلطة في طرابلس معدل إنتاج يساوي صفرا، وليس 34 ميغاواط/ساعة، فإن “إصلاحات” تبلغ نسبة 70 في المئة كانت تفترض إنتاج أكثر من 23 ميغاواط/ساعة. ولكن الحقيقة هي أن تلك الحكومات لم تتسلم صفر إنتاج ولا هي أصلحت ذلك المقدار بالفعل.

وتذكر تقارير أن قطاع الكهرباء هو ثاني أفضل مجال للفساد بعد استيراد السلاح. ومثلما نجحت الميليشيات التابعة لإيران داخل العراق في نهب عشرات المليارات من الدولارات لصالح شركات “إصلاح” إيرانية وأخرى وهمية، فإن ميليشيات حكومة الدبيبة والحكومات التي سبقتها وفرت عشرات المليارات من الدولارات لصالح شركات “إصلاح” تركية وأخرى وهمية، دون أن تتوفر كمية الكهرباء الكافية في الحالتين.

ومثلما هو الحال في العراق، فإن الأموال التي تم إنفاقها على “إصلاحات” مرافق الكهرباء كانت تكفي لبناء عدة مفاعلات نووية تنتج أضعاف حاجيات البلاد من الكهرباء بكلفة أقل بكثير.

وعلى الرغم من أن نموذج مفاعلات الضبعة في مصر ليس بالضرورة هو أفضل صفقة تجارية، إلا أنه قام على أساس اتفاق لبناء أربعة مفاعلات ينتج كل واحد منها 12000 ميغاواط، بكلفة إجمالية تبلغ 28 مليار دولار، لم تدفع مصر منها سوى 4 مليارات دولار فقط، والباقي ديون تمولها الحكومة الروسية، بواقع فوائد بقيمة 3 في المئة سنويا.

ووفق خبراء، فإن ليبيا يكفيها مفاعل واحد أو اثنان على أقصى تقدير، أي بكلفة أقل مما أنفقته حكومة الدبيبة وحدها على “الإصلاحات” التي قامت بها عدة حكومات سابقة! وخيار التعاقد بين حكومتين غير مفيد لحكومات الميليشيات في ليبيا أو في العراق. لأنه تعاقد يقوم على صفقة واحدة، يتم تنفيذها من قبل طرف واحد. بينما صفقات “الإصلاحات” في محطات التوليد التقليدية تتطلب التعاقد مع عدة شركات، وكلما فسدت صفقة حلت محلها صفقة أخرى، وهكذا.

الفساد في قطاع الكهرباء بليبيا يكمن في صفقات إصلاح محطات التوليد التقليدية
الفساد في قطاع الكهرباء بليبيا يكمن في صفقات إصلاح محطات التوليد التقليدية

وبدورها لم تقم حكومة فتحي باشاغا، في مواجهة أزمة الكهرباء، سوى بالإعلان عن تشكيل لجان تحقيق، وأصدرت بيانات لا قيمة لها. ويرى مراقبون للشأن الليبي أنه لو كانت حكومة باشاغا قادرة على إغلاق حقول النفط لفعلت، إلا أنها لا تسيطر على معظم محطات التوليد، ولا تملك القدرة على تغيير الواقع فيها.

وقالت حكومة باشاغا إنها شكلت لجنة برئاسة نائب رئيس مجلس الوزراء علي فرج القطراني وعضوية وزير الكهرباء ووكيل وزارة الداخلية وثلاثة ممثلين عن شركات حكومية نفطية، لحل مشكلة الكهرباء. وذلك بعد ساعات من بيان لرئيس مجلس النواب الليبي المستشار عقيلة صالح، طالب فيه النائب العام ورؤساء لجان وهيئات رقابية بفتح تحقيق عاجل في أسباب استمرار انقطاع الكهرباء ونقص الوقود.

والأزمات في ليبيا لا تقتصر على الكهرباء؛ فأعمال الفساد طالت كل شيء، ومنها مليارات الدولارات التي أنفقت على شراء أدوية ولقاحات لم تصل في معظم الأحيان إلى من يتعين أن يستفيدوا منها. ولئن وقعت انتفاضة في طرابلس وأخرى في طبرق حيث يوجد مقر البرلمان، فإن الحكومتين المتنافستين حققتا نصرا مشتركا على المتظاهرين؛ وذلك بأن وعدتا بالإصلاح، دون أن تتوفر وسائل حقيقية لتنفيذه بالفعل.

والانقسام الذي لطالما كان سببا في استمرار تدهور الأوضاع المعيشية في ليبيا، على طرفي البلاد، عاد ليتأكد عندما أصدرت ميليشيات طرابلس بيانا أكدت فيه التوافق على منع حكومة باشاغا من دخول طرابلس.

◙ ليبيا يكفيها مفاعل واحد أو اثنان على أقصى تقدير، أي بكلفة أقل مما أنفقته حكومة الدبيبة وحدها على “الإصلاحات”

وحاولت حكومتا الدبيبة وباشاغا -بعد اكتشاف أن هناك شعبا يمكن أن يحتج ويحرق المقرات- العثور على وسائل لمخاطبة الجمهور. إلا أنهما فشلتا هنا أيضا في حل مشكلة التواصل مع الناس لمعرفة مشاكلهم. فلم تملكا أكثر من تقديم الوعود وبعض الإجراءات المؤقتة. وبينما تعمل الشركات التركية على ردم بعض جوانب الهوة في طرابلس، لكي لا تتفاقم الأزمة فتخسر كل شيء، تحاول حكومة باشاغا أن تخاطب الأطراف الدولية بحثا عن دعم.

وخاطب باشاغا لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان البريطاني قائلا إن “ليبيا عند مفترق طرق الآن، وتعاني الكثير من الفوضى”. ولكنه وعد بأن تعمل حكومته على “توفير فرص الاستثمار وإعادة الإعمار، واستعدادها للعمل مع بريطانيا على ملف اتفاقية أمن الطاقة وتجارة العبور والمساعدة في التقليل من تدفق المهاجرين غير الشرعيين الذين يعبرون إلى جنوب أوروبا عبر ليبيا”. كما أكد استعداد حكومته “للعمل مع الحلفاء لتكون ليبيا بمثابة الحصن الإقليمي ضد الإرهاب، وإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية الموجودة في ليبيا بطريقة غير قانونية”.

ويرى مراقبون أن هذه الوعود يمكنها أن تشكل إغراءات فعلية للأطراف الخارجية، إلا أن هذه الأطراف تملك القليل من الأدوات لتغيير واقع الانقسام الذي تستفيد هي نفسها منه. وهناك خشية حقيقية، بين الدول المعنية بالأزمة في ليبيا، من أن نهاية الفوضى والنجاح في تشكيل حكومة مستقرة سوف يؤديان إلى المطالبة باستعادة الأموال المحتجزة أو على الأقل التفاوض على سبل استثمارها بين مجموعة الدول التي ترغب في أن تحتفظ بموطئ قدم في ليبيا، لاسيما وأن هذه الدول نفسها لم تتفق على صيغة لتقاسم المغانم فيما بينها.

ومع انهيار الجهود من أجل التوافق على القاعدة الدستورية لإجراء الانتخابات، فإن الأزمة في ليبيا عادت لتكرس بقاء الانقسام والفشل. ولكن ما هو ثابت من تجربة الاحتجاجات هو أن المتنازعين نجحوا في التغلب عليها دون أن يقدموا حلولا للأزمة السياسية التي تعانيها البلاد. فأزمات الكهرباء والدواء والخبز ليست في النهاية سوى حلقات متتابعة للأزمة الأم التي عجز الطرفان عن وضع حد حقيقي ونهائي لها.

ومن المرجح أن ميليشيات طرابلس وشركات تركيا ومرتزقتها لن يتخلوا في النهاية عن الفرص التي توفرت لهم. كما أن حكومة الشرق لا تملك سوى أن تمارس ضغوطا من أجل النجاة بقدرتها على البقاء، وذلك بضمان أن تحصل على نصيبها من عائدات النفط.

وهو ما يشير إلى أن الأزمة سوف تظل مفتوحة على أفق لا نهاية له. فطالما توفرت التمويلات لبقاء الحكومتين، وبالتالي بقاء الانقسام، سيظل السؤال التالي فارضا نفسه: ما الذي يُجبر الطرفين على تقديم التنازلات؟ وبما أنهما أثبتا قدرتهما على تحقيق الانتصارات ضد الشعب الليبي بتقديم الوعود الزائفة، فما الذي يجعلهما يشعران بالحاجة إلى التخلي عن وسائلهما التي ثبت نجاحها وثبتت فوائدها حتى الآن؟

 الأزمة ستبقى مفتوحة على أفق لا نهاية له
 الأزمة ستبقى مفتوحة على أفق لا نهاية له

6