يونس العزاوي فنان يهجر أعماله قبل أن تكتمل

الفنان العراقي يعيد إلى اللوحة سحرها المفقود منذ أواخر القرن التاسع عشر.
الأحد 2022/07/03
لا بد من عين ثالثة

هناك من الفنانين التشكيليين من تبهرك أعماله بمجرد أن تلاقيها منذ الوهلة الأولى، لتغوص فيها وتعيد قراءتها في كل مرة، إذ عادة ما تكون مشغولة بزخم فكري وعاطفي يخفي خلفه مسيرة حياتية ثرية ووعيا مستلّا من التراكم. ولطالما مثل الانتقال من المكان والهجرة بشكل أدق النقطة المفصلية في حيوات الكثير من الفنانين، ليثوروا حتى على أنفسهم وتنفتح رؤاهم بعوالم سابقة على عوالم جديدة أخرى، فتكون التجربة بالتالي أكثر توهجا، وهو ما حدث مع الفنان العراقي يونس العزاوي.

هل هذا لوتريك؟ هل هذا مانيه؟ هل هو سيزان؟… لا. هو كل هؤلاء وأكثر. رغم ذلك أعترف بأنني لم ألتق الفنان يونس العزاوي من قبل، ولم يسبق لي أن دخلت مرسمه أو جلست إليه في حوار، أو حضرت افتتاح معرض من معارضه، بما في ذلك معرضه الحالي في قاعة قصر الثقافة في برلين.

هذا كله لا يمنعني من القول إني أصبحت ممسوسا بفنان اسمه العزاوي، وقررت -مكتفيا بهذا الإعجاب- أن أكتب عمّا لم تره عيني، ولم تلمسه يدي من قبل.

لوحات لا تكتمل

بانتقاله إلى برلين اندلعت في روح الفنان ثورة جديدة كانت إحدى مراحلها المبكرة رفضه النزعةَ التعبيرية

كان يكفي أن أقتفي أثر الفنان وجديده من خلال صفحته على فيسبوك لأمنح نفسي حق الكتابة عنه، بعد أن أدمنت الدخول إلى صفحته أتصيد جديده، وهو كثير عادة.

من أول لوحة شاهدتها له أدمنت التمعن في أعماله والغرق في تفاصيل خطوطه وألوانه، ولا أجد حرجا في الاعتراف بأنني أتلصص على الفنان وأترصد خطواته.

ما من مكان تواجد فيه، وما من نشاط ساهم فيه، إلا وكنت موجودا إلى جانبه أتمعن تفاصيل رسومه، ولا أتورع عن التطفل على حياته الخاصة.

سبق أن كتبت في مختلف المواضيع، لم تنج من قلمي وصفات طعام وصنوف مكياج أو آخر خطوط للموضة. كتبت في التكنولوجيا والاقتصاد والسياسة. إلا أن ما كتبته عن الفنانين التشكيليين قليل بالمقارنة مع ذلك، وهذا راجع إلى سبب بسيط؛ لا أستطيع الكتابة عن فنان تشكيلي لم يبهرني بأعماله، ولأن من يستحقون أن يكتب حولهم من الفنانين -وفق المقاييس التي ألزم نفسي بها- قليلون. من بين هذه القلة الفنان يونس العزاوي.

ولكن كيف نكتب عن فنان لا نعرف عن حياته شيئا، ولم يسبق لنا أن حضرنا افتتاح معرض له، ولم نستأنس ببعض المعلومات عنه؟

منذ اللحظة الأولى اخترت أن أكون منحازا. فأنا أرى في أعمال الفنان العزاوي بعضا من لوتريك، وبعضا من مانيه ورينوار، وبعضا من غويا ومن بيكاسو. أرى فيه بعضا من الزمن الجميل المفقود؛ باريس نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

فنان لا يصحب جمهوره إلى معنى مكتمل
فنان لا يصحب جمهوره إلى معنى مكتمل

ومع ذلك، ولأسباب أجهلها، اختار العزاوي أن يتخذ من برلين موطنا له.

بالطبع برلين مدينة جميلة. لقبتها من أول زيارة لي بـ”المدينة الفاضلة”. ولأنها فاضلة، ولأنها لا تخبئ المفاجآت، لم أر فيها مدينة تكفي لتسع فنانًا مثل العزاوي.

كيف أكتب عن فنان إن لم يكن من عينة العزاوي، فنان استطاع أن يعيد إلى اللوحة سحرها المسروق. فنان مثل هذا نادر الوجود.

قد يقول قائل إن العزاوي لم يخرج من عباءة الفنانين الذين ذكرتهم. أقول له: أرني فنانا آخر بحجم العزاوي اتسعت عباءته لتشمل جميع هؤلاء. فقط فنان بحجم العزاوي يمكنه الخروج من تحت عباءة هؤلاء جميعا. ويا له من خروج.

لن أستغرب أن يقال إن العزاوي يتعمد الإبهار. ولكن، كيف لفنان يمتلك كل هذه الأحاسيس ألا يبهرنا؟ العزاوي لا يتعمد الإبهار، لأنه فنان مبهر حقا. فنان يهجر أعماله قبل أن تكتمل، وكأنما يقول لنا: أكملوا ما بدأته معتمدين على أنفسكم، أنا مشغول عنكم بأعمال أخرى علي أن أنجزها، ليس لدي ما يكفي من الوقت لأصطحبكم إلى نهاية المشوار.

يحرص العزاوي على الإمساك بيدنا مسافة تكفي للتأكد من ثبات خطواتنا. يتركنا بعدها نكمل المشوار في عوالمه الفنية المدهشة، عوالم يحتار المرء في تصنيفها.

ألا يذكرنا هذا بالمتنبي وقوله: أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم.

ليس بأسلوبه الذي جمع بين كوكبة فناني نهاية القرن التاسع عشر ونظرائهم في بدايات القرن العشرين، فقط، يحيي العزاوي فترة يصعب أن تتكرر، بل أيضا بطريقته في اختيار ثيابه وفي اختياره للرفقة وفي سلوكه الداندي. وهذا وحده يكفي لإطالة الحديث عنه.

ثورة جديدة

 عندما يلتقط الفنان الزمن
 عندما يلتقط الفنان الزمن

من هو يونس العزاوي؟

أنا مثل الكثير منكم، لا أعرف من هو. ولهذا قررت الاستعانة بغوغل، الملجأ الذي اعتدت أن أعود إليه عندما تعوزني المعلومة. إلا أن غوغل وعلى غير عادته كان بخيلا. واقتصر ما قدمه عن الفنان على بضع لوحات وإحالة إلى فيسبوك.

حتى صفحة التواصل الاجتماعي التي أشارك فيها العزاوي علاقة الصداقة لم تقدم هي الأخرى معلومات شخصية حوله. لا ذكر فيها لأماكن سبق أن عمل بها، ولا لكليات ارتادها، ولا لعلاقات عاطفية أو عائلية. كل شيء محجوب، أو لم يذكر. ما عدا يوم الميلاد، الأول من شهر يوليو، ورقم هاتف قررت ألا أستخدمه.

أردت أن يكون مقالي الأول عن العزاوي غامضا كما هو الفنان بالنسبة إلي. مقال لا تشوبه أحكام مسبقة، خاصة أنني لم أقرأ ولم أسمع رأيا حوله من قبل.

وحرصا على هذا الغموض الذي يحمي الناقد من الأحكام المسبقة، لم أتصل بأصدقاء مشتركين بيننا أستأنس بآرائهم، وبين هؤلاء الأصدقاء فنانون ونقاد سوريون وعراقيون.

رغم ذلك لا أعلم كيف أقنعت نفسي بأنه عراقي. لا بد أن يكون سبب ذلك تشابه الألقاب مع الفنان التشكيلي العراقي ضياء العزاوي ومع الشاعر والروائي فاضل العزاوي.

ولكن حدث ما غير كل هذا، عندما وقعت عيني على مقال يتحدث فيه الناقد كريم سعدون عن فنان عراقي يقيم في برلين.

بعض من الزمن المفقود
بعض من الزمن المفقود

مقال سعدون حسم الأمر؛ العزاوي فنان عراقي، كما توقعت أن يكون. وفي المقال جزء “استله” الناقد من دفتر مذكرات الفنان، كان كافيا ليؤكد الصورة التي رسمتها عنه.

أهم ما جاء في المقطع الصغير (430 كلمة) حديث الفنان عن أيامه الأولى في مدينة برلين، وتنقله بين صالات العرض بحثا عن كل ما هو جديد.

وفي أمسية صيفية، وصفها بالجميلة، وبينما يسير في طرقات كروزنبيرغ (منطقة الفنانين والأدباء والموسيقيين في برلين) هائما يقرأ وجوه الفنانين الألمان بعد أن لفظتهم مجالس الخمر إلى الشوارع منتشين، حدثت المصادفة التي رسمت مستقبل حياة العزاوي الفنية.

صادف شخصا وصفه بغريب الأطوار يصوب نظراته إليه، فبادره العزاوي بالتحية مستخدما اللغة الألمانية، وجاءه الجواب بتحية مثلها، بل أكثر منها أدبا ولطفا. ليتابع صاحب التحية بعدها الحديث ويسأل العزاوي إن كان أخا للشاعر والروائي العراقي فاضل العزاوي؟ أجابه بنعم.

وسرعان ما يكتشف أن الشخص الغريب الذي أخرجه من مراقبة وجوه المارة ومن تأملاته ما هو إلا مروان قصاب باشي، الرسام والنحات السوري، وأحد أبرز الفنانين التشكيليين العرب، ومن بين الفنانين الأكثر حضورًا في المعارض الدولية.

أسلوب الفنان يجمع بين كوكبة فناني نهاية القرن الـ19 ونظرائهم في بدايات القرن الـ20 ويُحْيي فترة يصعب أن تتكرر

ويمضي العزاوي في مذكراته قائلا “المصادفة التي جمعتني بمروان كانت مثل خمرة أسكرتني”.

إثر هذا اللقاء راح العزاوي يفكر في الالتحاق بأكاديمية الفنون الجميلة في برلين، والدراسة عند مروان بعد أن عرف أنه أستاذ في تلك الأكاديمية.

هذه الخطوة كما يقول، مهدت الطريق أمامه للانفتاح على عالم الفن العالمي، لتندلع في روحه “ثورة جديدة ورغبة في التجديد”؛ ثورة كانت إحدى مراحلها المبكرة رفضه للنزعة التعبيرية السائدة في ألمانيا، والتي كان مروان قصاب واحدا من روادها.

“كنت كالواقف على ضفاف نهر يرغب في العبور إلى الضفة الأخرى”. ويا لها من ضفة.

كان لا بد من الاختلاف مع الأستاذ الذي أحاطه رغم ذلك بعناية خاصة، بعد أن اكتشف مواهبه تاركا له حرية اختيار القارب الذي يعبر فيه. كل ما في الأمر أن الطالب والأستاذ اختلفا في اختيار القارب.

وفي هذا القارب أتنقل اليوم بين عوالم الفنان يونس العزاوي المدهشة.

شكرا لغوغل لأنه لم يفصح لي في البداية عمّن يكون العزاوي، وشكرا للعزاوي لأنه حجب هو الآخر -سواء متعمدا أو غير متعمد- سيرة حياته، لأنشغل خلال بضعة أشهر، هي فترة صداقتي الافتراضية مع الفنان، بتفاصيل أعماله الفنية متحررا من قيود الآراء المسبقة.

13