"منديل بالفراولة" رواية ما بين شكسبير وخليل الرز

قصص يرويها شخص موجود في أكثر من مكان في وقت واحد.
الثلاثاء 2022/06/28
حب بين واقع وخيال (لوحة للفنانة هيلدا حياري)

تجاوزت تجارب عدد من الروائيين العرب البنية الكلاسيكية المعهودة في رواياتهم، واقتحم شق منهم عالم التجريب بجرأة وفق تقنيات متعددة، خلقت رهانات جمالية وفكرية مختلفة، والكاتب السوري خليل الرز في روايته الأخيرة “منديل بالفراولة” واحد من هؤلاء، إذ كرس عصارة تجربته السردية الممتدة لعقود ليقدم لقرائه عملا مختلفا في المدونة السردية العربية.

تقدّم رواية “منديل بالفراولة” لخليل الرز، نظاما سرديا ينهض به سارد متماه بمرويه (بضمير المتكلّم) كشخصية محورية تنطلق الأحداث منها وفق افتراض تفترضه اللحظة السردية، وهذا الافتراض يتطلّب تخيّلا لحكاية لم تجر أحداثها أصلا، وإنما يعمل السارد ولنسمّه “الكاتب” على تأليفها للتوّ كحكاية تدور أحداثها أمامنا الآن بأسلوب شائق ومقنع، يُنسي القارئ أنها مجرّد عملية تخيّل كبيرة سافر فيها السارد نحو ممالك الخيال القصّية، تلك التي أبدعها السرياليون الكبار في أعمالهم الفنية والشعرية بخاصة.

بمعنى أن هذه الحكاية بما تخللها من صراع بين الشخصيات ممكنة الحدوث واقعيا وفق متخيّله السردي، الذي لم أجد بدا من مقاربته مع “رجل القبو”، الشخصية المحورية في رواية دوستويفسكي “في قبوي”، مع فارق بينهما من حيث توجه الخطاب لكلّ من الشخصيتين الساردتين.

فإذا كانت مهمة “رجل القبو” الكشف عن علاقة الفرد المهمّش بالمجتمع القائم على تراتبية طبقية قاسية في القرن التاسع عشر، فإن السارد في “منديل بالفراولة” كاتب يعيش منطويا على ذاته، يعاني من حال اغترابية وقلق يدفعان به نحو تأليف وسرد الحكايات المتلاحقة دون انقطاع على شكل مرويات تتجاور وتتناغم، ولكلّ حكاية منطقها الذي يتطلّب الغوص في أعماق الذات الإبداعية، للكشف عن المتغيرات في هذه المرحلة الانعطافية وأثرها في شخصية كاتب سوريّ يعمل في القسم العربي من جريدة “أنباء موسكو”، التي اشتهرت عالميا إبان احتدام الحراك الإصلاحي الإداري والسياسي المسمّى “البيريستورويكا”.

ممكنات السرد

على مدار الرواية تتألّف القصص وتترادف وتتجاور بالمزيد من التخييل الافتراضي للصراع الذي يدور بين الشخصيات

إن شخصيات الرواية تنتمي عرقيّا إلى الروس بطبيعة الحال، الأرمن، العرب، الجيورجيين ومن ثم الأذريين الذين سيكون لهم نصيب كبير باعتبار أن رايا حبيبة “الكاتب” من باكو بأذربيجان، وأنها ضيفة وعلى صلة قرابة مع “أبدول” الناقد السينمائي وزوجته اللطيفة سارا، كما ورد في الاستهلال التعريفي للشخصيات وانطلاق الحكاية الإطارية الكبرى، “لم يكن لباب غرفتي قفل. لم يكن فيها، كما أظنّ الآن، ما كنت أحرص عليه آنذاك سوى الكتب، فدخلت رايا في غيابي ذات يوم. تركت لي قصاصة ورق صغيرة مطويّة على طاولة كتابتي مع ثلاث حبّات فراولة في طبق أبيض صغير. ثم خرجت دون أن يلاحظها قريبها ومضيفها وشريكي بالشقة: أبدول”.

وبلا شكّ فإن هذا الاستهلال البسيط ينطوي على إشارتين مهمّتين تمهدان للأحداث المقبلة، قصاصة الورق التي تحدد موعدا في الغابة القريبة، وحبّات الفراولة الثلاث اللاتي تركن على الطاولة بألوانهن وطعمهنّ وبما تنطويه من رمزية شهوانية ترتبط بعنوان الرواية وبقصّة الحب المتنامية وتعقّدها حتّى نهاية الرواية، وها نحن نرى “الكاتب” الآن يستجيب لرسالة رايا قاصدا الغابة متلهفا لرؤيتها، فيقدّم مشهدا مليئا بالرومانسيات السينمائية التي قدّمت مشاهد لقاء الحبيبين تحت وابل من المطر، “كبسني مطر صيفي دافئ… لاحت لي واقفة إلى جانب أول مقعد أخضر.. كانت تنظر باتجاهي…

ووقفت بمحاذاتها تماما. ثم بدا أن تلاصقنا الأول لا مفرّ منه، كما لو كان الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفعله رجل وامرأة متواعدان، للمرة الأولى، في غابة تحت مطر مباغت شديد”.

وككلّ حكاية حبّ فإنهما عادا إلى السكن مبللين، ولابدّ بطبيعة الحال من وجود “إيّاغو” لهذا السبب أو ذاك، وسيقوم أبدول بهذا الدور متذرعا بأنها ضيفته وهو مؤتمن عليها. ومن هنا تبدأ الأحداث بالتصاعد نحو حبكات مدروسة وعقد مستعصية سواء على النهج الصراعي الشكسبيري أو سواه من كلاسيكيات الرواية، فهكذا تؤلّف قصص الحبّ في المأثور السردي.

على مدار الرواية تتألّف هذه القصص وتترادف وتتجاور بالمزيد من التخييل الافتراضي للصراع الذي دار بين “الكاتب” و”أبدول” من جهة، وزوج رايا المسؤول وصاحب النفوذ في باكو لاحقا من جهة ثانية، ومن وجهة نظري لم يكن هذا الصراع مقصدا أو هدفا بحدّ ذاته، إذ إن كلّ هذا مألوف كما أشرت أعلاه، وإنما في سعي “الكاتب” للكشف عن ممكناته الإبداعية وولعه في تسريد كلّ ما يمت إليه بصلة من بشر وأشياء وتفاصيل صغيرة، ستكون هدفا أساسيا دأبه تعزيز المقترحات التعبيرية جماليا.

وتقديم الجديد الجيد في كلّ عمل يكتبه لأجل موضعة أدبه المكانة التي تليق به بين صفوف الروائيين الكبار، وهو على كلّ حال طموح مشروع لكلّ روائي عربي أو غير عربي.

رواية "منديل بالفراولة" تقدّم نظاما سرديا ينهض به سارد متماه بمرويه (بضمير المتكلّم) كشخصية محورية تنطلق الأحداث منها وفق افتراض تفترضه اللحظة السردية

لعلّ استثمار الموهبة الإبداعية قد أسفر في هذه الرواية عن ممكنات السرد غير المنتهية، التي اجترحها الروائي في إطار التجريب واكتشاف المزيد مما يمكن تقديمه من حكايات لقارئ شغوف بها، بالرغم من تصريحه في مواقف عديدة في الرواية بأنه يسرد هذه الحكايات لنفسه، وربّما بسبب عزلته وغربته ككاتب يرى أن حياته هي تلك التي يقضيها غالبا في داخله.

وكنموذج لهذه القصص التي يسردها لنفسه لابدّ من المجتزأ التالي “وقع نظري على رجل واقف قرب باب العربة. وكان من عادتي، في الوقت الطويل الذي أنفقه يوميا في قاطرات المترو، أن أشغل نفسي بسيرة أحد الناس المزدحمين من حولي. كان الرجل يرفع بإحدى يديه كتابا مفتوحا يقرؤه، وباليد الأخرى يمسك بمسند مقعد مجاور. اعتقدت على الفور أنه محاسب في معمل ورق، وأنه متزوج منذ خمس سنوات، وأنه قد أوصل ابنته الصغيرة بنفسه إلى روضتها قبل أن يستقلّ المترو إلى عمله، وأنه قد نام وحده في ليلة البارحة لأن زوجته، التي تعمل مفتّشة في واحد من قطارات الليل الذاهبة إلى لينينغراد، قد غادرته في الساعة الحادية عشرة قبل منتصف ليلة أمس، وأنه يفكّر الآن بحسنات أن تغيب زوجة المرء من وقت إلى آخر”.

ومثل هذه الحكاية كثيرا ما يشغل “الكاتب” بها نفسه بينما هو ماض إلى عمله أو جالس في منزله أو في مقهى. ولعل قصص “سوق الجمعيات” بمثابة نموذج بارز لمثل هذا الاشتغال، إذ إنه أُخبر بزيارة رايا وزوجها له في منزله مما أربك نظامه المعتاد، فقصد سوق الجمعيات كي يشتري بعض لوازم الضيافة التي تليق بهما، لاسيّما وأنه سيقابل زوج رايا للمرة الأولى.

“خرج إلى موقف الباص محمّلا بكيسين بلاستيكيين مليئين بالمشتريات، وضعهما على الأرض وجلس على مقعد تحت مظلّة الموقف. وعندما نهض أخيرا بالكيسين الثقيلين، فتوقف أمامه رجل عجوز سكران. لكن الصدمة المزلزلة التي تركت أثرا بالغا في ذاته المرهفة، أنه لاحظ أن السكير، بالرغم من حالته كان ينظر إليه بازدراء وقح.. ابتسمت له ابتسامة صغيرة ربما من باب الشفقة، وربما لكي أنقل إليه أنني لا آخذ احتقاره لي على محمل الجد. لكن العجوز رد عليه قائلا: لن تخطئك رصاصتي ذات يوم!

منديل عطيل

خليل الرز بسط رؤيته الفكرية والجمالية بأساليب سردية مبتكرة تكتمل عناصرها وتتناغم مع جملة من التناصات الشائقة

تذكرنا هذه الرواية، الصادرة حديثا (2022) عن منشورات ضفاف في بيروت ومنشورات الاختلاف في الجزائر، بشخصية البدل (العارف) في روايتي الرز السابقتين “البدل” و”الحي الروسي” من حيث قدرة الشخصية على التواجد في مكانين مختلفين في زمان واحد، بل لعلها ترتبط بمقولة “الحج الذهني” الصوفية.

الكاتب هنا يواظب على السفر إلى باكو للقاء رايا في القطارات المسافرة إلى هناك لعدة سفرات في اليوم الواحد، بالرغم من بعد المسافة بين موسكو وباكو: وقد جاءت خاتمة الرواية لتختصر ما تقدّمت به ببضعة أسطر ذات دلالة “في الساعة السابعة من مساء يوم الأربعاء كنت، في داخلي، أتجوّل مع نونا في حديقة النباتات، وآكل مع رايا محشي ورق العنب في شقة صديقتها أنوش، وأفكّر بتصليح دراجتي المعطوبة في الموزّع لكي نتنزّه عليها أنا والدمية، فقد كان الطقس جميلا جدا في ذلك المساء”.

أعتقد أن الفصل المسمّى “في بيت جدة نونّا” يشكّل خلاصة رؤيته الفكرية والجمالية بما ابتكره من أساليب سردية تكتمل العناصر فيها وتتناغم مع جملة من التناصات الشائقة، ولاسيما حديثه المتواصل مع دمية رايا واصطحابه لها إلى السهرة وتعامله معها ككائن حيّ يمكن مخاطبته ووصف مشاعره، ولذلك فإنه تجاهل رغبة نونّا في الحصول عليها كهدية عيد ميلاد، فضلا عن أن هذا الفصل يفصح عن حبّ مكنون له ولدميته من قبل نونّا التي تجاهلت بدورها عرض فولوديا الجيورجي المعجب بها.

فضلا عن أنّ هذا الفصل المفعم بالمشاعر المعبّر عنها بمهارات احترافية سينطوي على نقاشات مهمّة من قبل الساهرين، ولاسيما التناص التاريخي الذي رواه المعلّم مكسيم فاديميتش عن تبدّلات مفهوم الفراولة في الثقافة الأوربية من المقدّس إلى الشهواني عبر التاريخ، واستعادة حكاية منديل عطيل المطرّز بالفراولة الذي أهداه لديدمونة وما جرى لاحقا ربطا بعنوان الرواية الذي استقي من منديل عطيل وليس من الثمرات الثلاث التي وجدها الكاتب على مكتبه في مستهل الرواية، بما يدفع القارئ نحو ممالك التأويل باستعادة حكاية منديل عطيل وإياغو وديدمونة.

 والتساؤل عن السبب الذي دفع بخليل الرز إلى استعادة حكاية منديل عطيل مشروع، ولاسيما عن خواتيم الرواية ومصير رايا وعلاقة الحبّ، طالما أنّ “الكاتب” وجّه ذات السؤال لشكسبير “دائما كنت أسأل نفسي ما الذي دفع مؤلفا مسرحيا عظيما مثله لأن يختار الفراولة بالذات. وأحيانا يخطر لي أن بطلته المسكينة ديدمونة كانت ضحية هذه الثمار الحمراء الشهيّة المطرّزة في هدية زوجها عطيل، دون أن أعرف كيف أثبت ذلك”.

14