ميدان الشهداء كتاب تاريخ ليبيا المفتوح في طرابلس

ساحة تحتضن أفراح الليبيين وأحزانهم منذ الاستعمار الإيطالي.
الجمعة 2022/06/10
ميدان السياسة والنضال

في كل عواصم العالم توجد ساحات فسيحة ارتبطت بأحداث تاريخية لشعوبها وفي طرابلس يحتل ميدان الشهداء والذي حمل أسماء مختلفة منذ الاستعمار الإيطالي مكانة لدى كل الليبيين إذ يروي مختلف التحولات السياسية التي شهدتها البلاد بالإضافة إلى أنه يعتبر فضاء لأفراحهم وأحزانهم وتجمهراتهم ونصرهم.

طرابلس ـ "أيقونة طرابلس" … هكذا يُعتبر ميدان الشهداء في نظر أهل العاصمة الليبية. ومع أنه يقع قبالة البحر، فإنهم يعتبرونه مركز المدينة، ووجهة كل التجمهرات السعيدة والحزينة، الاحتفالية والدموية، فكما يأتيه العرسان للاحتفاء واقتناء الورود ليلة الزفاف، ترتاده أمهات القتلى والمفقودين والمُغيَّبين والسجناء حاملات صور أبنائهن.

يحكي الميدان ومحيطه تاريخ المدينة، منذ تأسيسه في عشرينيات القرن الماضي، إلى يومنا هذا. وسُمِّي أولا “ميدان إيطاليا” عند تأسيسه في فترة الاستعمار الإيطالي (1911-1943)، فوق ذات البقعة التي أعدم فيها يوم السادس من ديسمبر 1911 أربعة عشر مقاتلاً ليبياً وقفوا ضد احتلال البلاد، ومن هنا جاء اشتقاق الاسم الحالي. أما في عهد المملكة الليبية (1951-1969)، فقد حمل اسم “ميدان الاستقلال” تيمنا باستقلال البلاد.

في ديسمبر 1911 أعدم بالميدان أربعة عشر ليبيا وقفوا ضد الاحتلال، ومن هنا جاء اشتقاق الاسم الحالي

يقول فتحي معيوف، أحد عشاق الميدان من الطرابلسيين “في تلك الأيام، كان الميدان أصغر حجما، تتوسطه منحوتة إيطالية جميلة على هيئة نافورة محمولة على أحصنة مجنحة، وتدور حوله أغلب حركة السير بوسط البلاد، من حافلات، وسيارات قديمة، وعربات الخيول “الكرّوسة”، والعربات المجرورة بالحمير “الكاراتون”.

كعادة كثير من سكان طرابلس، يطلق معيوف على الميدان اسم “وسط البلاد” مع أنه يتوسطها من ناحيتي الشرق والغرب فقط، أما باقي المدينة فيقع جنوبه. ويعتقد أن هذا الاسم درج عند الطرابلسيين قبل توسعة الميدان، حين كان تفصله عن الكورنيش عدة مباني إيطالية الطراز.

في سنوات نظامه الأولى (1969-1977) غيَّر العقيد، معمر القذافي الاسم إلى “ميدان الشهداء”. وعندما استَحدَثَ نظام الجماهيرية (1977-2011) تغير الاسم مجدداً وصار “الساحة الخضراء” تيمنا بلون علم الدولة وكتاب العقيد الذي اعتُبر بمثابة دستورها.

في تلك الحقبة، طرأت على الميدان ومحيطه تغييرات كثيرة، بدأت بتوسعته عندما تم هدم وضم المباني التي كانت تحجب عنه الكورنيش.

الكورنيش أيضاً تمت توسعته وردمت أجزاء كبيرة من البحر الذي كانت أمواجه تلاطم أسوار المدينة القديمة، وتمت الاستعاضة عنه ببحيرة اصطناعية مطلة على الميدان من ناحية القلعة، وتمتد إلى مبنى البنك المركزي الأثري.

حمام الحرية
حمام الحرية

في تسعينيات القرن الماضي، تحلّى الميدان بمظهره الحالي، تُقابله الحديقة الكبيرة والكورنيش من ناحية الشمال الشرقي عبر نصب تذكاري منذ العهد الإيطالي، مكون من مسلتين، فوقهما تمثالان نحاسيان، الأول لفارس على حصانه، والثاني لسفينة أشرعة.

ويحد الميدان من الشمال الغربي متحف السرايا الحمراء وحصن المدينة المنيع بأبوابه المقوسة المؤدية إلى الأسواق والأزقة القديمة، وصاريته الشهيرة.

ويلتقي الميدان جنوبا مع شارع عمر المختار، ومن الناحية الشرقية حيث باعة الورود تتفرع أقدم شوارع وسط المدينة، شارع أبو مشماشة، وشارع ميزران، وشارع 24 ديسمبر، وشارع الاستقلال، وشارع البلدية. ويطل على الميدان مسرح ميراماري وبعض دور السينما التي أغلقت أواخر عهد الجماهيرية، هذا بالإضافة إلى أكبر المصارف الليبية، ووزارتي الداخلية والعدل، ومجموعة من المطاعم والمقاهي، أشهرها مقهى فيرنانو التابع للسلسلة الإيطالية الشهيرة، والذي افتتح سنة 1882.

ومن أشهر المعالم التي افتقدها الميدان تمثال الإمبراطور الروماني الحادي والعشرين والمولود في ليبيا “سبتموس سيفروس” الذي كان يقف أمام القلعة، قبل أن تتم إعادته إلى مسقط رأسه في مدينة لبدة الأثرية “لبتس ماجنا سابقاً، والخُمس حالياً”.

أعياد وأعراس
أعياد وأعراس

منذ زمن طويل، دأب الطرابلسيون على تنظيم الحفلات الرسمية في الميدان (باستثناء فترة التسعينيات التي تحول فيها إلى محطة ركن سيارات). وفي حقبة الثمانينيات اشتهر الميدان بالاستعراضات العسكرية والكرنفالات التي كان ينظمها القذافي في عيد استلامه السلطة، أو عيد ثورة الفاتح من سبتمبر كما يسميه.

يقول أحد السكان، محمد خالد “كنت في منتصف المرحلة الثانوية عندما كلفنا غصباً بالاستعراض في الميدان، احتفالاً بالعيد العشرين للثورة. قضينا شهرين من التدريب العسكري الإضافي صيف 1989، عدا عن التدريب النظامي أثناء الدراسة. ويوم الاستعراض، وفي حر سبتمبر، سلمونا بنادق آلية، وانتظمنا في كراديس عسكرية أمام قاعدة معيتيقة، وانتظرنا هناك منذ الصباح حتى التاسعة مساء، وكل قوتنا رغيف خبز صغير مع التونة، وعلبة عصير ساخن، دون ماء. وبعدها انطلقنا في مسير عسكري لعشرة كيلومترات نحو الميدان، ثم عدنا سيراً لبيوتنا”.

يضيف، “كنا مجموعة صغار جياع يُطَاَلبون بادِّعاء الاعتداد بالنفس والأنفة وتوحيد الخطى أثناء المسير أمام منصة الميدان حيث القذافي وبعض الرؤساء العرب والأفارقة وأمامهم كل المشتهيات”.

يعتقد أحد سكان طرابلس، فتحي نصر، أن مثل هذه الذكريات وغيرها مما قاسى الليبيون أدت إلى اندلاع ثورة 17 فبراير عام2011، والتي كان الميدان شاهدها الأول.

عربة الترفيه
عربة الترفيه

ويسرد نصر قصة نجاته من أشهر مذبحة وقعت في الميدان إبان الثورة، حين يقول، “في يوم 20 فبراير خرج آلاف الشباب من مختلف أحياء طرابلس في مظاهرات منددة بتعامل النظام مع مظاهرات كانت قد انطلقت في بنغازي. أغلق الشباب الطرق بالإطارات المحروقة، وبعد ورود أخبار عن هروب القذافي إلى فنزويلا، قرر الجميع التوجه إلى الميدان. وبعد أن وصلنا في مجاميع، قام البعض بحرق وزارتي الداخلية والعدل، وانطلقت الهتافات المضادة للنظام، لِنُفاجأ بسيارات عسكرية وجنود يطلقون النار علينا. لقد شاهدت الدماء تتطاير وأنا أحاول الفرار”.

انتهى نظام القذافي نهاية 2011، وانفتح الميدان على مظهر جديد، وهو إقامة الوقفات الاحتجاجية والمظاهرات التي قد تتطور إلى صراعات وتضارب بين أصحاب الآراء المختلفة.

وفي المقابل، لم تتوقف المناسبات السعيدة بالميدان، كالاحتفالات الدينية والوطنية ومتابعة المباريات على شاشته الكبيرة. وفي العادة تنتظم الحشود في أية مناسبة بميدان الجزائر لأنه أصغر حجما، ثم تنتقل سيراً إلى الميدان بعد تزايد الأعداد.

انعكست أجواء الحرية على الميدان، وكثر على أطرافه الباعة الجوّالون، وزادت فيه النشاطات، كالاستعراض بالدراجات الهوائية والنارية، والتزلج، وركوب الأحصنة والعربات المجرورة، والتقاط الصور التذكارية رفقة الحيوانات النادرة وأمام النافورة. ولكن المتعة الجديدة تمثلت في ضيوفٍ جدد. عشرات الآلاف من طيور الحمام أصبحت تحط بالميدان ولا تغادره إلا مساءً، بعد أن استأنست مرتاديه، وتعودوا هم على إطعامها.

سنين وحِقب مرت على ميدان الشهداء ومحيطه، ونقشت كل مرحلة جزءاً من أركانه. لا زال الليبيون يقصدون الميدان أولا عند دخول المدينة، لازالوا يتفاءلون به ويحبون كل تفاصيله، قلعته العثمانية والنافورة الرومانية، ذكريات الحقبة الملكية والجمهورية والجماهيرية، وحمام فبراير.

18