شافية بوذراع.. "أم الجزائريين" تترك فراغا رهيباً في عالم الفن الملتزم

تقمصت في أدوارها الدرامية والتلفزيونية شخصيات كثيرة تراوحت بين الاجتماعي والأرستقراطي، إلا أن الجمهور الجزائري والعربي يذكرها دائما بدور “اللا عيني”، الذي ظهرت به في مسلسل الحريق، لتكسب بذلك تعاطف الناس، كونها وفقت كثيرا في تجسيد كفاح الأم الفقيرة في محاربة إكراهات العوز وتربية الأبناء، خاصة أن العمل ارتبط بوضع العائلة الجزائرية إبان حقبة الاستعمار.
رحلت الفنانة شافية بوذراع عن عمر 92 عاما عاشت فيها ظروف الاستعمار والنضال السياسي وتهميش الاستعمار الفرنسي للجزائريين، وظروف الاستقلال بانتصاراته وانتكاساته، فكانت شاهدا حقيقيا على مسار زمني وعلى أجيال كاملة من المجتمع الجزائري.
الحريق والنول
المتمعن في شخصية بوذراع يكاد يجزم بأن الأقدار أرادت لها أن تكون مرتبطة برسالة المرأة الأرملة المكافحة من أجل وطنها وأسرتها، بعد أن تزوجت من سيصبح شهيد الحرية صالح بوذراع
غادرت بوذراع إلى دار الخلود تاركة وراءها فراغا رهيبا في الفن الجزائري الملتزم، فهي واحدة من الفنانات القلائل اللائي كن يخترن العروض بعناية شديدة، ولا تلتزم إلا إذا اقتنعت بأداء رسالة من خلال أي دور درامي، ورغم ذلك تركت رصيدا ثريا من الأعمال، أبرزها “اللا عيني”، ويستعمل لفظ “اللا” للاحترام والتفخيم في اللسان الجزائري الدارج.
ودور “اللا عيني” في مسلسل “الحريق” مقتبس من الرواية الثلاثية للأديب الجزائري الراحل محمد ديب “الدار الكبيرة، الحريق والنول” التي نشرها عام 1952، وتوجت بعد الاستقلال بجائزة اتحاد الكتاب الجزائريين، وبجائزة الرواية الكبرى عام 1995 بباريس.
ولأن الرواية توصف أدبيا بـ”العجيبة” بفصولها الثلاثة، فإن أداء بوذراع لدور “اللا عيني” فيها لم يكن إلا بعد تردد كبير لشكوك في قدرتها على تقمص شخصية المرأة الأرملة التي قهرها الفقر والعوز وصعوبة تربية وتوفير حاجيات الأطفال، مما اضطر ابنها البكر عمر إلى المغادرة إلى الريف للعمل في حقول المعمرين الفرنسيين.
مكانتها الكبيرة تعود إلى مشاركتها في أعمال مسرحية هامة مثل "المرأة المتمردة" و "دائرة الطباشير القوقازية"
وفي “دار السبيطار”، وهو تجمع سكاني مهترئ تقيم فيه العديد من العائلات الجزائرية ومنها عائلة “اللا عيني”، المكلومة بزوجها وأمها طريحة الفراش بسبب المرض، وبآهات أبنائها من الجوع والفقر، كانت قريبة جدا من قصة الخليفة عمر بن الخطاب والعجوز التي كانت توهم أطفالها بغلي الماء في القدر على أنه أكل إلى أن يغلبهم النعاس، لكن طفلها الذي بدأ يفكك رموز الوضع المأساوي كان أكثر نقمة على الاستعمار الذي يسلّط عليهم أبشع ممارسات الظلم والتهميش والحيف الاجتماعي.
عن ذلك الدور المعقد قالت بوذراع “حاولت مرارا رفض هذا العمل في البداية، حتى أنني اقترحت على المخرج فنانات أخريات كالممثلتين نورية وكلثوم لتمثيل الدور، لأنني شعرت بالذعر من أدائه وبخوف كبير من الفشل، ومع ذلك تشجعت أخيرا لأداء الدور وحدثت نفسي أمام المرآة، وقلت لها: إما أن أنجح في أداء الدور أو أن أعتزل هذه الحرفة نهائيا”. وأضافت “كنت أحفظ نصوصي بالسمع طوال التصوير، ومثلت كل الحلقات في وقت واحد، حيث أكدت أن شخصية ‘اللا عيني’ لم تمثل في الواقع المرأة القاسية جدا بقدر ما مثلت الظلم المسلط عليها من المحيط والظروف والجيران وحال الأم والأبناء”.
السخرية تفتح الآفاق

رصيد بوذراع الذي يتجاوز 27 عملا بين السينما والتلفزيون والدراما، قدمت في غالبيته شخصية المرأة الجزائرية بمختلف تجلياتها
المسيرة الفنية لبوذراع بدأت مطلع الاستقلال، فبعد عامين منه غادرت مسقط رأسها مدينة قسنطينة قاصدة العاصمة، على أمل البحث عن آفاق أخرى وربما مطاردة أحلام مؤجلة، فاشتغلت في عدة مهن بغية إعالة أطفالها اليتامى، كممرضة وموظفة إدارية وعاملة منازل، إلى أن جاءتها الفرصة لاقتحام مجال الفن من خلال مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الحكومي الوحيد حينها.
ولأن الفضول كان يدفعها إلى اكتشاف مجال الإذاعة والتلفزيون، طلبت من رفيقتها التي رحلت أيضا منذ سنوات قليلة فتيحة بربار طريقةً لدخول هذا المكان واستكشاف عوالمه، فنصحتها بالاتصال بمصطفى قريبي.
وبعدها بفترة قصيرة قدمت أول أعمالها وهو اسكيتش “الغزي” العام 1966، حيث مثلت فيه شخصية الأم، وهو الدور الذي برعت فيه الراحلة كثيرا، وتلته عدة أعمال أخرى في الإذاعة مع محمد ونيش واسكيتشات أخرى في التلفزيون أيضا، حيث عملت مع جمال بن ددوش وآخرين، وقدمت أعمالا إذاعية عديدة مع مخرجين كبار مثل محمد الأمين بشيشي وغيره، ما أكسبها خبرة مهمة ساعدتها على حيازة الثقة للدخول إلى عوالم أخرى حبا بالفن ورغبة منها في منح حياة أفضل لأبنائها.
التحقت بالمسرح الوطني الجزائري، وكانت متحمسة بسبب وجود فنانات أخريات على خشبته على غرار فريدة صابونجي ونورية وياسمينة، وعرفت جيدا كيف تشق طريقها بشكل صحيح، وأصرت على التوفيق بين عملها في التمثيل وبين تربية أبنائها الذين كانت تكد من أجل إعالتهم، وعلى الحفاظ على سيرة ومكانة محترمة لشخصيتها في وسط ذكوري.
وكانت أول تجربة لها في المسرح مع الراحل مصطفى كاتب، الذي قالت إنه تردد في البداية لقبولها، لكن الفنانة الراحلة نورية دعمتها ورشحتها له لتمثيل أدوار الأم دون معرفة سابقة بها، وهناك قدمت بوذراع أدوارا في مسرحيات “المرأة المتمردة” و”دائرة الطباشير القوقازية” وغيرها من الأعمال التي صنعت لها مكانا مهما على الخشبة رفقة أسماء مهمة جدا مثل حسن الحسني، رويشد، كلثوم والعربي زكال والمخرجين علال المحب وحاج عومار.
فيلمها "الخارجون عن القانون" توج بذهبية مهرجان دمشق السينمائي كأحسن عمل أجنبي، إضافة إلى جائزة أحسن عمل عربي، وقد استلمت بوذراع درعي الجائزتين بنفسها
تطور حضور بوذراع حين انتقلت إلى عالم السينما من خلال عدة أفلام أثرت مسيرتها، فكانت البداية بفيلم “هروب حسان طيرو” مطلع السبعينات، وكذلك فيلم “الشبكة” و”ليلى والآخرون” و”امرأة لابني”، حتى شاركت في فيلم “شاي بالنعناع” للمخرج عبدالكريم بهلول.
في رصيد بوذراع 27 عملا بين السينما والتلفزيون والدراما، وقدمت في الغالب شخصية المرأة الجزائرية بمختلف تجلياتها، وكان آخر عمل سينمائي قدمته يحمل عنوان “عرفان” لمخرجه سليم حمدي الذي قال بشأنه “التقيت الفنانة قبل حصولي على تمويل الفيلم الذي كان أول أعمالي، فاحتضنت فكرته وتجاوبت مع قصة العمل جدا ووافقت على المشاركة”، مضيفاً أن الراحلة كانت حاضنة لعمله وله شخصيا بحكم الطابع التاريخي والإنساني والفني، وأن هذه السيدة كانت لا تضيع أي فرصة للحديث عن تاريخها الشخصي والعائلي والثوري والفني، وقد كانت فنانة شديدة الانضباط والاحترافية في عملها.
الخارجة عن القانون
عن دورها في فيلم “الخارجون عن القانون” للمخرج رشيد بوشارب قالت بوذراع إن علاقتها بهذا المخرج امتدت لأكثر من خمس وعشرين سنة، حيث قدمت معه عملا تلفزيونيا بعنوان “شرف العائلة” رفقة مدير التصوير يوسف صحراوي. وحينما اقترح بوشارب عليها دور الأم، أخبرها بأنه سيكون صغيرا، فردت عليه بأنه لا وجود لدور صغير، إنما هناك فقط ممثل صغير لا يتقنه، وحينما قرأت الراحلة تفاصيل الدور ووجدت بأنه يتناول أحداث الثامن من مايو 1945 قبلته بلا تردد، لأنها ببساطة عايشت تلك الفترة في عز البرد وهي تزور زوجها في السجن حاملة القفة، حيث حكم عليه بعشرين سنة مع الأشغال الشاقة، فكان مشهد إمساكها بتراب أرضها وقت الترحيل في أحد مشاهد الفيلم ارتجالا منها، لإحساسها الوطني العميق وإحياءً لذكرياتها وتأكيدا لحبها المقدس للوطن.
وأثناء عرض الفيلم في مهرجان كان آثرت بوذراع أن ترتدي لباسا عاصميا بعد تفكير طويل، حيث أكدت في العديد من اللقاءات أنها استبدلت “القندورة” القسنطينية التي تمثل مسقط رأسها بـ”الكاراكو” العاصمي لكي لا يعتبر خيارها جهويا، واستبدلت “محرمة الشعر” بالخمار، تحدياً منها لقرارات منع ارتداء الحجاب في المدارس وأماكن العمل في فرنسا، فكانت أول ممثلة محجبة تمشي على البساط الأحمر لمهرجان كان السينمائي.
فيلم “الخارجون عن القانون” توج بذهبية مهرجان دمشق السينمائي كأحسن عمل أجنبي، إضافة إلى جائزة أحسن عمل عربي أيضا بما أنه إنتاج مشترك، حيث استلمت الفنانة بوذراع درعي الجائزتين بنفسها، وقالت في كلمتها آنذاك إنها مثلت اقتباسا لأعمال محمد ديب، لهذا شكرت بوشارب لأنه أعطاها فرصة ثانية لتمثيل الإنسانية من خلال هذا الفيلم.
المتمعّن في شخصية الفنانة الراحلة يكاد يجزم بأن الأقدار أرادت لها أن تكون مرتبطة برسالة الأم والمرأة الأرملة المكافحة والمناضلة من أجل وطنها وأسرتها، فقد تزوجت شهيد الحرية صالح بوذراع بقسنطينة، بعدما تعرف عليها في نضال الثورة التحريرية، فكانت سنده كزوجة وكرفيقة سلاح، وأنجبت منه خمسة أبناء وعاشت معه إلى غاية استشهاده قبيل الاستقلال عام 1961.
قالت عنه في أحد تصريحاتها “الشيخ صالح كان رجلا طيبا، منفتحا جدا وغير متعصب، ويعطي قيمة للعلم وللفن والحياة بصفة عامة، ما دفعها إلى العيش معه في مودة، وإنجاب خمسة أطفال منه، ومقاسمته الحياة إلى غاية استشهاده”.
ويبدو أن قدر الترمّل لاحقها في حياتها الخاصة، قبل أن يلاحقها في أدوارها الفنية، ولذلك ظهرت كثيرا في شخصيات الأم والأرملة والمربية والمناضلة والمرأة المعوزة، وإذ كان الأمر خيارات مخرجين ومنتجين، فإن شافية بوذراع حملت في حياتها معاناة المرأة الجزائرية، فاستحقت بذلك لقب “أم الجزائريين”.