مكاسب السلطة الفلسطينية من غياب حماس عن مشهد أبوعاقلة

لأول مرة منذ سنوات تقدر السلطة الفلسطينية على سحب البساط من تحت أقدام حماس في موضوع اغتيال، وهذه المرة لم تتحمس حماس للدفاع عن شيرين أبوعاقلة، فهناك حساسية عقائدية وحزبية جعلت الحركة ذات الخلفية الإخوانية تعتبر موضوع الصحافية كعنصر هامشي، ما فسح المجال لعودة سلطة عباس إلى الواجهة ولو في حدث محدود.
لم تستطع حركة حماس المزايدة السياسية، بالطريقة التي اعتادت عليها، في عملية استشهاد الإعلامية الفلسطينية شيرين أبوعاقلة، واكتفى قادتها بعبارات عزاء تقليدية وتصريحات معلبة للتنديد، وجّهت غالبيتها إلى مقرات المحطة الفضائية التي تعمل بها الراحلة في الدوحة أو بيروت، وغابت المشاركة الملموسة عن مشهد الوداع المهيب في جنين الجمعة، والذي حفل بالرفض الواضح لتصرفات قوات الاحتلال.
حققت السلطة الفلسطينية وحركة فتح مكاسب سياسية متفرقة وتصدّر القادة مقاطع كثيرة في المشهد العام، وتعامل هؤلاء مع الراحلة على أنها ابنة من أبناء القيادة الحالية في رام الله، وبدا التوظيف السياسي للمشاعر الجياشة التي حفل بها مشهد الإعدام الذي نفذته إسرائيل ظاهرا في إدانات عدد من المسؤولين التابعين للسلطة الوطنية، ومحاولة تسجيل بعض النقاط في مرمى إسرائيل في توقيت مهمّ، والاستفادة من الرفض الدولي لانتهاكات الاحتلال التي قادت إلى استشهاد الإعلامية الفلسطينية.
رحلت شيرين أبوعاقلة وخلّفت وراءها الكثير من الدروس السياسية التي تؤكد براغماتية بعض القوى الفلسطينية في تعاملها مع المحكات المهمة، فالجريمة بشعة وحملت انتهاكا لمعايير حقوق الإعلام في أداء العاملين به لواجبهم من خلال الحصول على المزيد من الحرية، لكن الطريقة التي أدارت بها حماس الموقف غلّبت فيها المنظومة الأيديولوجية على الوطنية، ما يكبدها خسائر في المدى المنظور.
الواضح أن عدم تركيز الحركة وقلة اهتمامها بفحوى عملية الاغتيال تأثر بما تردد حول ديانة الراحلة، حيث فتح متشددون جدلا صاخبا بشأن انتمائها إلى الديانة المسيحية ومدى جواز الترحم عليها أم لا؟ وهل تدرج في عداد الشهداء أم لا؟
وقد جرى طرح مجموعة من الأسئلة المترفة التي لا تتناسب مع المشهد الفلسطيني الذي يحتاج إلى إعادة اللُحمة الوطنية إليه، ومحاولة الاستفادة من هذه المواقف الراغبة في استرداد ما فقد من تماسك على مدار السنوات الماضية جراء التقسيمات الوهمية، الدينية والمناطقية والمذهبية، والتي من المفترض أن يتم تجاوزها في خضم مواجهة خصم لا يفرّق بين الألوان السياسية والدينية، ويحصر هدفه في النيل من القوة المادية والمعنوية للشعب الفلسطيني.
كان على حماس أن تضاعف اهتمامها بحادث استشهاد أبوعاقلة مثل غيره، وربما تبالغ في التركيز عليه، وتؤكد أنها حركة وطنية وليست عقائدية وبعيدة عن التقييمات التي تفرّق الجماعة الفلسطينية، وانجرفت من حيث تدري أو لا تدري وراء تهويمات متباينة ربما تخرج منها خاسرة، فقد كان قنص الراحلة بهذه الطريقة فرصة لتعيد حماس علاقاتها ببعض القوى الوطنية وتؤكد أنها وحدوية قولا وعملا.
ارتفع العلم الفلسطيني في أثناء تشييع الجثمان وغابت أعلام حماس المعروفة في المواقف التراجيدية، وهي إشارة تصبّ في صالح السلطة الوطنية التي عجزت الفترة الماضية عن توفير السبل اللازمة للالتفاف حول قيادتها بعد تزايد الخلافات داخل العصب الرئيسي لحركة فتح، وتصاعدت حدة الخلاف مع الفصائل الأخرى، وفي مقدمتها حماس التي تسعى لتوسيع نفوذها في الضفة الغربية وترث فتح التي تعاني من مشاكل هيكلية في قيادتها السياسية.
وقعت الحركة في فخ الفرز العقائدي الضيق الذي يحلو للمنتسبين إليها ترديده من وقت إلى آخر، ولم تستطع الادعاء أن شيرين أبوعاقلة من روافدها أو كوادرها أو من بين العاملين معها من خلف الكواليس، الأمر الذي مكّن السلطة الفلسطينية من تعظيم استفادتها من الحادث وتحقيق أرباح متعددة هي في أشد الحاجة إليها في هذه اللحظات الحرجة، إذ تعاني السلطة من كل أمراض الشيخوخة السياسية.
حققت السلطة الوطنية مكاسب لحظية أعادت إليها قدرا من الهيبة التي خسرتها بسبب عدم وجود رؤية تساعدها على تجاوز جراحها الحركية، وحصدت دعما غير مباشر من وراء عملية الاغتيال يعيد إليها جزءا من مكانتها على الساحة الفلسطينية، حيث حملت الإدانات التي خرجت من دول مختلفة اعترافات بأن الاحتلال يتمادى في إجراءاته ضد الشعب الفلسطيني، وقد يضع الاهتمام الإنساني الطارئ قضيته على طاولة الحوار بعد مرحلة طويلة من التجاهل والنسيان.
إذا أحسنت السلطة الفلسطينية إدارة الأزمة في حادث الاغتيال ولم تفوّت الفرصة وتنتهي الهبّة العاطفية كما انتهت هبّات مثلها من قبل، فإنها يمكن أن تحقق فوائد على جبهتين، دخلت معهما في معارك مختلفة ولم تتمكن من تحقيق تفوق في أيّ منهما.

الأولى: إسرائيل التي فرضت على السلطة الفلسطينية قيودا وكبلت حركتها العامة وقطعت عنها الكثير من الأدوات اللازمة للحياة، سياسيا واقتصاديا وأمنيا، وجعلتها تعيش في عزلة كبيرة، وقلّصت مساحة تواصلها مع جهات داخلية وخارجية، وباتت على وشك أن تلفظ أنفاسها بسبب طول الفترة التي قبعت فيها داخل العناية الفائقة.
والثانية: حماس التي درجت على ركوب الكثير من موجات الاستهداف للقيادات والكوادر الفلسطينية، وحاولت من خلالها جني ثمار سياسية على حساب السلطة الفلسطينية التي بدت ردات فعلها قاصرة في أحيان كثيرة، وفي مرات عديدة، داخل الضفة الغربية أو قطاع غزة، فهي لا تفوّت الفرص العاطفية التي تضعها تحت دائرة الضوء، وتفرض على متابعي المشهد الفلسطيني المقارنة بين موقفي فتح وحماس.
يشير غياب الحركة الأخيرة نسبيا عن مشهد استشهاد أبوعاقلة وتوابعه السياسية إلى عدم قدرتها على إقناع الناس بالمتاجرة بسيرة الراحلة والحديث عن وجود علاقة معها أو ادعاء أنها تربت في صفوفها الخلفية وقامت بتلقينها أبجديات العزيمة والإصرار والتصدي لقوات الاحتلال، من واقع أن حماس تريد دوما احتكار العمل المقاوم بشتى صوره، وهي سردية عملت كثيرا على ترسيخها في الوجدان العربي العام.
لأول مرة منذ سنوات سحبت السلطة الفلسطينية البساط من تحت أقدام حماس، ليس لأنها تملك من الأدوات ما يساعدها على توجيه ضربات معنوية لها، بل لأن الحسابات الضيقة هي التي قادت إلى هذه النتيجة، فالصراع الحاد الذي يخوضه الطرفان أدى إلى هدم بعض البنى الرئيسية التي تستمد القضية الأم أهم معالمها منها.
أكدت تصورات قادة حماس أنهم يرضخون إلى تقديرات ضيقة تتعلق برؤية الجناح المتشدد الذي لا يهتم سوى بأن تكون الحركة ذات لون سياسي واحد، وما حولها يعتبر كيانا عاجزا عن مد بصره إلى تطويق الانقسامات عندما أخفق في الاستفادة من أحد العوامل التي تمكنه من توسيع مروحته السياسية، وآثر أن يحافظ على ما يوصف بـ”النقاء” العقائدي الذي بات يضر كثيرا بالقضية الفلسطينية.
يفضي استمرار وتعميم فكرة النقاء إلى فقدان حماس واحدة من العلامات الإيجابية التي تمثل نقطة جذب خارجي كبير لما يدور في الأراضي المحتلة، ويفقد الشعب الفلسطيني ملمحا من أهم مزاياه التاريخية، تأكّد عقب حادث استشهاد شيرين أبوعاقلة، وهو ما يمنح فتح والسلطة الفلسطينية عنصرا مؤثرا على حساب بحماس.