خامنئي الذي يرى ما لا يراه الآخرون

السوريون لا يحتاجون إلى من ينكأ جراحهم المفتوحة أصلا بل يحتاجون إلى من يضمدها. ما حدث في سوريا مجزرة استمرت عشر سنوات لم يتسبب بها السوريون بل فرضت عليهم فرضا.
الخميس 2022/05/12
تشم رائحة الموت أينما ذهبت

المرشد الإيراني علي خامنئي لم يجانب الصواب عندما قال مخاطبا الرئيس السوري بشار الأسد إن “سوريا اليوم ليست هي سوريا قبل الحرب”.

خامنئي يرى ما لا يراه الآخرون، ويمتدح “نجاحات عظيمة” حققتها سوريا ويثني على مساندة الشعب السوري للنظام.

بالتأكيد لم تخن الذاكرة خامنئي، وهو يعلم أن سوريا تحولت خلال عشر سنوات إلى ساحة صراع واقتتال لقوى محلية ودولية، كانت إيران واحدة من ضمنها.

هذا الجانب المظلم لا يراه خامنئي، فماذا يعني له موت مليون، أو كل الكون، كما يقول الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم، طالما أن العمر “مش مضمون”.

المرشد الإيراني لم يقل ما قاله ساخرا. هو فعلا، لا يكترث إن مات مليون إنسان أو مات الكون كله. هو الذي تربى على ثقافة حب الموت.

السوريون على العكس من خامنئي، تربوا على ثقافة حب الحياة. إلا أن ثقافة الموت فرضت عليهم فرضا.

ما حدث في سوريا يوم الثامن عشر من مارس – آذار 2011 لم يكن مجرد صبية كتبوا شعارات على الجدران في مدينة درعا ورد فعل مبالغ فيه من رجال الأمن، إلا بمقدار ما أريد لنا أن نصدق أن حكاية حادثة المروحة التي لوح بها الباشا العثماني الداي حسين بوجه القنصل الفرنسي سببا لإعلان فرنسا الحرب على الجزائر، ومن ثم احتلالها لمدة زادت على 130 عاماً. ولم تخرج إلا بعد أن دفع الجزائريون مليون ضحية كانت ثمنا لاستقلالهم عن فرنسا.

ما حدث في سوريا مجزرة استمرت عشر سنوات راح ضحيتها مدنيون وعسكريون ورجال أمن. مجزرة لم يتسبب بها السوريون، بل فرضت عليهم فرضا

ما حدث في مدينة درعا في سوريا كان ذريعة للبدء بتنفيذ مخطط مدروس ينتظر مروحة الداي.

بالتأكيد يعلم خامنئي أن سوريا وحال السوريين فيها قبل الأحداث كان أفضل بمئة، بل بألف، مرة من الحال التي هم عليها الآن. ولكن وجدوا أنفسهم مساقين سوقا للاستجارة من الرمضاء بالنار.

رمضاء إيران وبوتين، أوقفت أطماع تركيا ومتشددين إسلاميين أرادوا إعادة أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ إلى عصور ما قبل التاريخ وتحويل مآثرها إلى كهوف تورا بورا.

ولكن حدث كل هذا بثمن.

نجت سوريا من مصير أفغانستان بعد أن أكره 6.7 مليون سوري على مغادرة بيوتهم والرحيل عن ديارهم. نجت، بعد أن أصبح 9 من كل عشرة سوريين يعيشون في فقر مدقع. نجت، واليونيسيف تناشد اليوم دول العالم تقديم مساعدات لـ6.5 مليون طفل سوري هم في أمس الحاجة إليها.

نجت، بعد أن خلف الاقتتال وراءه ركام مدن واقتصادا مدمرا.

442 مليار دولار إجمالي الخسائر المالية التي مُني بها الاقتصاد السوري بعد ثماني سنوات من الحرب فقط، وفق تقديرات نشرتها الأمم المتحدة في سبتمبر – أيلول 2020.

98 في المئة قيمة تدهور سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار في السوق السوداء خلال العقد الأخير.

60 ضعفاً ارتفع ثمن كيس الخبز منذ اندلاع النزاع.

300 ليرة سورية ثمن بيضة واحدة مقابل ثلاث ليرات عام 2011.

 70 في المئة من محطات الكهرباء وخطوط إمداد الوقود توقفت عن الخدمة بسبب القتال.

ثلث المدارس دمر أو استولى عليها مقاتلون، بينما دُمّر أو تضرر أكثر من خمسين في المئة من البنى التحتية الصحية.

المرشد الإيراني لم يقل ما قاله ساخرا. هو فعلا، لا يكترث إن مات مليون إنسان أو مات الكون كله. هو الذي تربى على ثقافة حب الموت

يحتاج السوريون اليوم إلى 400 مليار دولار على الأقل لإعادة إعمار بلادهم وإرجاعها إلى سابق عهدها. وهذا بالطبع لن يعيد إلى الحياة الآلاف من الضحايا الذين فقدوا في الاقتتال.

السوريون لم يمشوا بأقدامهم طوعا إلى التهلكة، بل سيقوا إليها سوقا، وما حدث كان لا بد أن يحدث، لأن ما خطط له كان أكبر من قدرتهم على تلافيه.

الثمن الباهظ الذي دفعه السوريون يجب ألّا يذهب هباء منثورا. وهو بالفعل لم يذهب هباء، بل بقي مزروعا بالأرض.

لقد نبهت سوريا الدول العربية إلى مخاطر الوقوع في مستنقع التشدد، وها هي دول طالما عرف عنها دعمها للمتشددين تحاول التبرؤ منهم. حتى بروتوس تركيا، رجب طيب أردوغان، يحاول أن يتبرأ اليوم من الإخوان وتفرعاتهم. وكذلك يفعل حكام قطر.

ولكن، هل يتخلى الذين وضعوا المخطط منذ البداية عن أحلامهم، ويتركون للصلح مكانا لتعود سوريا إلى مكانها الطبيعي بين الدول العربية؟

بالطبع لا. والدليل إخراجهم لفيديو يسجل ما قالوا إنه مجزرة ارتكبت عام 2013 راح ضحيتها عشرات من السوريين الأبرياء، في محاولة لثني الأيادي الممدودة باتجاه سوريا. وإبقاء جراح السوريين مفتوحة تنزف.

هل يحتاج العالم إلى مثل هذا الدليل ليعلم أن الساحة السورية شهدت العديد من المجازر؟

ما حدث في سوريا مجزرة استمرت عشر سنوات راح ضحيتها مدنيون وعسكريون ورجال أمن. مجزرة لم يتسبب بها السوريون، بل فرضت عليهم فرضا.

بالتأكيد “سوريا اليوم ليست هي سوريا قبل الحرب”، ولكن ليس بالمعنى الذي لمح إليه خامنئي. والسوريون أكثر من يدرك ذلك.

لا يحتاج السوريون اليوم إلى من ينكأ جراحهم المفتوحة أصلا، بل يحتاجون إلى من يضمدها. ويحتاجون قبل كل شيء إلى المصالحة، فهم جميعا ضحايا مؤامرة لم تكن أحداث درعا فيها سوى مروحة.

9