حرف يدوية تعود إلى سوريا بعد الحرب

رتي السجاد وتبييض النحاس يزدهران في غياب القدرة الشرائية للسوريين.
الأربعاء 2022/05/04
أنامل شابة

تقول العرب إن الحاجة أم الاختراع، وهي أيضا تعيد حرفا ومهنا قديمة كادت تنقرض بفعل التطور والمكننة، ففي سوريا عادت مهن مثل رتي السجاد بعد أن أصبح السوريون عاجزين عن شراء الجديد منه، كذلك عادت مهنة تبييض أواني النحاس بعد أن غطاها الغبار في الرفوف.

حلب (سوريا) - بسبب الأزمة التي عصفت بسوريا خلال سنوات الحرب كادت بعض المهن اليدوية أن تنقرض، إلا أن الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها السوريون حاليا ساهمت في كتابة الحياة لها من جديد وعادت إلى الواجهة، بل وازدهرت أكثر مما كانت عليه قبل عام 2011، لأن الناس لم تعد لهم القدرة الشرائية لاقتناء الجديد من المستلزمات لارتفاع سعرها وندرتها أحيانا.

وكانت أعمال إصلاح السجاد أو ما يعرف بـ”رتي السجاد” أو تبييض الأدوات النحاسية تدور إلى حد كبير حول إصلاح السجاد اليدوي القديم جدا والمكلف، أو إعادة الحياة إلى بعض الأواني النحاسية التي تحمل إرثا تاريخيا معينا، وتلك الأشياء كانت تعتبر تراثًا أو كنوزا فنية لقيمتها التاريخية.

وكان صانعو السجاد اليدوي يتفننون في تقديم أعمال متميزة، كما الفنانين التشكيليين الذين يرسمون لوحات فنية جميلة، وكانت تلك الأعمال تلفت الانتباه، ولكن مع مرور الوقت ونشوب الحرب باتت صناعة السجاد اليدوي نادرة، وبات صعبا على الناس شراء هذا النوع لغلاء ثمنه.

عمر الرواس رجل يبلغ من العمر 44 عاما ورث هذه المهنة عن أسلافه، ويتمتع بموهبة فنية كبيرة والتزام، حيث يجلس في ساحة ورشته الكائنة في أحد أسواق مدينة حلب شمال سوريا ويقوم بربط العقدة تلو الأخرى من خيوط منسوجة من الصوف والحرير نسجها أناس بارعون قبل عشرات السنين.

ويفتخر الرواس، المحاط بعدد لا يحصى من السجاد القديم، بمهنة إصلاح القطع الفنية القديمة، فهو يُظهر معرفة رائعة بأنواع مختلفة من السجاد من مناطق مختلفة من العالم، مثل السجاد الإيراني القادم من مشهد وتبريز وأراك وأصفهان وكاشان وكرمان وغيرها.

نعود إلى أوانينا القديمة
نعود إلى أوانينا القديمة

ويصف الرواس عمله بأنه يشبه عمل الفنانين الذين يقومون بإصلاح اللوحات الفنية القديمة، ويرى أن عمل “الرتي” قد يستغرق شهورا لإنهاء إصلاح التلف في السجاد اليدوي القديم اعتمادا على الحجم ومدى تعقيد العقد وكذلك مطابقة تركيبة اللون الصحيحة.

ويحتل السجاد اليدوي الفاخر مكانة عالية في سوريا ويعتبر تراثا لأنه ينتقل من جيل إلى آخر، ولهذا ظهرت مهنة إصلاحه لحماية مثل هذه الأشياء القيمة.

وكان نساجو السجاد في سوريا يصلحون فقط هذه الأنواع من السجاد، والتي قطعت شوطًا طويلاً منذ الأيام التي كان يتم فيها تصميم السجاد يدويًا على عكس السجاد المصنوع آليًا اليوم، وهو أرخص إلى حد كبير ولغرض وضعه على الأرض فقط في فصل الشتاء البارد لإضفاء نوع من الدفء.

وبما أن الأزمة السورية قد أثرت على جميع مناحي الحياة في سوريا، لاسيما الأزمة الاقتصادية التي نتجت عن سنوات الحرب الطويلة والعقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضتها الولايات المتحدة على دمشق، فإن عدد النساجين البساطين قد ارتفع بعد أن انخفض بشكل كبير خلال الحرب، لأن الناس حاليا يقومون بإصلاح أي سجاد لأنهم لا يستطيعون شراء الجديد.

وأشار الرواس إلى أن مهنة إصلاح السجاد يتم توارثها من الآباء والأجداد، ويتم توريثها للأبناء وهكذا، لأنها باتت مهنة نادرة، ومزدهرة في ذات الوقت، بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها الناس.

مهنة المبيّض أو تبييض الأواني النحاسية كانت مهددة بالانقراض

وقال الرواس لوكالة أنباء شينخوا "وسط الارتفاع الحاد في الأسعار بدأ الناس في إصلاح السجاد الذي لا يقومون بإصلاحه في العادة قبل نشوب الأزمة، وخاصة تلك المصنوعة بواسطة الآلات، ولكن بعد تردي الوضع الاقتصادي، أقوم حاليا بإصلاح السجاد المصنوع آليا".

وعبر الرواس عن أسفه لأنه يقوم الآن بإصلاح السجاد المصنوع آليًا، متذكرًا الأيام الخوالي عندما كان يتلقى سجادا قيما من خارج البلاد لإصلاح أو نسج السجاد اليدوي الذي كان سيشتريه السائحون الذين اعتادوا المجيء إلى سوريا عموما وحلب خصوصا، لكونه يشكل تراثا سوريا قديما وعريقا.

وقال الرجل الأربعيني "قبل الحرب، كانت لدينا سياحة وسياح يأتون كمجموعات أو حتى مغتربين سوريين يأخذون الهدايا من حلب لأصدقائهم في الخارج، وكان لدينا عمل جيد، الآن تراجع العمل بشكل كبير".

وعلى الرغم من قيام الكثير من الناس بإصلاح سجادهم هذه الأيام وسط عدم القدرة على شراء سجاد جديد، فإن الرواس يخشى من أن تتجه هذه المهنة نحو الانقراض لأن الشباب في البلاد غير مهتمين بمثل هذه المهن التراثية القديمة، مبينا أن هذا الفن اليدوي الجميل يتطلب الصبر والمهارات العالية.

وقال إن "هذه المهنة تتجه بالتأكيد نحو الانقراض لأنه لم يبق أحد يعتني بها لأن الشباب لم يعودوا مهتمين بالحرف اليدوية التقليدية القديمة"، مؤكدا أن العمل اليدوي يحتاج إلى إتقان المهارات أولاً ثم يأتي المال.

وأشار إلى إنه يعمل على نقل مهاراته وشغفه بهذه المهنة إلى أبنائه، قائلا إنه بمجرد أن يحبها أطفاله، سيكونون متحمسين لمواصلة هذا الإرث.

وأضاف "أشعر بالحزن لأنني بذلت الكثير من الجهد في الاستمرار في المحافظة على إرث أجدادي، ولكن إذا رفض أطفالي تعلم ذلك، سأكون حزينا لأن كل شيء سيذهب سدى". وتابع "لكنني أحاول أن أضع حب هذه المهنة في قلب ابني لمعرفة قيمتها لأنه عندما يحبها سيعرف قيمتها الحقيقية".

ومع ذلك، ما تزال لدى الرواس آمال بعودة السياحة إلى طبيعتها في سوريا في يوم من الأيام، ويعود الطلب على شراء السجاد اليدوي، وتنتعش هذه الحرفة ويعاد إليها ألقها الماضي.

وقال "لدي آمال كبيرة في أنه إذا عادت السياحة إلى سوريا، فإن عملي سوف يزدهر لأن الناس يحبون رؤية المصنوعات اليدوية في حلب وسوريا".

وعلى بعد أمتار من محل الرواس، تسمع أصوات طرق المطارق على أوعية نحاسية أو صوتا يشبه حفيف أوراق الشجر، لتجد أن رجلا خمسينيا يجلس حاملا بيده مطرقة صغيرة، ويقوم بالطرق على وعاء نحاسي متوسط الحجم بغية إصلاحه وتبييض الصدأ الذي اعتلاه بسبب الظروف الجوية وعوامل الزمن.

حرفة الأجداد.. كيف لنا أن ننساها
حرفة الأجداد.. كيف لنا أن ننساها 

وقال إياد المبيض (56 عاما)، الذي اكتسب كنيته من عمله، “اكتسبت هذه المهنة من والدي والذي أخذها بدوره عن جدي”، مؤكدا أن مهنة المبيّض أو تبييض الأواني النحاسية كانت مهددة بالانقراض، إلا أن الظروف الاقتصادية الحالية التي يعيشها السوريون ساهمت في إعادتها إلى الحياة، لأن النحاس أصبح باهض الثمن، وأغلب العائلات الحلبية تمتلك أواني نحاسية هي تراث من الأجداد.

وأشار المبيض إلى أن النحاس له تاريخ قديم، وأنه يعمل حاليا على إصلاحه وتبييضه ليكون جاهز للاستخدام، مبينا أن الكثير من العائلات عادت إلى استخدام الأواني النحاسية لعدم قدرتها على شراء الأواني الجديدة.

وبدوره أكد نورس محمد عضو الجمعية الحرفية للمهن اليدوية في سوريا أن المهن اليدوية القديمة يجب أن تبقى لأنها تمثل ذاكرة تراثية لسوريا.

وقال إن "هناك مهنا يدوية ازدهرت خلال الأزمة السورية، وعادت إلى الواجهة بقوة، ومنها مهنتا إصلاح السجاد وتبييض الأواني النحاسية، وترميم اللوحات الفنية القديمة التي كانت موجودة في البيوت والتي تضررت بفعل الحرب"، معربا عن سعادته بعودة تلك المهن إلى الحياة من جديد. وأوضح أن الجمعية الحرفية تقوم بتوثيق المهن اليدوية المهددة بالانقراض، وتعمل على تقديم كل ما يلزم لها لتبقى موجودة.

18