حرية على المقاس

لعقود كثيرة كنا نحن العرب نرى في الديمقراطية الغربية طريقنا إلى الخروج من عالمنا الثالث إلى عالم ثان ثم أول. وسيطرت علينا اليوتوبيا التي ترى أن الغرب ليس لديه أسرار وأن كل شيء تتم مناقشته في العلن، وأن ناسه لا يخافون الحقيقة. وتلك هي الحرية الحق.
لكن القانون الأوروبي الجديد الخاص بمراقبة مواقع التواصل وإلزامها بإزالة أي محتوى غير قانوني يظهر أن صدر الغرب لا يسع الاختلاف في الرأي ويريد الحفاظ على سردية واحدة ويلزم بها مختلف المنصات مثل غوغل وفيسبوك وأمازون وتويتر وتيك توك، سردية تضع لك حدودا لا تتحرك خارجها في السياسة والإعلام والتجارة وحتى الأحلام.
بدا الأمر الآن أكثر جلاء مع روسيا، حيث صارت مختلف المنصات تسمح برواية واحدة سواء من خلال التغريدات أو الفيديوهات. ليس أمام المتلقي سوى الرواية الأميركية – الأوكرانية. صارت كل القضايا ممنوعة، لا أحد يتكلم، لا أحد يرى، فأين حرية الرأي والحق في الحصول على المعلومة.
فقط يسمح به في استهداف الآخر والتشهير به.
بماذا يختلف الغرب في فرضه الرؤية الواحدة على الآخرين عن الأنظمة التي يصفها بالاستبدادية والديكتاتورية؟ أليس من حقها هي أيضا “صنصرة” المحتوى والتحكم فيه والسماح بنشر التقارير التي تمدحها وتصور نجاحها؟
بماذا يختلف عن المجموعات الدينية المتشددة التي لا تقبل سوى بسرديتها داخل المجتمع، مثلما يجري حاليا في أفغانستان، حيث تمنع حركة طالبان حق النساء في التعليم والعمل وحتى مجرد الخروج من البيت؟
وتنص القواعد الأوروبية الجديدة على الالتزام “على وجه السرعة” بإزالة أي محتوى غير قانوني بمجرد أن تأخذ المنصة علماً بوجوده على صفحاتها. كما تلزم الشبكات الاجتماعية بتعليق حسابات المستخدمين الذين ينتهكون القانون “بشكل متكرر”.
وكان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، الذي كان لمواقع التواصل الفضل الأكبر في نجاحه بحكم الولايات المتحدة لدورتين متتاليتين، قد حمل بدوره على المنصات المختلفة. وقال إنها ضخمت “أسوأ غرائز الإنسانية” وكانت “أحد الأسباب الرئيسية لضعف الديمقراطيات”.
وبشكل عام، فإن القلق من مواقع التواصل المختلفة يظهر أن العالم الأول وجد لنفسه أرضية مشتركة مع العالم الثالث الذي كان ينتقده ويزايد عليه ويتهمه بتكميم الأفواه وأنه لا يحتمل المعارضين. الآن، وفي أول اختبار جدي، الغرب لم يجد لديه البال الواسع الذي يتحمّل به رواية مختلفة للأحداث تقدر على منافسة روايته التي تجد كل الدعم وتهيمن على المشهد وتضع لنا ضوابط حياتنا وطريقة أكلنا ولباسنا وأفق أحلامنا.
وعاد الغرب الرسمي الآن إلى مقاربة العالم الثالث للحرية حسب الظروف والمصالح: أي حرية على المقاس.