صواريخ مجهولة النسب تنطلق من قطاع غزة باتجاه إسرائيل

لا أحد يريد أن يتحمل مسؤولية الصواريخ التي تطلق بشكل محدود من غزة. فالأمر لا يخرج عن حيلة هدفها الوقوف في مرحلة دون الحرب والحفاظ على أبواب الحوار والوساطات مفتوحة. حماس تريحها هذه اللعبة وإسرائيل كذلك، لأنها تجنب الطرفين توسيع دائرة التوتر وخوض حرب قد يكون وقتها لم يحن بعد.
تؤكد الصواريخ المحدودة التي أطلقت من قطاع غزة باتجاه إسرائيل الأيام الماضية أن عناوين الجهة التي أطلقتها معروفة، لكن أصحابها لا يريدون الدخول في مواجهة مباشرة مع قوات الاحتلال، وغير قادرين على تحمل التكاليف الأمنية والسياسية لها، وهو ما جعل بعض الدوائر الفلسطينية تستعيد العبارة التي يتم تداولها في مثل هذه الحالات، وتوصف بـ”الصواريخ اللقيطة” أو مجهولة النسب كدلالة على عدم وجود أب شرعي لها.
تلخص العبارة المعاني التي تنطوي عليها الحالة الصراعية بين إسرائيل وفصائل فلسطينية ترفع شعار المقاومة المسلحة، وتعكس أيضا عدم الاستعداد للانجرار إلى حرب جديدة قد يدفع سكان القطاع ثمنا غاليا لها، كما يشير رد الفعل الإسرائيلي عليها إلى عدم الرغبة في توظيفها لتوسيع نطاق التوتر ليشمل الضفة الغربية وغزة في آن واحد.
تعلم إسرائيل عناوين الجهة التي أطلقت الصواريخ، لأن هناك جهتين تملكان هذه القدرة، هما حركتا حماس والجهاد الإسلامي، إلا إذا كانت هناك جهة ثالثة مجهولة تشكلت مؤخرا ولم تعلن عن نفسها، وهو خيار مستبعد، لكن إسرائيل لم تلجأ إلى الإعلان صراحة عن مصدر هذه الصواريخ لأن تأثيراتها المادية محدودة وأُطلقت كنوع من التحرش العسكري للفت الأنظار أكثر من توسيع نطاق الاشتباكات.
إسرائيل تعلن غلق معبر بيت حانون (إيريز) وعدم إتاحة الفرصة للآلاف من الفلسطينيين في القطاع للانتقال إلى الضفة الغربية للعمل والعودة يوميا
تسببت الصواريخ مجهولة النسب في غلق الرئة الرئيسية لغزة التي تتنفس منها شريحة من العمال البسطاء، إذ أعلنت إسرائيل غلق معبر بيت حانون (إيريز) وعدم إتاحة الفرصة للآلاف من الفلسطينيين في القطاع للانتقال إلى الضفة الغربية للعمل والعودة يوميا، وهو ما يمثل ضغطا معنويا وماديا على حماس التي تحكم سيطرتها على غزة منذ سنوات.
تبدو لعبة شد الحبل بين الحركة وإسرائيل حتى الآن محكومة بضوابط محلية وإقليمية ودولية، فلا أحد يريد أن تتحول الاشتباكات في القدس إلى انتفاضة شاملة في الضفة أو حرب واسعة في غزة، فكلاهما يعيد إلى الواجهة أجواء سياسية لا تفضل أطراف عديدة حاليا استعادتها، لأن الانفلات هذه المرة قد تصعب السيطرة عليه.
تنسف الفوضى في هذا التوقيت الكثير من الجهود التي تبذل لترميم العلاقات بين إسرائيل ودول عربية، وتحرج قوى كبيرة منهمكة في الحرب بين روسيا وأوكرانيا تعمل لأجل عدم تسليط الأضواء على جيب صراعي آخر، ولذلك اندفعت أطراف عدة نحو احتواء الموقف والعمل للحيلولة دون اندلاع حرب في غزة.
تنأى حماس بنفسها عن خلق الذرائع المناسبة لتخرج قوة الآلة الإسرائيلية عما يبدو أنه نوع من ضبط النفس فتأتي على جزء مهم من المعدات العسكرية التي تحتفظ بها كتائب عزالدين القسام، وتواجه حكومة نفتالي بينيت عواصف سياسية داخلية لا توفر لها رفاهية الدخول في حرب على غزة تعلم كيف تبدأها وربما لا تعلم كيف تنهيها وبالطريقة التي تحقق أهدافها.
ولا تميل حركة الجهاد إلى الإعلان عن مسؤوليتها مباشرة للصواريخ “اللقيطة” خوفا من أن تثبت أنها الذراع العسكري لإيران في القطاع أو كمن يمنح طهران مساحة للحركة السياسية بإلهاء إسرائيل عنها وتتمكن من إنهاء صفقة توقيع اتفاق نووي جديد مع الدول الغربية، وتؤكد حركة الجهاد أن تصوراتها للقضية الفلسطينية تخدم قوى إقليمية ولا تخدم المصالح الوطنية.
تعد الصواريخ مجهولة النسب صيغة مريحة لأطراف تعمل داخل غزة وخارجها، فالإعلان عن الجهة أو الجهات التي تقف خلفها يدفع إسرائيل إلى استهدافها وتوجيه المزيد من الضربات لها وينقل الصراع إلى مرحلة أعلى في ظل ما يشبه اتفاقا ضمنيا لا يريد كثيرون خرقه لأنه يشعل الأوضاع في غزة ويزيد الموقف سخونة في القدس.
يظل السؤال المحوري الذي يتردد في الكواليس، هو إلى متى يمكن أن يصمد التوازن الهش والمحاط بكل أنواع الخطر، حيث تتوافر له بنية أساسية متنوعة قد تدفعه ليخرج عن نطاق التحكم في أطرافه، ففي لحظة معينة يمكن أن تسعى حماس أو إسرائيل لقلب الطاولة ويتم الإعلان عن الأب الشرعي للصواريخ.
إذا التزم كل طرف بالضوابط الحاكمة للصراع، من بينها عدم الإسراف في الصواريخ والرد عليها، يمكن أن تبقى الصواريخ “اللقيطة” صيغة مناسبة، وإذا حافظت الأحداث في القدس على مستوى منخفض من الاشتباكات وجرت فرملة اندفاعة المتطرفين الإسرائيليين ربما تظل هذه الصيغة مستمرة لبعض الوقت.
أما إذا تحولت الاشتباكات في القدس إلى انتفاضة تعم الضفة الغربية لن تكون أي جهة بحاجة إلى إطلاق صواريخ من غزة مجهولة أو معروف نسبها، لأنها تجهض الرسائل السياسية التي تحملها الانتفاضة الجديدة، وتصبح أضرار الصواريخ أكثر من نفعها.
فتحت التعقيدات الظاهرة في التعامل مع الأوضاع الحالية عيون قوى مختلفة على الخطورة التي تكتنف تجاهل القضية الفلسطينية والتعامل معها على أنها من الماضي، ففي كل تصعيد يحدث في الضفة الغربية أو غزة تطفو على السطح ويتذكر العالم أن هناك أقدم احتلال في المنطقة لا يزال جاثما ولا أحد يفكر بجدية في البحث عن طريقة لوقفه أو وضع حد للتمادي فيه، فعدم وجود حل لهذه القضية سوف يمثل عائقا أمام أي من المشروعات الإقليمية الطموحة التي تريد أن تكون شريكا رئيسيا فيها.
حركة الجهاد لا تميل إلى الإعلان عن مسؤوليتها خوفا من أن تثبت أنها الذراع العسكري لإيران في القطاع
ما جرى التخطيط له منذ سنوات وما تم قطعه من مسافات إيجابية بين إسرائيل ودول عربية قد يتهدم على الصخرة الصلبة للقضية الفلسطينية، وهذه واحدة من الحقائق التي تؤكدها أحداث القدس وما تلاها من تداعيات، فمهما بلغت أهمية المصالح التي تنسج مع إسرائيل لن يكتب لها نجاح أو استمرار ما لم يتم الشروع في فتح طاقة أمل لحل هذه القضية، فكل المسارات سوف تتعطل في أول اصطدام قوي بها.
تجسد الصواريخ مجهولة النسب طبيعة التفاعلات السلبية التي يمكن أن تحدث في المنطقة إذا لم تكن هناك علاقة قوية بين ما يجري من تعاون عربي مع إسرائيل والقضية الفلسطينية، فالعلاقة طردية وليست عكسية، فكل خطوة في الأولى تصطحب معها خطوة في الثانية، لأن التجاهل يسمح بتكرار مسرحية الصواريخ بصيغها المختلفة.
تصلح الإدانات الرسمية التي خرجت من دول عربية حيال خروقات إسرائيل في المسجد الأقصى للقياس عليها بشأن الخسائر التي يمكن أن تحدث إذا تم الفصل بين مساري التعاون والحل، وهو منحى ألحت عليه إسرائيل منذ انطلاق قطار عملية السلام في مدريد بداية التسعينات من القرن الماضي ولم يجد آذانا عربية صاغية.
يغري الخلل الحاصل في توازنات القوى إسرائيل وحلفاءها بالعودة إلى هذا المنحى، لكن الصدامات التي حدثت في القدس والصواريخ التي تظهر وتختفي فجأة تؤكد الحاجة إلى الربط بين الطريقين قبل فوات الأوان والعودة إلى نقطة الصفر، فالمجهود الذي يبذل في البحث عن قواعد التسوية الغائبة للقضية الفلسطينية سوف يكون أقل من التكاليف الباهظة المتوقع دفعها في تعاون يمكن أن تتهشم جدرانه عند أول صراع حقيقي يحدث بين القوى الفلسطينية وإسرائيل.