هل قدمت صحيفة "ليبرتي" قربانا للنظام الجزائري للحفاظ على إمبراطورية ربراب الاقتصادية

قررت صحيفة “ليبرتي” الاختفاء نهائيا من المشهد الإعلامي الجزائري بعد مسيرة دامت ثلاثة عقود كاملة كانت خلالها تمثل أحد أقطاب الصحافة الورقية في الجزائر، وعاشت خلالها مختلف المراحل والتجارب، بما فيها العشرية الدموية. غير أن اختفاء الصحيفة في أجواء من الاستغراب والدهشة اعتبر تحولا مفصليا في مسار الإعلام الجزائري، كون الصحيفة ظلت منبرا استثنائيا في مواجهة توجهات السلطة وخياراتها. واختفاؤها قد يكون نهاية للرأي الآخر في المشهد السياسي والإعلامي في الجزائر.
الجزائر - وَدَّعَت صحيفة “ليبرتي” الناطقة بالفرنسية والمملوكة لأغنى أغنياء الجزائر قراءها بصدور عددها الأخير الخميس.
كانت الصفحة الأولى من الجريدة تشبه إعلان الوفاة، وتم شطبها بخط أسود، واحتوى العنوان الرئيسي عبارة “شكرا وداعا” باللون الأحمر، وهي المفردات القصيرة التي اختصرت انتكاسة قوية لحرية التعبير والإعلام في الجزائر، خاصة وأن الصحيفة كانت من بين العناوين الورقية التي دشنت عهد التعددية الإعلامية بالجزائر العام 1992، وشهدت ميلاد المكسب الديمقراطي المهدد حاليا تحت مختلف الإكراهات.
وكتب في الصفحة الأولى “بعد 30 عاما من المغامرة الفكرية، ليبرتي تنطفئ”.
كما وقع رسام الكاريكاتير الشهير في الصحيفة علي ديلم رسمه الأخير في اليومية برسوم كاريكاتورية تمثل نعشا خشبيا يحمل اسم “ليبرتي” وتوضع عليه مطرقة ومسمار تحت عنوان “الإغلاق الأخير”.
وجاء في افتتاحية الصحيفة “أُسقط الستار على صحيفة “ليبرتي”، صحيفتنا، وصحيفتكم، التي حملت على مدى ثلاثين عاما مُثُل الديمقراطية والحرية وشكلت لسان حال الجزائر التي تمضي قدما”.
واكتفى مالك الصحيفة، رجل الأعمال يسعد ربراب، المالك الرئيسي للصحيفة، بتوجيه كلمة مقتضبة لموظفي وصحافيي “ليبرتي”، وللرأي العام الجزائري، ويخبرهم من خلالها عن استحالة استمرار الصحيفة في الصدور، في ظل الأزمة المالية التي تخنق المؤسسة الناشرة لها، وتأثير التطورات التكنولوجية على عائدات وموازين الصحافة التقليدية.
صحيفة "ليبرتي" تعرضت مؤخرا إلى انتقادات شديدة من الرئيس الجزائري الذي اتهمها بالانتماء إلى شعب ودولة آخرين
وقال “الوضعية الاقتصادية للصحيفة لا تسمح لها بالاستمرار طويلا، وأن الصحيفة وقعت ضحية التطورات العالمية التي أثّرت على سلوك القراء وتحولهم إلى الصحافة الإلكترونية، إلى جانب حرمانها من الإشهار، وأنه تم في عديد الأحيان تم توزيع الصحيفة بخسارة ودون هامش ربح مالي”.
غير أن الحجج التي قدمها المالك الرئيسي للمؤسسة الناشرة للصحيفة، لم تقنع لا الطاقم العمالي والصحافي، ولا المتابعين للمشهد الإعلامي في الجزائر، ولذلك ظلت الشكوك قائمة حول الخلفيات والأسباب الحقيقية لغلق الصحيفة، ورجحت بعض الدوائر أن تكون سياسية وليست اقتصادية.
وكان بيان صادر عن موظفي وصحافيي الجريدة، قد ذكر، بأن “الشركة الناشرة للصحيفة تحوز على الأموال اللازمة للاستمرار في النشر والصدور، وأنهم مندهشون لقرار المالك بغلق الصحيفة، في وقت أطلقت فيه الإدارة مخططا لتصحيح الوضعية الاقتصادية للصحيفة وتدشين موقع إلكتروني بحلة جديدة”.
ورجحت دوائر سياسية أن يكون قرار توقيف صدور الصحيفة، ينطوي على صفقة بين رجل الأعمال والسلطة، من أجل استمرار مصالحه، خاصة وأن “ليبرتي” تعتبر من المنابر القليلة جدا في الجزائر التي بقيت في إزعاج مستمر للسلطة، ولم تستبعد أن تكون العراقيل التي اعترضت بعض مشروعات واستثمارات الرجل، من قبيل خلافات الرجل مع السلطة، وهو ما كلفه السجن عام 2019.
واستبعد مصدر من داخل الصحيفة، أن تكون الأوضاع الاقتصادية والمالية هي السبب الرئيسي لقرار الغلق، لأن المؤسسة الناشرة كانت في أريحية، وأن الكثير من المؤسسات الإعلامية المتأثرة بالأزمات المختلفة

في العالم، حاولت الانتقال من الورقي إلى الإلكتروني بدل الاختفاء تماما بشكل مفاجئ ومثير، كما حدث مع “ليبرتي”.
ويمر الإعلام الجزائري بمختلف أنواعه بظروف صعبة ومعقدة غير مسبوقة، حيث يتهدد الغلق والحل العشرات من المؤسسات الإعلامية، بسبب الظروف الاقتصادية وتراجع كتلة الإعلانات التي تحتكرها في الغالب الحكومة، وسبق للعشرات من المؤسسات أن انسحبت في صمت، لكنها لم تثر أي لغط نظير مكانتها المحدودة في المشهد الإعلامي.
وفي هذا الشأن لم يستبعد الإعلامي وكاتب عمود الرأي فريد عليللات، في تصريح لقناة “تي.في5.موند” الفرنسية، أن تكون صحيفة “الوطن” الناطقة بالفرنسية، هي التي سيحين دورها لاحقا، وأن الظروف المالية للصحيفة تهددها بالغلق وبتسريح مجموع الصحافيين والعاملين، ليكون بذلك أكبر منبر إعلامي موروث عن الفترة الزاهية للتعددية تحت خطر الاندثار.
وتعتبر الصحيفتان “ليبرتي” و”الوطن” الناطقتان باللغة الفرنسية، من التيار السياسي والأيديولوجي، الذي وقف في وجه الإسلاميين والمحافظين منذ بداية التعددية السياسية وإعلامية في الجزائر، كما كانا داعمين لقرار الجيش حينها بوقف المسار الانتخابي الذي استحوذ عليه حينها إسلاميو جبهة الإنقاذ.
وظلتا توصفان إلى جانب بعض العناوين الأخرى، بـ”ذراع الضباط الجانفيين”، وعلى رأسهم جهاز الاستخبارات السابق، في إشارة إلى توقيف المسار الانتخابي المذكور في شهر جانفي، ودعمه من طرف دوائر سياسية وإعلامية مناصرة لما كان يعرف بـ”صقور الجيش”، غير أن النهاية الحالية للصحيفتين تطرح مجددا حقيقة حماية هؤلاء الجنرالات للصحف الموالية لهم، وأسباب التفريط فيهم بهذا الشكل.

وكان رئيس حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية محسن بلعباس، قد اتهم رجل الأعمال يسعد ربراب، بتقديم صحيفة “ليبرتي”، “قربانا للنظام”، وأن “غلق الصحيفة جاء من أجل إرضاء السلطة وجعلها تعدل عن قرار منعها تصدير المواد الغذائية التي تستورد البلاد موادها الأولية”، في إشارة منه إلى مادتي السكر والزيت.
وتعرضت صحيفة “ليبرتي” مؤخرا إلى انتقادات شديدة من الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون الذي اتهمها بالانتماء إلى شعب ودولة أخرى بسبب تهويلها للوضع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، على حد تعبيره. كما رفعت سونطراك، أكبر شركة في البلاد للمحروقات، دعوى قضائية ضد الجريدة، بسبب تحريف تصريحات لمديرها توفيق حكار، حيث نقلت عنه استعداد الجزائر لتعويض الغاز الروسي في حال قُطع عن أوروبا. ونفى العملاق النفطي الجزائري، في بيان له، التصريحات التي نقلتها صحيفة “ليبرتي” والتي كادت تتسبب في توتر مع الحليف التقليدي روسيا.
وسبق أن وجهت الأمينة العامة لحزب العمال لويزة حنون، في وقت سابق رسالة إلى رجل الأعمال يسعد ربراب، لتقنعه بالعدول عن قرار غلق الصرح الإعلامي العريق، وذكرت بأن “الصحيفة ليست ملكا للمساهمين أو المالك، بل إنها ملك للقراء الذين أعطوها المكانة التي تتربع عليها، وجعلوا منها تراثا وطنيا”.
وأبرزت أن “صحيفة ليبرتي، تمتلك مكانة هامة في الساحة الإعلامية الوطنية، عن جدارة واستحقاق بعد معركة دامت 30 عاما، وهي ملك للذين يبحثون عن المعلومات الموثوقة، وأن تصفية الصحيفة هو هجوم لا يطاق ضد الجميع”.