رسائل السياسة تتجه إلى منبر الدراما في مصر

عاشت مصر زمنا طويلا كان الجمهور والمراقبون والمتابعون والسفارات الأجنبية ينتظرون نشر مقال الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل (بصراحة) في جريدة الأهرام كي يفهموا توجهات السياسة المصرية في عهد الرئيس جمال عبدالناصر.
استمرت هذه العادة في عهد الرئيس أنور السادات حيث مقال موسى صبري في جريدة الأخبار عُدّ البوصلة لمعرفة الكثير من التصورات، وفي عهد الرئيس حسني مبارك كانت الصحف الثلاث الكبرى تحرص على تأكيد القرب من نظامه، حيث إبراهيم نافع في الأهرام، وإبراهيم سعدة في الأخبار، وسمير رجب في الجمهورية، وكلهم تسابقوا في أيهم أكثر تعبيرا عن نبض السياسة المصرية.
حاول بعض الصحافيين القيام بهذا الدور في عهد الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي، لكنه أبى أن يكون له كاتب بعينه يعكس توجهاته السياسية، وحاول رؤساء تحرير صحف الأهرام والأخبار والجمهورية أن يلعبوا هذا الدور وواجهوا فشلا ذريعا، ومعهم رؤساء تحرير بعض الصحف الخاصة القريبة من الدولة.
بدا السيسي حاسما في رفض الاعتماد على الصحافة المصرية وتكرار تجربة من سبقوه في أن تكون له كتيبة مفضلة يختصها برسائله السياسية أو صحف قريبة منه.
قيل إنه يحتفظ بموقف سلبي من وسائل الإعلام، والصحافة خصوصا، ولا يريد التشبه بمن سبقوه في تكرار الاعتماد على صحافي أو أكثر يصبح مرشدا لرؤاه السياسية.
تعددت الاجتهادات والتكهنات والتخمينات في هذه المسألة إلى أن تكوّن انطباع بأنه عازف عن الحوار مع الصحافة ولا يثق في جدواها وعلى مدار أكثر من خمس سنوات لم يجر حوارا مع أيّ جريدة مصرية، وقبل ذلك كانت حواراته جماعية ونادرة.
ترفض آلة الإعلام التقليدي، وفي مقدمتها الصحافة، فهم أن أدبيات العصر الرقمي غيّرت الكثير من الحسابات
عندما يريد توصيل رسالة أو التعليق على مشكلة داخلية أو خارجية يلجأ إلى الاتصال المباشر بأحد البرامج التلفزيونية الجماهيرية ويتحدث على الهواء عبر مداخلات وليس حوارات يجريها من وقت إلى آخر، ولقاءاته مع الصحافة الأجنبية أيضا محدودة.
لم يخطر على بال الكثيرين أن الرئيس المصري اختار وسيلة إعلامية مختلفة للتعبير عمّا يريد توصيله إلى المواطنين، وهي الدراما التي تحوّلت إلى أداة تعالج الكثير من القضايا التي يسعى إلى توضيحها، وظهرت في عدد من المسلسلات التي قدمت السنوات الماضية وجاءت ردود الفعل عليها جيدة محققة الأهداف السياسية المرجوة منها.
التقط القائمون على الدراما طرف الخيط وتوسعوا في الأعمال التي تعبّر عن رؤية الرئيس السيسي، السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية، بما منح الدراما مهمة واسعة لا تستطيع الصحافة القيام بها، وزادت مع توالي ما حققته من مكاسب.
وقفت الصحافة المصرية عاجزة أمام هذا الخيار، غير قادرة على التقليد لأنها لا تملك من الإمكانيات المادية والمعنوية ما يساعدها واكتفت بالحفاظ على دور لا يتماشى مع روح العصر وتطوراته التكنولوجية، وحافظت على معالجة عقيمة للكثير من الأحداث، ليس عجزا عن التحليل العميق بل خوفا من الوقوع في الخطأ لأن البعض من القائمين عليها لا يعلمون جيدا الخطوط الفاصلة بين المسموح والممنوع.
تعيش الصحافة في مصر مأزقا شديدا بعد أن اتجهت رسائل الرئاسة إلى الدراما، ورسائل الناس يتم تبادلها عن طريق المنصات الاجتماعية من خلال ما يعرف بـ”المواطن الصحافي”، ولم تحاول التفكير في إيجاد طريق وسط بين هذين، ومن حاولوا سقطوا في بئر الإثارة والتفاهة والتركيز على المضامين الشاذة.
ترفض آلة الإعلام التقليدي، وفي مقدمتها الصحافة، فهم أن أدبيات العصر الرقمي غيّرت الكثير من الحسابات، فلم يعد بث فيديو لخلاف في شارع يستحوذ على اهتمامات الناس، واستسلمت إلى أن مشكلتها تكمن في عزوف القراء عن شراء الصحف وتجاهلت أن المشكلة في عدم القدرة على تفسير ما يحدث على الساحة.
يرجع البعض العجز الفاضح عن التفسير إلى القيود المفروضة على وسائل الإعلام، والتي قلصت هامش الحرية أمام الصحافة، وهو تفسير منطقي لكنه يتجاهل أن الإعلام المصري لم يشهد عصرا زاهيا على مدار العقود الماضية، باستثناء الفترة التي تلت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 وتحولت فيها حرية الإعلام إلى ما يشبه الفوضى.
بدا السيسي حاسما في رفض الاعتماد على الصحافة المصرية وتكرار تجربة من سبقوه في أن تكون له كتيبة مفضلة يختصها برسائله السياسية أو صحف قريبة منه
يمثّل الخوف من تداعيات الفوضى المحتملة أحد المفاتيح، وليس كلها، والتي جعلت الحكومة تحرم الصحافة من جزء كبير من حريتها المطلوبة، لأن مهمة التحليل والتفسير غائبة في القضايا التي تهم الدولة وشواغلها الرئيسية.
درجت الصحافة على التعايش مع الأوضاع، ولا زلت أتذكر مقولة المفكر المصري الراحل لطفي الخولي أن كل شيء يمكن كتابته ونشره في أيّ جريدة حكومية، وكان يقصد الأهرام وقتها، لكن كيف يُكتب، وكان حديثه في بداية عقد التسعينات من القرن الماضي وحرية الصحافة تواجه تضييقا قاسيا في بعض الأحيان.
تعني المقولة السابقة أن هناك مشكلة في الصحافة والقائمين عليها تضاعف من مأزقها، ففي كل الدول التي تعيش ظروفا مثل مصر يبدو حال الصحافة فيها متشابها، وما لم يقم العاملون فيها والقائمون عليها بتحرير أنفسهم من العقد الخاصة بالمهنة وطقوسها التقليدية لن يكون لهم مكان في عالم صاحبة الجلالة (الصحافة).
لا تزال الكثير من الصحف المصرية تتعامل مع الخبر كما يصلها من دون زيادة أو نقصان ويخلو تماما من التحليل وكأن وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها والتلفزيون ببرامجه المختلفة لم يتطرقا إليه، ولم يضع المسؤولون أياديهم على قلوبهم وهم يرون أن قيمة الخبر في تحليله وتقديم تفسيرات يحتاجها القارئ.
تراجعت شكاوى بعض الصحف الكبرى في العالم من قلة التوزيع وانحسار العوائد المادية، لأنها استقرت على وصفة سحرية خاصة بالتحليل، وأصبح هناك نوع من السباق حول أيّ من الصحف يقدم زوايا مبتكرة للأحداث ويفجر قضايا عميقة، وانتهى السباق وراء نشر الخبر مجردا إلا في الصحافة المصرية فلا زال مستمرا.
إذا لم ينتبه المسؤولون عن الصحافة إلى ما تقدمه الدراما من محتوى سياسي عليهم الاستعداد لدخول عالم النسيان لأن الحفاظ على المناصب يكون بحجم ما يستطيع هؤلاء تقديمه من دور مؤثر في الرأي العام الذي لم يعد ينجذب إلى الطريقة البليدة في التعامل مع الأحداث ويميل إلى من يقدم تحليلا مقنعا وتفسيرا صائبا.
وُضع على عاتق الصحافة المصرية حمل ثقيل، وباتت مطالبة بالتطوير والبحث عن وسائل للتوافق مع الدور الذي تقوم به الدراما، وكلاهما يحتاج إلى تفكير خارج الصندوق كي تعود الدولة لتضع رهانها على عاتق الصحافة، وهي مهمة يتم تجاهلها عن عمد، لأن اللجوء إليها ينسف المنظومة الراهنة التي تتكاتف جهات عدة للحفاظ عليها.