صورية مولوجي.. أنثروبولوجية جزائرية وسط صراعات الفكر والمصالح

وزارة الثقافة الجزائرية ورغم طابعها غير السيادي في ترتيب الحقائب الوزارية، إلا أنها تبقى من أكثر القطاعات تغييرا، فمنذ سنوات لم تسجل استقرارا على رأسها، حيث تداول عليها خلال العقدين الأخيرين العديد من الوجوه بداية من خليدة تومي إلى غاية صورية مولوجي، واللافت في المسألة أن كل تلك الوجوه في المرحلة المذكورة كانت نسائية لأسباب غير معلومة ولا أحد في السلطة قدم تبريرا حول مغزى ودلالة تأنيث الوزارة.
وتعتبر الوزيرة مولوجي من الوجوه النسائية التي فرضت نفسها في المشهد الأكاديمي برئاستها لمركز البحث في الأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية بوهران، قبل أن تسند إليها حقيبة الثقافة في حكومة أيمن بن عبدالرحمن خلفا لوفاء شعلال. ذلك المركز المعروف بالاختصار اللاتيني بـ”كْرَاسك” تصفه دوائر سياسية وأيديولوجية في الجزائر بـ”بؤرة العلمانية” وتعتبر المتخرجين منه أدوات لضرب الهوية والثوابت الوطنية، ولذلك ثارت شبهات هؤلاء حول الدور المنتظر من الوزيرة المذكورة، خاصة وأنها كانت على علاقة وثيقة بالوزيرة السابقة للتربية نورية بن غبريط التي توصف بـ”العدو اللدود” للإسلاميين والمحافظين.
لم يتأخر هؤلاء في إثارة مواقف وتصريحات لمولوجي، وهي على رأس “كراسك” لإثبات المخاطر الفكرية والأيديولوجية التي تهدد القطاع الثقافي، خاصة وأن للمرأة آراء خاصة في التعاطي مع النصوص الدينية ومع تدريس الشريعة في المدراس الوطنية.
خارطة طريق بعيدا عن السجن

قرارها الصادر مؤخرا جاء ليدحض انتقادات الإسلاميين والمحافظين، وسحب البساط من مواقفهم النمطية تجاه المرأة المتفتحة، فقد وجهت مولوجي مذكرة إلى كوادر القطاع ومديري المؤسسات الواقعة تحت وصايتها لتعميم استعمال اللغة العربية.
ونصت المذكرة على “ضرورة اتخاذ كل الإجراءات الضرورية مع المصالح الإدارية لضمان تنفيذ تعليمات وزيرة الثقافة والفنون”، وأكدت الوزيرة على تعميم استعمال اللغة الوطنية في كل المراسلات الداخلية للقطاع على المستوى الوطني. ودعت إلى ضرورة التقيد إلزاما، باستثناء حالات الضرورة المبررة، باستعمال اللغة العربية في كل أعمال الاتصال والتسيير الإداري والمالي والتقني والفني، ويشمل ذلك تحرير كل الوثائق والمراسلات الإدارية والتقارير والمحاضر والاتفاقيات، مشدّدةً على أن كل المناقشات والمداولات في الاجتماعات الرسمية والملتقيات والندوات والتظاهرات لا بد أن تكون باللغة العربية، باستثناء الدولية التي يمكن فيها استعمال اللغات الأجنبية إلى جانب اللغة العربية.
قرار انضمام وزارة الثقافة إلى القطاعات التي تبنت استعمال اللغة العربية في مختلف إداراتها ومؤسساتها حمل خصوصية مميزة، كونه صدر من امرأة لم يمر على تعيينها على رأس القطاع إلا أشهر قليلة، وهو ما يترجم جرأة وشجاعة في مواجهة الأحكام النمطية التي تراكمت لدى نخب جزائرية حولت الثوابت والقيم الوطنية إلى بضاعة سياسية وأيديولوجية للتغطية على جدية واجتهاد الخصوم.
قطاع الثقافة في الجزائر على موازنته غير المغرية، ومشاكله المتشعبة، جر واحدة من وزيراته إلى السجن بتهم الفساد المالي والسياسي، خاصة وأنها محسوبة على النظام السياسي السابق، ويتعلق الأمر بخليدة مسعودي المهددة بعقوبة عشر سنوات سجنا نافذة، كما استهلك العديد من الوجوه النسوية التي اختلفت توجهاتها وأجنداتها.
الوزيرة الجديدة كشفت منذ الأيام الأولى لتنصيبها في مبنى “هضبة العناصر”، حيث مقر الوزارة، عن معالم برنامجها العملي بإيلاء أهمية لـ”المقاولاتية الثقافية”، بغية المساهمة في الاقتصاد الوطني والتنمية المستدامة، والخروج من سياسة الريع والفساد إلى بناء اقتصاد ثقافي.
وقالت إنها بصدد إعداد خارطة طريق لوضع ثقافة تشاركية وديناميكية، والعمل على تثمين الثقافة بكل مظاهرها سواء المادية أو اللامادية، وأنه سيتم إيلاء اهتمام خاص لـ”المقاولاتية الثقافية”، لأن الثقافة تعتبر إحدى أسس الاقتصاد الوطني والتنمية المستدامة، كما أن وسائل الإعلام شريك مهم لتطوير الفعل الثقافي.
الكتاب، الاختبار الأول
مولوجي التي تحمل شهادة دكتوراه في الترجمة والأنثروبولوجيا شغلت عدة مناصب في السابق، منها منصب رئيسة قسم العلاقات الخارجية وتثمين نتائج البحث في مركز وهران، ثم عينت مديرة مكلفة بالبحث العلمي. ثم أصبحت نائب مدير المركز البحث منذ سنة 2020، قبل أن تستلم مهام تسيير هذه المؤسسة المكلفة بالبحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، فضلا عن أنها أستاذة جامعية.
ورغم هذه السيرة الأكاديمية، إلا أنها لا تملك في رصيدها نشاطا سياسيا أو انتماء حزبيا، ولذلك فهي وجه أرستقراطي يراهن عليه الرئيس عبدالمجيد تبون للنهوض بالقطاع الثقافي والدفع بمجالات البحث والإبداع، بعيدا عن التجاذبات السياسية والأيديولوجية، وتلافي تجارب سابقة، كان فيها وزراء القطاع بخلفية سياسية لكنهم لم يستطيعوا تحريكه ليكون قاطرة في معركة ناعمة.
وكانت طبعة الصالون الدولي للكتاب المنتظمة بالعاصمة نهاية شهر مارس، بعد عامين من التأجيل بسبب وباء كورونا، أول اختبار للوزيرة الجديدة، خاصة وأن التظاهرة تمثل استحقاقا مهما في مسار مسؤولي القطاع قياسا بحجم المشاركة والجمهور والأنشطة الثقافية الموازية.

الوافدة الجديدة إلى “هضبة العناصر” عملت على استغلال أول استحقاق لها في سبيل إرساء قواعدها وكسب ثقة الرأي العام الثقافي بإصدار حزمة من الإجراءات التي تبرز بصمتها في قطاع النشر، خاصة وأن صالون الكتاب هو تظاهرة دولية وفرصة مواتية لمد جسور التواصل مع الفاعلين في مجال النشر.
ولذلك تم تمديد مدة الصالون ليوم إضافي بغية السماح للجمهور بزيارة المعرض والاطلاع على المنتوجات المحلية والدولية، إلى جانب وضع منصة رقمية تتيح الزيارات الافتراضية للمعرض مع إمكانية شراء الكتب عن بعد، بهدف عصرنة هذه التظاهرة وتوفير خدمات رقمية جديدة يستفيد منها كل من لم يستطع التنقل إلى فضاءات المعرض، وإتاحة الفرصة لجميع الجزائريين تشجيعا للمقروئية.
كما تم لأول مرة في تاريخ الصالون نقل فعاليات الكتاب إلى بعض الأحياء والفضاءات العمومية، لاسيما من خلال شبكة المكتبات العمومية في ولايات الوطن، والمكتبات المتنقلة، وتنشيط ورشات للقراءة ومسابقات بين الأطفال والشباب، تحت شعار “الكتاب في الشارع”، واستحداث فضاء داخل المعرض مخصص للراغبين في مقايضة كتبهم المستعملة أو إهدائها، لتشجيع هذا النوع من السلوكيات الحضارية في أوساط الجمهور.
وقد استفاد الناشرون من تدابير رئاسية تمثلت في تقليص تكاليف الإيجار للناشرين، بغية تشجيع هؤلاء على المشاركة الواسعة وإرساء عوامل ثقة في مؤسسة قصر المعارض للتخفيف من أضرار جائحة كورونا على قطاع النشر.
وهو ما أكده محافظ هذه التظاهرة الدولية للكتاب محمد إيقرب حول إدراج تخفيضات على أسعار ايجار أجنحة المعرض بالنسبة إلى الناشرين الجزائريين والأجانب معا، ولفت إلى أن الوزارة قامت بخفض أسعار استئجار أجنحة المعرض بنسبة 33 في المئة للناشر الجزائري و13 في المئة للناشر للأجنبي، وأن الدولة ألغت الرسوم وقدمت تسهيلات كبيرة للناشرين.
إدارة التوازنات وجماعات الضغط

◙ وزيرة تسعى للإفلات من لعنة التغيير المستمر
ومهما كان مصير مولوجي، سواء بالثبات أو الرحيل كما فعل الآخرون، فإن القطاع مؤهل لأن يستفيد من رصيدها الأكاديمي وأبحاثها الثقافية والاجتماعية، لاسيما وأن اهتماماتها التأليفية انصبت حول زوايا حساسة في حركية المجتمع الجزائري، على غرار دراستها المميزة حول تاريخ وتوظيفات الترجمة الحديثة وعلاقتها بالاستعمار الفرنسي. وهي تشدّد في هذا الشأن، بأن الترجمة شكلت غداة الحملة الفرنسية على بلدان شمال أفريقيا، أحد أهم الرهانات المُعول عليها في عملية تحويل معالم الهوية المحلية عن توجهاتها المكتسبة والموروثة عبر التاريخ.
وتبين مولوجي أن ذلك من أهم القنوات التي تساهم في تمرير الكينونة الفكرية في شكلها المادي، حين لعبت الترجمة أدوارا شتى تعددت بتعدد الاستخدامات والغايات، وكانت وسيلة لإطلاع الغرب على خصائص هذا المجتمع الدينية والتاريخية والثقافية. لافتة إلى أن الترجمة كانت
وسيلة اتصال وتواصل بين الإدارة الاستعمارية والأهالي في الجزائر، ولكن أيضا في تونس عند فرض الحماية الفرنسية عليها العام 1881، وكذلك أثناء فرض الحماية على المغرب سنة 1912، لذا فقد أولت الإدارة الاستعمارية في هذه الأقطار المغاربية المحتلة أهمية كبيرة للترجمة والمترجمين الذين كانوا في الغالب عسكريين، خاصة في الجزائر.
وترى الوزيرة أن حركية الاستعمار وضرورات فرض الواقع الجديد في منطقة شمال أفريقيا هي التي دفعت حركة الترجمة لأن تعرف نشاطا مكثفا في مختلف مجالات الحياة العسكرية والسياسية والقضائية، وصولا إلى مجالات الفنون والمعرفة، وهو ما أفضى بالمستعمِر إلى تحصيل ذخيرة هامة من الوثائق والمخطوطات التي انكب على ترجمتها، واعتمد عليها في صياغة أولى الكتب الاستشراقية حول الجزائر بالخصوص والبلدان المغاربية الأخرى على وجه العموم.
وهو الأمر الذي أفرز نخبة من المترجمين العسكر، وكان أول لفيف من هؤلاء يتشكل من ضباط كلفوا بمهمة معرفة الخرائط والمخططات والجغرافيا والمعالم، ما جسد الدلالات والخلفيات لتنشيط الترجمة في إطار مخطط إنجاح المشروع الاستعماري، وبناء معرفة استعمارية حول البلدان المغاربية المستعمرة على وجه العموم والجزائر بالخصوص.
ومع ذلك كلّه يبقى مدى قدرة الوزيرة مولوجي على الثبات في كرسي وزيرة الثقافة أكبر تحد أمام هذه السيدة الأنثروبولوجية، وهاجسها هو التوفيق بين التوازنات الفاعلة داخل قطاع مفخخ تتجاذبه تيارات أيديولوجية وفكرية ولوبيات ومصالح، وهو ما عصف بكل من عُيّن في هذا الموقع خلال العقدين الأخيرين، ليكون بذلك كرسيا أشد حركة وعدم استقرار مقارنة بالوزارات الأخرى، وحتى بالحقائب السيادية.

◙ هاجس مولوجي التوفيق بين التوازنات الفاعلة لتيارات ولوبيات مختلفة عصفت بالجزائر