معان سياسية لتدفق الأموال الخليجية إلى القاهرة

عادت غالبية الدول الخليجية إلى دعم الاقتصاد المصري، وبدأت في تقديم حزمة مساعدات لتغذية الاحتياطي الأجنبي في البنك المركزي، بما يشكل مساندة سياسية واضحة للنظام المصري ويمنحه دفقة مادية، لمقاومة التحديات الناجمة عن أزمات تسببت فيها تطورات خارجية، أدت إلى هزة في حسابات القاهرة الاقتصادية.
القاهرة – تلقت مصر خلال الأيام الماضية دعما تجاوز عشرة مليارات دولار بواقع خمسة مليارات من كل من السعودية وقطر، ومليارين من الإمارات، وهناك فرصة لتلقي المزيد من الأموال قريبا من الصندوقين السياديين في السعودية والكويت، كي يتمكن النظام الحاكم في مصر من مواجهة الضغوط الاقتصادية ومنع تحويلها إلى ضغوط سياسية.
ترى دوائر عربية أن العلاقة بين مصر ودول الخليج على درجة عالية من المتانة، إذ يمكن أن تحدث خلافات متفاوتة بين الجانبين ويتم احتواؤها وعدم المبالغة فيها، لمنع وصولها إلى مستوى الطلاق والقطيعة أوتحويلها إلى خصومة استراتيجية.
يقترب تدفق المساعدات من دول خليجية إلى مصر من الحالة التي عاشتها عقب سقوط حكم جماعة الإخوان في الثالث من يوليو 2013، ووقتها واجهت تحديات خطرة كادت تسقط هياكلها الرئيسية، وسارعت دول خليجية من أبرزها السعودية والإمارات إلى تقديم مجموعة مختلفة من المنح أوقفت انهيارا كان متوقعا.
حزمة المساعدات التي تتلقاها مصر من دول خليجية تسهل مهمة التفاوض على قرض ثالث من صندوق النقد الدولي بقيمة 8 مليارات دولار
تحرص دول الخليج على توفير الدعم في المحكات المصيرية، وما تواجهه مصر حاليا يدخل في هذا النطاق، وإذا لم يتم إسعافها بأنواع متعددة من المساعدات سوف تواجه مخاطر متعاظمة، فبرنامج الإصلاح الذي بدأ منذ ستة أعوام يقف في منتصف الطريق، وما لم يتلق جرعات منشطة سوف تتعرض الدولة لأزمات اجتماعية وسياسية معقدة.
تراجعت المساعدات الخليجية لمصر السنوات الماضية بسبب تراجع أسعار النفط عالميا وأزمة كورونا، والتباين السياسي في تفاصيل بعض القضايا دون أن يوقفها ذلك تماما، حيث استمر التدفق بنسب أقل من السابق بما يتواءم مع الأهداف المرحلية.
جاء لجوء القاهرة إلى دول الخليج خلال جولة قام بها أخيرا الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، شملت الإمارات والسعودية والكويت، للحصول على مساعدات اقتصادية تسعف الدولة على مجابهة الأزمات الطارئة الصعبة.
لا أحد يعلم بالضبط طبيعة الوعود التي تلقاها الرئيس السيسي من قادة هذه الدول في تلك الجولة، لكن الإعلان عن مساعدات محددة بعدها يؤكد أن نتائجها كانت جيدة، وهو ما تزامن مع عودة قطر لتمارس دورها في ضخ أموال للاستثمار في مصر.
ظهر الدعم في أجواء سياسية مغايرة هذه المرة، وقد ينطوي على ضوابط جديدة، مقارنة بالمرة السابقة، فالود والتحالف والمصالح المشتركة لا تعني أن يقدم أي طرف للآخر شيكا على بياض، لأن دول الخليج استوعبت دروس المساعدات المرة الماضية.
تعتبر دول الخليج مصر ركيزة أساسية لأمنها، وكانت لديها طموحات لتلعب القاهرة دورا كبيرا في هذا المجال، والذي كان من بين أسباب دعمها الاقتصادي السخي عقب مرحلة ما بعد سقوط الإخوان، لكن لم تحصل على ما توقعته من دعم قوي في أزمتين تمثلان منغصا لكل من السعودية والإمارات، وهما تهديدات إيران لأمن الخليج والحرب المشتعلة في اليمن.
لم تكن التطلعات الخليجية في هاتين الأزمتين على المستوى المطلوب من مصر، ولذلك من غير المستبعد أن تكون حزمة المساعدات الجديدة على علاقة غير مباشرة بتفاهمات بشأنهما، إضافة إلى التناغم حول ما يجري من تطورات إقليمية تتعلق بالحوار مع إسرائيل ونسج شبكة أمان لمواجهة إيران إذا وقّعت الاتفاق النووي.
تملك مصر من المرونة ما يكفي لتمكينها من تقريب المسافات مع دول الخليج، والرد على المساعدات الاقتصادية بأخرى سياسية وأمنية بلا خلل في التوازنات التي تحكم سياستها الخارجية، فالأوضاع القاسية التي تمر بها البلاد سوف تكون تداعياتها أصعب في حالة العزلة أو عدم التوصل إلى قواسم مع الدول الخليجية.
تبدو شواغل الجانبين ليست بعيدة عن بعضهما، ما يجعل المساعدات المتبادلة لا تحتاج إلى مساومات بالمعنى الحرفي، ويمكن التوقف في منطقة وسط تلبي احتياجات كل طرف، فمهما كانت قوة الأواصر، هناك لغة للمصالح يفهمها كل جانب، وتدفعه إلى التفكير في ما يحتاجه وحجم التنازلات في قضايا معينة.
زادت مساحة الحركة التي تتمتع بها مصر أو دول الخليج القريبة منها عما كانت عليه في سنوات ماضية، ودخلت عليها تغيرات أسهمت في تقارب من نوع جديد، وثمة تنوع في العلاقات ومفاضلات بينها قد تصل إلى التكامل عندما تتعادل الحاجة الاقتصادية مع السياسية والأمنية.
تدفع التحولات التي تجري في العالم، ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، دول الخليج إلى السعي لمنع حدوث خلل في البنية المصرية بسبب أزمات سياسية أو اقتصادية، ويمكن أن تحصل منها على مزايا تساعدها على تسريع وتيرة التفاهم مع القاهرة والضغط عليها بصورة ضمنية، لأن المساعدات والمنح لها ضوابط محكمة.
لن يكون الاستثمار في مصر مجديا لأي جهة ما لم يكن نظامها السياسي مرنا ومستقرا ومتماسكا وقادرا على كبح التهديدات التي تأتيه من الداخل أو الخارج، ولأن مشكلة مصر المحورية اقتصادية، فالمساعدات تمثل طوق نجاة لها.
من المنتظر أن تمر العلاقات بين مصر والخليج بمرحلة يكون فيها التفاهم كبيرا وواضحا ولا يحتمل لبسا سياسيا
يقول مراقبون إن العقلية البرغماتية التي تفكر بها القاهرة حاليا وما تملكه من مروحة سياسية واقتصادية واسعة يسهمان في تلقي المزيد من المساعدات، ويجعلان بعض الجهات الدولية واثقة في تجاوبها مع أي شروط توضع بشكل مباشر أو غير مباشر، لأن طوفان المشكلات سيكون قاسيا على مصر والخليج إذا تم الصمت عليه كثيرا.
ويضيف المراقبون أن النظام المصري يبذل جهودا مضنية لتجاوز العقبات الاقتصادية، ولن يتراخى في معالجة الخلل حتى لو قدم تنازلات سياسية في بعض الملفات، فالمهم الحصول على مناعة تسهم في استمرار برنامج الإصلاح وتحول الخطر إلى فرصة.
تسهّل حزمة المساعدات التي تتلقاها مصر من دول خليجية مهمة التفاوض على قرض ثالث من صندوق النقد الدولي بقيمة 8 مليارات دولار وتطبيق برنامج إصلاحي جديد، بعد أن منحها الصندوق قرضين سابقين بقيمة 20 مليار دولار.
يفرض صندوق النقد ضوابط على الدول التي تتلقى قروضا منه، في مقدمتها أن يحتفظ البنك المركزي في الدولة المعنية بقيمة محددة، ما يعد بمثابة تغذية للاحتياطي الأجنبي الذي تعرض لتراجع نسبي مؤخرا، الأمر الذي تتكفل به دول الخليج.
من المنتظر أن تمر العلاقات بين مصر والخليج بمرحلة يكون فيها التفاهم كبيرا وواضحا ولا يحتمل لبسا سياسيا، فكل طرف أصبح يعرف ما يحتاجه الآخر.