الأمن الغذائي آخر ما يشغل الريف المصري في زمن الحرب

تحدث الكثيرون عن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي لحقت بالريف في مصر، فمظاهر الحياة في المدينة زحفت عليه وسلبته الكثير من الخصال التي كان يعتمد عليها في الاكتفاء الذاتي، مع موجات متتالية لهجرة الشباب وتعلقهم بالسفر والتخلي عن الزراعة التي قضمت المباني السكنية جزءا كبيرا منها، وشوهت مساحات من الأفدنة وروعتها بالأسياخ الحديدية بدلا من القمح والأرز والقطن والفواكه والخضراوات. مع ذلك لا يزال الريف في مصر يمثل ملاذا في المحطات الكبرى المتعلقة بتوفير الغذاء باعتباره السد المنيع للحد من زيادة الأسعار لدى سكانه وقدرتهم على ردم جانب مهم في الفجوة الحالية لتوفير الأمن الغذائي.
القاهرة - لم تشهد غالبية السلع في مصر استقرارا في أسعارها بسبب تداعيات الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، وكادت البلاد تشهد حالة غير مسبوقة من انفلات الأسعار إلى أن تدخلت الحكومة لمضاعفة كميات المواد الأساسية في منافذ البيع التابعة لها، وتوزيع كراتين غذائية على محدودي الدخل والمناطق الأكثر فقرا.
على النقيض من هذا المشهد لم يتأثر كثيرا سكان ريف مصر من الزيادة المضطردة في أسعار السلع، بحكم أن حياة معظمهم قائمة على تحقيق الاكتفاء من أغلب السلع التي تباع في الأسواق، فالتوفير الذاتي للأغذية مسألة لا غنى عنها سواء قدمت الحكومة مساعدات أم لا، فكثير منهم لا ينتظرون حدوث الأزمة ليتحركوا لعلاجها.
في القرى المصرية لا توجد تقريبا السلاسل التجارية التي تبيع بأسعار مخفضة، كما هو حاصل في المناطق الحضرية، ولا توجد سوى متاجر صغيرة تبيع سلعا لا يتم تصنيعها في المنزل، مثل الزيوت والمعكرونة، التي تحتاج إلى مصانع.
وإذا كانت مثل هذه السلع تمثل للأسرة الحضرية العناصر الغذائية الرئيسية، فهي عند سكان الريف يمكن تعويضها بأخرى بديلة أو الاستغناء عنها.
تشتري الأسرة القاطنة في المدينة، سواء أكانت غنية أم فقيرة، مستلزماتها من الأسواق والسلاسل التجارية، عكس سكان الريف الذين يتوافر لهم نوع من الاكتفاء في معظم السلع، مثل الأرز والقمح والخضروات والجبن والألبان والبيض والسمن والبقوليات، لأنهم منتجون لها في حقولهم ومزارعهم.
في وقت تتصاعد فيه المخاوف لدى الحكومة المصرية من التداعيات السلبية للأزمة الأوكرانية على القمح تحديدا، كسلعة استراتيجية لا غنى عنها في إنتاج رغيف الخبز المدعم والحر، يترقب سالم السيد جني محصول القمح من الأرض التي يمتلكها وسط جوّ من السعادة البالغة بارتفاع أسعاره عالميا، خاصة أن الرئيس عبدالفتاح السيسي وجه باستلام القمح من الفلاحين بالأسعار العالمية لتحفيزهم على بيعه للحكومة.
الاكتفاء الذاتي أولا
لكن سالم في حديثه لـ”العرب”، تمسك بألا يبيع من القمح سوى ما يكفي احتياجات أسرته لعام كامل حتى يحين موسم حصاد المحصول السنة المقبلة، كي لا يتعرض لأزمة ويكون مضطرا لشرائه بعد ذلك بأسعار مضاعفة، وقبل أن يبيع للحكومة بعد جني محصول القمح الشهر المقبل يسأل جيرانه الذين لم يزرعوا القمح عما إذا كانوا في حاجة إلى شرائه لتدبير احتياجات عائلاتهم.
تقوم العلاقة بين الأسر المصرية في الريف على نوع من التكافل والتعاون والترابط الاجتماعي بحكم أنهم يعيشون ظروفا متشابهة إلى حدّ كبير، وفي أحيان كثيرة يتم استبدال سلع بأخرى، فالذي زرع القمح يمنحه لآخر لم يزرعه نظير الحصول على مادة مقابلة مثل الذرة أو الأرز، مع دفع فارق بسيط في السعر، وهكذا في كثير من السلع الأساسية التي يتم إنتاجها من الحقول أو داخل المنازل في الريف.
انعكس هذا الواقع على الحياة الاجتماعية والاقتصادية للريفيين المنتجين في مصر، وأصبحوا الفئة الأكثر أمانا من نتائج الأزمة العالمية، من حيث وفرة الأمن الغذائي، فهم لديهم اقتصادهم الخاص الذي يمكنهم من مواجهة التضخم وانفلات الأسعار، وقد يجعلهم لا يتأثرون بحفنة الأموال والمساعدات التي تقدمها الدولة في صورة دعم على بعض السلع والخبز.
الحكومة تدرك أن بسطاء الريف بإمكانهم البحث عن بدائل في حال ارتفعت الأسعار، فهي لا تجد مشكلة مع هذه الشريحة التي لديها اقتصادها الخاص
والشريحة الأكثر استفادة من الحكومة في الريف تلك التي تتحصل على معاش شهري من مشروع “تكافل وكرامة” الذي يستهدف الأسر الأشد فقرا، التي لا تمتلك أراضي زراعية ولا يعمل أحد أفرادها في أي وظيفة حكومية.
لم تشتر أسرة صابرين محمد رغيف الخبز لعائلتها سوى ممّا تقدمه الحكومة عبر مخابزها التموينية المدعومة حتى الآن، أيّ أنها تصرف يوميا قرابة جنيه واحد نظير الحصول على 20 رغيفا تقدمهم الدولة لمحدودي الدخل، وفي أحيان كثيرة لا تستخدم هذه الأرغفة لإطعام أسرتها بل تقدمها غذاء لطيور تقوم بتربيتها بفناء منزلها البسيط.
تتناول أسرة صابرين الغذاء من الخبز المنزلي فقط، حيث تقوم بتصنيعه وإعداده بنفسها عبر طحن القمح وتحويله إلى دقيق ثم تعكف على عجنه وخبزه في الفرن البلدي وإشعال النيران من حوله بالحطب، وتعودت عائلتها على طهي الكثير من الأطعمة بالطريقة التقليدية بهذه الوسيلة ليكون لها مذاق خاص.
يملك زوج صابرين قطعة أرض لا تتجاوز الفدان الواحد ويقوم بزراعتها وفق احتياجات أسرته، ويداوم على زراعة القمح والأرز وبعض البقوليات، أيّ أنه لا يشتري السلع الأساسية، وإن لم يتمكن من زراعة ما يحتاجه منزله يقوم بشرائه من أحد جيرانه بسعر زهيد يختلف كليا عن أسعار المدن.
وتحتفظ الكثير من المنازل في الريف بمخزون استراتيجي من المواد الحيوية، وأغلب السكان إن لم يزرعوها في حقولهم يقومون بشرائها في موسم الحصاد بثمن زهيد ثمّ يخزنونها لعدة أشهر، في حين تقوم أي أسرة في المدينة أو المناطق الحضرية بشراء كميات قليلة للغاية من نفس المادة الغذائية بما يكفيها أسبوعا على أقصى تقدير.
مصادر البروتين
لا تختلف أسرة صابرين عن الكثير من الأسر الريفية في نمط حياتها واعتمادها على توفير الأمن الغذائي، وهذه ثقافة في عموم الريف المصري موروثة منذ الآلاف من السنين.
وفي ذروة ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء والبيضاء لا تعاني الكثير من الأسر الريفية أزمة كبيرة مثل سكان الحضر، فغالبية المنازل تخصص مكانا لتربية الطيور، وهي مصدر أساسي للبروتين بتكلفة زهيدة، علاوة على إنتاج البيض يوميا لاستخدامه في الطعام من طرف أفراد العائلة أو بيعه في الأسواق الموجودة بالمدينة المجاورة ليتحقق للأسرة دخل إضافي تشتري منه احتياجاتها من سلع أخرى لا تملكها.
إذا كانت محال بيع الطيور في المدن تتحجج بارتفاع أسعار اللحوم الحمراء بزيادة تكلفة الأعلاف التي يتم استيرادها من الخارج، فإن تربية الطيور في ريف مصر تكاد لا تكلف الأسرة شيئا، إذ يتم الاعتماد على ما يتبقى من الطعام الزائد عن حاجة الأسرة أو تغذية الطيور بالحبوب التي تتم زراعتها في الحقول أو بالخبز المنزلي أو المدعم.

عادل بركات: الأسرة الفقيرة في الريف المصري لا تواجه أزمة غذاء
هكذا اعتاد عدد كبير من أفراد الأسر الريفية توظيف كل شيء حولهم لخدمة حياتهم البسيطة، ومهما بلغت قسوة الظروف وقلة الحيلة يتمسكون بصناعة السعادة لأنفسهم، بأنفسهم، ولا يعتمدون على الحكومة إلا قليلا، ولديهم قدرة عالية على إدارة مواردهم واستعداد فطري لعدم إهدار الوقت والجهد في أمور واهية، ومن النادر وجود مقاه مزدحمة بروادها في النهار، حيث يمثل العمل قيمة مقدسة.
يتم تقسيم المسار الوظيفي للعائلة في بعض المناطق الريفية وفق متطلبات الحياة اليومية ومدى إمكانية توظيف كل فرد في المكان الصحيح ليساعد الأسرة في توفير احتياجاتها المالية، فالأب ينهمك في مهمة معينة ويركز جهده على رعاية الحقل، والابن يتجه إلى العمل في حرفة أو يتخصص في العمل بصورة يومية في إحدى المزارع، أما الأم فهي تساعد زوجها في الحقل وتدر عائدا ماديا من منزلها.
قد لا يكون هذا هو النمط العام في جميع الأسر الريفية، لأن هناك تفاوتا في الاهتمامات، فلم تعد قرى مصر قاصرة على الزراعة، لكن هذه واحدة من السمات التي تضفي أهمية على الريف مع الموجة المرتفعة لأسعار الغذاء، وتعيد الاعتبار للريف وإن فقد بعضه بريقه التقليدي.
أم عيد وهي سيدة مصرية بسيطة لديها خمسة من الأبناء، تبيع ما يزيد عن احتياجات منزلها من البيض والجبن والألبان والسمن في سوق شعبية بمدينة دمنهور بمحافظة البحيرة، في شمال القاهرة، كل جمعة.
تقوم السيدة بتصنيع الجبن والسمن ثم تشتري ما تحتاجه أسرتها من السلع التي لا تقوم بزراعتها في الحقل، من نفس عائد بيعها للسلع التي صنعتها بيديها منزليا.
تقوم بهذا التصرف الكثير من الأسر الريفية، حيث تهتم بتدبير احتياجاتها المالية لشراء السلع عبر سياسة التدوير من خلال بيع المتاح تصنيعه لشراء ما لا تُتاح زراعته أو إعداده في المنزل، ولا يتأثر هؤلاء كثيرا بارتفاع الأسعار بشكل جنوني كما هو حاصل في المناطق الحضرية، ويمكن تعويض شراء سلعة بعينها، مثل الزيت، بالتوسع في استخدام السمن المصنوع في المنزل، لأن هناك عددا كبيرا يقومون بتربية الحيوانات لتكون مصدرا أساسيا للغذاء.
تدوير السلع
تلجأ العديد من العائلات في الريف إلى بيع منتجاتها المنزلية من خلال وسطاء أو تجار يطوفون على المنازل ليقوم هؤلاء ببيعها في الأسواق الحضرية. فقد تكون الزوجة غير قادرة على الذهاب إلى السوق لتتولى بنفسها عملية البيع المباشر لجمهور المدينة، وهنا تضحي بتسليمها للتاجر ولو خسرت مبلغا زهيدا نظير أن تتفرغ لمنزلها وأولادها كمسؤولة رئيسية عن النواحي المالية وأوجه الإنفاق في الأسرة.
قد يقول البعض إن حال الريف في مصر حدثت به تحولات كبيرة ولم يعد بالصورة النموذجية السابقة، مع ذلك لا تزال هناك الكثير من السلوكيات التي تعتمد على النمط التقليدي في الحياة وبساطتها المعروفة.
الكثير من المنازل في الريف تحتفظ بمخزون استراتيجي من المواد الحيوية
تدرك الحكومة المصرية أن بسطاء الريف بإمكانهم البحث عن بدائل كثيرة في حال ارتفعت أسعار السلع، فهي لا تجد مشكلة مع هذه الشريحة ولا تخشى غضبها، فلدى هؤلاء اقتصادهم الخاص الذي يغنيهم عن الدعم النقدي، أو العيني في صورة مواد يتم صرفها من منافذ التموين بسعر زهيد، مثل الزيت والسكر والسمن والبقوليات.
يعتقد عادل بركات الباحث الاجتماعي والمحاضر في التنمية البشرية بالقاهرة أن أهم ميزة عند البسطاء في ريف مصر امتلاكهم قدرة على إدارة مواردهم وتوظيف إمكانياتهم المحدودة لأجل تحسين مستوى معيشتهم من دون التعويل كثيرا على الحكومة في تسيير أمورهم، وهذا مرتبط بأنهم يعيشون الشقاء منذ عقود طويلة ويتصرفون بطريقة لا تجعلهم تحت رحمة أي سلطة مهما بلغت انحيازاتها الاجتماعية.
ويضيف بركات لـ”العرب” أن “الأسرة الفقيرة في الريف لا تواجه أزمة غذاء، حيث نشأت في بيئة تجيد التفكير خارج الصندوق ولا تترك ظروفها للصدفة، والميزة أنهم لا يشتكون الفقر وقلة الحيلة طالما يستطيعون تغيير ظروفهم وتدبير احتياجاتهم وفق الحدود المتاحة، كما أن لديهم القدرة على توفير أكثر من بديل في وقت واحد، ولا يزال الجنيه يمثل قيمة بالنسبة إليهم”.
أمام هذه الشواهد تظل الميزة الأهم في الريف المصري انخفاض معدلات البطالة، إذ تعمل مختلف الشرائح وفق ظروفها وما يتاح لها القيام به في إطار من القانون، وبالشكل الذي يسمح لكل فرد بأن يشارك في توفير وتدبير احتياجات العائلة وخدمة مصالحها، فالحياة هناك لا تعتمد على الفردية والأنانية.