جميلة بوباشا أكثر جميلات الجزائر ترفّعا عن إغراءات السلطة

رغم مرور ستة عقود على استقلال الجزائر، إلا أن جذوة مدرسة جميلات الجزائر، لا زالت تشتعل برسائل النضال والتضحية والحرية والوطن، فكان انحيازهن لصفوف الشعب الذي أنجبهن دائما وفوق كل الاعتبارات، وظللن يشكلن معينا تستلهم منه الأجيال القادمة.
وفيما اختارت نخب الثورة ركوب صهوة الثروة والمناصب، بقيت الجميلات بين أحضان وطنهن الذي منحنه شبابهن وتضحياتهن، ليكتفين بدفئه وتقدير شعبهن، وكما كانت جميلة بوحيرد في طليعة نساء الحراك من أجل مشروع التغيير، رفضت جميلة بوباشا، أن تشوه مسارها المشرق بمنصب أو مزايا في أرذل العمر واختارت البقاء بجانب الشعب.
ظلت كتومة وقليلة الكلام والأضواء، تعيش على ذكريات النضال من أجل الحرية في زوايا بيتها العائلي بالعاصمة، إلى أن ورد اسمها في لائحة النواب الذين عينهم الرئيس عبدالمجيد تبون، في مجلس الأمة (مجلس الشيوخ)، في إطار ما يعرف بـ”الثلث الرئاسي” الذي يخوله إياه دستور البلاد، لكن الموقف لم يتأخر لدى المناضلة التاريخية بوباشا، وجاء بيان الرفض مقتضبا، لكنه حمل الكثير من الرسائل.
رحلت واحدة، وبقيت اثنتان من جميلات الجزائر الثلاث، وإن فقد بذلك المثلث أحد أضلاعه لكن الشكل الهندسي لا زال صامدا، لأن الملحمة التي صنعتها الفقيدة جميلة بوعزة، وجميلة بوحيرد، وجميلة بوباشا، هي ملحمة راسخة في الأذهان، بل هي وسام يرصع جبين المرأة العربية ويصنع مجدها، ولو أن دولة الاستقلال تأخرت كثيرا في تجسيد وتدوين الملحمة، إلا أن مواقفهن تبقى معينا تستلهم منه الأجيال حتى وهن في أرذل العمر.
إحراج سياسي
موقف بوباشا الذي عبّرت عنه باعتذار مهذب وشكر لرئيس الدولة على الثقة، أحرج بكل تأكيد الوجوه التي بلغت من العمر عتيا غير أنها لا زالت راغبة في المناصب والمزايا، فمنها من مارس المسؤولية المدنية والعسكرية لكن لم يزهد بعد في هذه الدنيا، كما زهدت من سنوات جميلات الجزائر، ولعل قول بوباشا “أديت واجبي تجاه وطني لمّا احتاجني، والآن أريد أن أقضي بقية عمري بين أحضان شعبي” رسالة للذين اختاروا التموقع في ضفة السلطة إلى آخر الأنفاس، ولو أن المنطق السليم يرجح معادلة السلطة للشعب والشعب للسلطة، على حساب ما هو سائد الآن.
بوباشا هي ذاتها التي ألهمت الرسام العالمي بيكاسو، فخلدها في إحدى لوحاته النادرة، وسيمون دي بوفوار وجيزيل حليمي وجون بول سارتر، الذين اهتموا بها في مؤلفاتهم، مناضلة جزائرية متواضعة، لا يزعجها في تلافيف ذاكرتها إلا مصير الخونة والعملاء، فلا هم بقوا لوطنهم ولا هم نالوا ثقة العدو.
الرئيس الأميركي جون إف كنيدي والزعيم الصيني ماوتسي تونغ، كانا في صدارة المدافعين عن بوباشا التي صدرت عنها عدة مؤلفات
تقول في أحد أحاديثها الجانبية “ما يزعجني أن العقيد الذي كان مكلفا بتعذيبي والتحقيق معي عندما ألقي علي القبض، أدى لي التحية العسكرية، وقال لي: احترمك، لكنني لا أحترم هؤلاء”، في إشارة إلى بعض معاونيه ممن يعرفون باسم “الحركي”.
وتضيف بوباشا “لا زلت أتذكر مظهر بعض (الحركي) وهم يحاولون التشبث بشاحنة كانت تقل عسكريين فرنسيين كانوا يستعدون لمغادرة الجزائر عند إعلان الاستقلال، لكن الجنود الفرنسيين كانوا يدفعونهم بأرجلهم لمنعهم من ركوب الشاحنة”.
مرارة العمالة والخيانة، لا يدرك مذاقها إلا المناضل الحقيقي، ولا أحد يفهم دور “الطابور الخامس” في طعن ثورة التحرير إلا مناضليها، وإن تحولت القضية إلى مسألة إنسانية في أدبيات الخطاب الفرنسي.
وإذ كانت قد التزمت العزلة والصمت والظل، فإن لبوباشا، قناعة راسخة بأن فرنسا لن تترك الجزائر لشأنها مهما كان الحديث عن الاستقلال والسيادة، ولعلها تقصد من ذلك الاختراق المستمر بداية من الثورة إلى غاية الاستقلال وللمؤسسات ومفاصل الدولة.
الفتاة التي أشعلت النخب
ولعل أبرز تجليات الاختراق هو سياسة نسيان التاريخ، وتبسيط منجز الثورة التحريرية في أذهان الأجيال إلى درجة الطعن أو التشكيك، كما كان يقول المناضل والقيادي التاريخي الراحل عبدالحميد مهري.
ويقول عنها في هذا الشأن الكاتب والمترجم بوداود عمير إن “الكثير من الجزائريين لا يعرفون أن بوباشا، على قيد الحياة، تعيش بيننا، امرأة كما يعرفها المقربون منها، بسيطة جدا، في حياتها وعلاقتها مع الناس، تتجنب الأضواء وترفض المناسبات. لا يدرك الجميع، أن امرأة عظيمة اسمها جميلة بوباشا، تعيش بيننا، لم ننتبه لها، وهي تمشي واثقة الخطى، متأبطة تاريخها العظيم في النضال والمقاومة، ينهش جسدها الهش بقايا تعذيب، هذه المرأة المتواضعة والاستثنائية، في لحظة تاريخية أجمع على الدفاع عنها، وعن نضالها، كبار الفلاسفة والفنانين في العالم”.

نضال بوباشا بدأ من مقاعد الدراسة بأحد الأحياء الغربية للعاصمة، حين كانت وهي في ريعان المراهقة، تكلفها أستاذتها بوفجي بالتواصل مع خلايا الثورة، وشيئا فشيئا تم تجنيدها كفدائية بداية من العام 1959، حيث كلفت بوضع عدد من القنابل والمتفجرات في الأماكن التي يتردد عليها المعمرون، وفي فبراير 1960 ألقي عليها القبض، ووضعت في السجن العسكري وتم تعذيبها بكل ألوان العذاب ولكنها كانت صامدة قوية.
توقيفها أثار تعاطف نخب سياسية وأكاديمية عالمية معها، على سبيل المثال الكاتب الفرنسي جون بول سارتر وصديقته دي بوفوار ولويس أراغون، كما تطوع الكثير من المحامين للدفاع عنها في مقدمتهم جيزيل حليمي وحتى الرئيس الأميركي جون إف كنيدي والزعيم الصيني ماوتسي تونغ، وصدرت عنها عدة مؤلفات منها كتاب “جميلة بوباشا” لدي بوفوار وجيزيل حليمي العام 1962، وكتاب “جميلة بوباشا المرأة التي ألهمت بيكاسو” للكاتب خالفة معمري العام 2013.
كتب عنها بوداود عمير إن “لوحة جميلة بوباشا، التي رسمها بيكاسو بقلم الفحم، تقدر قيمتها بنحو 400 مليون دولار، وفق خبراء المزادات العلنية للمصنفات الفنية، تم عرضها في الجزائر العام 2007 في إطار تظاهرات الجزائر عاصمة الثقافة العربية، وقد جيء باللوحة من فرنسا إلى أحد المعارض بالجزائر العاصمة، تحت حراسة أمنية مشددة”.
وأضاف واصفا “تتمتع اللوحة بنظام استشعار متطور يمنع عنها تسرب الضوء والحرارة، سرعان ما أعيدت إلى فرنسا، بنفس الحراسة المشددة، ومن المرجح أن الجزائر دفعت يومها مبلغا كبيرا لعرضها لأيام قليلة”، ولبيكاسو، رحلة عشق فني مع الجزائر، فلوحته “نساء الجزائر”، حطمت الرقم القياسي لمزادات الأعمال الفنية، لتصبح أغلى لوحة في العالم عبر التاريخ.
ويتساءل الأديب والإعلامي عبدالرزاق بوكبة “ما معنى أن تمر ستة عقود من الاستقلال الوطني، حتى يعرف الجيل الجديد أن ثمة مجاهدة رسمها بيكاسو؟ وكتب عنها كبار الأدباء والفلاسفة؟ ودافع عنها عظماء السياسة والإعلام والحقوق، في النصف الثاني من القرن العشرين؟ لماذا لم يدرج هذا في المنظومة التربوية، ويتناوله الإعلام الرسمي، فتكون أيقونة في الأذهان والوجدان في الداخل، بعد أن صارت كذلك في الخارج؟”.
ويضيف “الإجابة بسيطة جدا بساطة (ماما جميلة) وهي تتلقى هذا السؤال من طرف المشرف الفرنسي على تعذيبها: لو يتاح لكِ أن تضعي قنبلة أخرى، أين ستضعينها؟ قالت: تحت الكرسي الخاص بك”. ويتابع “هذه الإجابة هي أن نظام الحكم كان وما يزال يعتقد أن الوطن هو حكامه، وكل من يعارض سياسة الحاكم هو معارض للوطن. ولا ينبغي أن يكون له حضور في المنابر المختلفة، وإن حدث أن حصل ذلك في وقت معين نتيجة مزاج مسؤول معين، فسرعان ما يعاد إلى خزانة النسيان والإقصاء”.

كانت بوباشا في الثانية والعشرين من عمرها العام 1960 حين اعتقلتها السلطات الفرنسية وحكمت عليها بالإعدام، ولما كان ذلك الزمن زمن النضالات الكبرى التي كان يخوضها مثقفون من فرنسيين وغير فرنسيين، لم تلبث السلطات الفرنسية أن وجدت نفسها مرغمة بعد نحو سنتين على إطلاق سراح المناضلة الجزائرية الشابة.
ويقول مؤرخون إن الفضل في ذلك كان، لكتاب “جميلة بوباشا”، الذي تزين آنذاك في صفحته باللوحة الشهيرة لتلك الفتاة التي ملأت الدنيا يومها وشغلت الناس في فرنسا وخارجها، وربما من أجلها صيغت تلك العبارة الشهيرة “الشخص الذي قد تعتبره أنت إرهابيا، قد يكون بطلا في نظر آخرين”؛ أما في داخل الكتاب فكانت هناك رسوم أخرى تحمل تحية للمعتقلة من أبرزها تلك التي رسمها الشيلي روبرتو ماتا والفرنسي لا بوجاد، فضلا عن نصوص لكتاب عالميين كسيمون دي بوفوار وجيزيل حليمي هنري آليغ صاحب كتاب “المسألة” الذي أوصله إلى السجون الفرنسية، والجنرال دي بولارديير وفرانسواز ماليه، جوريس وجان فرانسوا ريفيل، وفرانسواز ساغان.
اختيار بوباشا للحياة البسيطة مع المواطنين، على حساب العرض المقدم لها من طرف السلطة، أثار بوكبة فقال “لا أكتب هذا لأثبت أنني لا أنفي العظمة عن بوباشا، في سياق ثورة التحرير، وأنا أقول إن موقفها القاضي بعدم الاستجابة لإدراجها ضمن الثلث الرئاسي في مجلس الأمة موقف عادي على صعيدين اثنين؛ صعيد كونه منسجما مع مسارها وخيارها بعد الاستقلال، فهي نفسها تقول في رسالتها إنها فضلت أن تتحول إلى مواطنة بسيطة، فلم يصدر عنها أي موقف سياسي تجاه كل الانحرافات التي وقعت بدءا بانقلاب بومدين على بن بلة، ووصولا إلى انقلاب القايد صالح على الحراك، عكس ماما جميلة بوحيرد. إلى درجة أن قطاعا واسعا من الجزائريين كانوا يعتقدون أنها ماتت. حقيقة؟ وصعيد أنها لم تقل في رسالتها إنها لا تسجيب للعرض لأنها تعتقد أن هذا النظام ليس جديرا بالتزكية. فقط بررت موقفها بكونها لا تريد أن تنحرف عن خيارها الأول القائم على رغبتها في أن تعيش مواطنة عادية”.