أبناء الحركيين الجزائريين عالقون بين الرغبة في معرفة ماضي أجدادهم وتخوينهم

مع اقتراب إحياء ذكرى توقيع اتفاقيات إيفيان التي مهدت لمنح الجزائر استقلالها، تعود إلى الواجهة التساؤلات عن مستقبل الحركيين الجزائريين الذين قاتل آباؤهم إلى جانب فرنسا، حيث يجد هؤلاء أنفسهم عالقين بين الرغبة في معرفة ماضي أجدادهم ومشاعر الكراهية وتهم الخيانة التي توجه إليهم.
الجزائر - في الوقت الذي تستعد فيه الجزائر وفرنسا لإحياء ذكرى توقيع اتفاقيات إيفيان التي عبّدت الطريق فيما بعد لنيل الجزائر استقلالها، يعود إلى واجهة الأحداث وضع الحركيين الجزائريين وخاصة أبناءهم.
ويواجه أبناء الحركيين الذين قاتل آباؤهم إلى جانب فرنسا إبان استعمار الجزائر (1830 – 1962) التخوين، ويجدون مصاعب جمة في طريقهم إلى تجاوز ماضي أجدادهم، نتيجة محرمات وأفكار وأحكام مسبقة عنهم.
ويرغب المتحدرون من هؤلاء الذين ساعدوا الجيش الفرنسي، في معرفة المزيد عن ماضي آبائهم وأجدادهم، لكنهم يواجهون تلقائيا الصمت الممنهج، ما تسبّب في إصابة العديد منهم بصدمات عاطفية عنيفة، وفق خبراء.
تاريخ معقد
☚ العلاقات الفرنسية - الجزائرية المضطربة على مدى ستين عاما وإلى اليوم لا تساعد في تجاوز الحركيين صدمتهم بمفردهم
يبدو أن العقد التي هيمنت على العلاقات الفرنسية – الجزائرية لستين سنة قد أرخت بظلالها على مسألة الحركيين، الذين يجدون حرجا كبيرا في سياق البحث عن معرفة المزيد عن ماضي أجدادهم.
وبالنسبة للمتخصصة في الأنثروبولوجيا جوليا فابيانو، لا يمكن مقاربة إشكالية الحركيين “خارج سياقها” التاريخي المعقد.
وتوضح أنه “حتى إن كان الخطاب القومي الجزائري يصنفهم دائما على أنهم خانوا الوطن، وإن كان مفهوم الخيانة منتشرا
على أوسع نطاق، فإن ذلك لا يعني أن الاعتقاد ثابت ولا يتطور بمرور الوقت والأجيال”. وتضيف “أنصار الجيش الفرنسي خلال حرب التحرير ليسوا مبغوضين في كل مكان وبالأسلوب نفسه”.
والدليل على ذلك في رأيها أن “العائلات التي استقرت في فرنسا حافظت على روابط، أحيانا وثيقة جدا، مع أقربائها في الجزائر الذين التقوها مجددا من دون توترات”.
ويقول المؤرخ جيل مانسيرون إن تسمية “حركي” تخفي أوضاعا متنوعة تماما. ويشدد على أن “بعضهم كان يبني منازل في مخيمات للحركيين، بينما البعض الآخر استُخدموا لممارسة التعذيب. وهذان الأمران ليسا مشابهين”.
وعلى عكس الاعتقاد السائد، لم يرحل الحركيون على نطاق واسع بعد مذابح عام 1962 (التي لا يوجد تقدير موحد لعدد ضحاياها)، بل بقي معظمهم في الجزائر، كما يؤكد المؤرخ.
ويوضح أنه من بين حوالي 300 ألف حركي في الجيش الفرنسي، “كان هناك ثلث فقط من الرجال بين 90 و100 ألف شخص غادروا إلى فرنسا” في عام 1962، مشيرا إلى أن العديد من الذين بقوا في الجزائر عانوا من “التمييز والعزل التام”.
"عار الآباء"
لم يعرف معظم أبناء الحركيين وأحفادهم شيئا من ماضي عائلاتهم المؤلم والمأساوي، أو اكتشفوه في وقت متأخر.
عقد العلاقات الفرنسية - الجزائرية أرخت بظلالها على مسألة الحركيين، الذين يجدون حرجا في البحث عن ماضي أجدادهم
تقول أخصائية علم النفس العيادي لطيفة بلعروسي “الصمت الذي فرضه الآباء الحركيون أتى في شكل حظر الكلام وأمر (لأبنائهم وأحفادهم) بالتزام الصمت، الذي بدا كوسيلة للحماية من العار المرتبط بالخطأ المرتكب”.
ويبدو هذا الإرث العائلي حملا ثقيلا، لاسيما أنه “يقع على تقاطع طرق بين التاريخ العام والتاريخ خاص.. وملوث بوصمة اجتماعية”، على حد قولها.
مع مرور الوقت، ازدادت أعداد وأجيال أحفاد الحركيين، وطريقة التعامل مع الصدمة العائلية ليست واحدة.
وتوضح جوليا فابيانو أن “النشأة في عائلة من الحركيين اليوم، أو في السبعينات في مخيّم أو على هامش المجتمع الفرنسي، لا تعرضك للتحديات نفسها، ولا المشاعر نفسها، ولا التجارب نفسها”.
ويسعى بعض الأبناء والأحفاد إلى بناء علاقة جديدة مع بلد المنشأ وإعادتها إلى التاريخ الأوسع لاستعمار الجزائر وإنهاء استعمارها. ولكن إعادة الإعمار أكثر صعوبة بالنسبة للبعض، لاسيما المقيمين في فرنسا.
وبسبب رفضهم في الجزائر وحتى وقت قريب جدا، بسبب تهميشهم في فرنسا، لا يملك هؤلاء دائما الأدوات اللازمة للتغلب على معاناتهم. وبحسب بلعروسي، فإن “عار الآباء بمثابة دين يتوارثه الأبناء”.
وتضيف أن في مواجهة “العار الذي يحسّون به” عند اكتشاف تاريخ العائلة، والصمت في فرنسا بشأن حرب الجزائر، و”عودة المكبوتات”، يبدو “صعبا تصوّر أن يتجاوز أحفاد الحركيين صدمتهم بإرادتهم الفردية”.
كما أن العلاقات الفرنسية – الجزائرية المضطربة على مدى ستين عاما لا تساعد في تجاوز صدمتهم.
وتوضح الأخصائية النفسية أن “اعتراف فرنسا المتأخر بالحركيين يسمح بالتأكيد بالترميم، لكنه يظل غير فعّال من أجل استعادة احترام الذات، وإعادة بناء الذات مع تجاوز العار والكراهية. ويبقى العمل على الذاكرة الجماعية فقط قادرا على ذلك”.
وتستعد الجزائر وفرنسا لإحياء ذكرى اتفاقيات إيفيان التي تم توقيعها في الثامن عشر من مارس 1962 والتي شملت اتفاق وقف إطلاق النار الذي مهد في ما بعد لنيل البلاد استقلالها.
وبعد مرور ستين عاما على انتهاء حرب التحرير في الجزائر يبقى التقلب السمة الأبرز التي تميز العلاقات بين باريس والجزائر على وقع صخب الذاكرة التي تغذي فصولها في بعض الأحيان رهانات سياسية داخلية في كلا البلدين، وهو ما يلقي بظلال على حياة الحركيين.
وقامت علاقة جيدة بين القادة الجزائريين الجدد آنذاك والجنرال شارل ديغول الذي كان يحظى باحترام لديهم لأنه فتح الطريق أمام وضع حد لاستعمار بلاده للجزائر. واستمرت كذلك مع خلفه جورج بومبيدو، ثم مع فرنسوا ميتران، رغم أن الأخير كان وزيرا للداخلية في بداية الانتفاضة الجزائرية عام 1954.
وفي 1992 ندّد فرنسوا ميتران بتعليق العملية الانتخابية في الجزائر بعد فوز الإسلاميين في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية، فردّت الجزائر باستدعاء سفيرها للتشاور.
وبعد انتهاء العشرية السوداء من الحرب الأهلية في الجزائر في العام 2000 اختار الرئيس الجزائري، الجديد آنذاك، الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، رغم أنه كان قريبا من فرنسا، اعتماد خطاب مناهض لها علنا ليعود التوتر ليخيم على العلاقات إلى اليوم.