تركيا والإمارات، الشجاعة وما بعدها

تركيا ليست عدوا. لم تقدم نفسها، على مرّ التاريخ، كعدو للشعوب العربية. على عكس إيران تماما. ولقد أمكنها أن ترث الإمبراطورية الإسلامية، وأن تواصل سلطة الخلافة وفتوحاتها لنحو ألف عام، من دون أن تبدو كقوة احتلال. على الأقل لأنها تمثلت الإسلام الجامع، لا إسلام الانشقاق. مرة أخرى، على عكس إيران التي كلما سعت للتمدد في المنطقة عن طريق العراق، منذ عهدها الصفوي الأول، إلى عهدها الصفوي الراهن، كلما كانت قوة تدمير وقتل وشقاق.
انتهت الإمبراطورية العثمانية إلى أن تخلّفت وضعفت، كأي إمبراطورية أخرى تعجز عن اللحاق بالتقدم المعرفي ومستلزمات التحديث الاقتصادي والسياسي.
كانت تلك الإمبراطورية شاسعة أيضا، ومثلما تحولت تلك المساحة إلى عبء على مركز الخلافة، فقد تحول هذا المركز إلى عبء على أقاليمه أيضا، قبل أن تنهار بصعود التيارات القومية فيها أولا، وفي الأقاليم العربية من بعدها.
خسرت تركيا الحرب العالمية الأولى وخسرت سلطتها في المنطقة، بفعل قوة خارجية، مما أبقى العداء مع العرب ثانويا وتفصيليا. وأدرك الأتراك أنفسهم سببه كفشل داخلي، قبل أن ندركه نحن. على الأقل في حدود التسلسل التاريخي للأحداث. نهضة المشروع القومي التركي سبقت نهضة المشروع القومي العربي، إن لم يكن الأخير رد فعل على الأول. الاستعمار البريطاني والفرنسي، كان هو الفائز على أي حال، من تصادم المشروعين.
هذا التاريخ يفيد أن الأرضية لعلاقات الشراكة والتعاون بين تركيا والدول العربية مُمهدة أصلا. الإسلام الجامع جزءٌ منها، وروح الشراكة التي ظلت حاضرة باستمرار، تجعل من الطرفين أقرب إلى بعضهما من إيران، التي لا إسلامها الانشقاقي ولا تاريخ علاقاتها مع المنطقة يشفعان لبناء أي شيء مشترك، على الإطلاق. إذا حاولنا، خربته. وإذا حاولتْ، خربناه.
روح الشراكة التي ظلت تشتغل بين تركيا وجوارها، إنما ظلت تقابلها روح العداء مع إيران. شيءٌ يشبه تماما الثنائيات التقليدية: الأبيض والأسود، الخير والشر، الملائكة والشياطين، التي لم يغلبها غالب، لا في المسالك، ولا في الطباع، ولا في السياسة ولا في الاستدراك. حتى أصبحت شيئا من المُسلّمات.
تستطيع القامات أن تفهم أن الشجاعة الإماراتية التي شقت الطريق إلى أنقرة، كانت أبعد بكثير من مجرد شجاعة
يسهل، على هذا الأساس، أن ينتقل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من الخصومة إلى المصالحة، ليبدأ صفحة جديدة، ليس مع الإمارات وحدها، ولكن مع كل دول المنطقة الأخرى. التاريخ في صالحه، إذا أجاد الاستدراكات المطلوبة فيه.
تحتاج الخطوة الإماراتية لرأب الصدوع مع تركيا، أن تنحني لها القامات. لشجاعتها أولا. ولتوقيتها ثانيا. ولارتكازها على أساس يتوافق مع التاريخ ثالثا.
الشجاعة أزاحت عقدة البدايات. والتوقيت توافق مع تطلعات تركية لتسوية خلافاتها مع مصر ومع أزمة علاقات مع أوروبا، ومع أزمة اقتصادية داخلية. أما التاريخ فقد كان بمثابة الخلفية للوحة ازدحمت بالمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إدراك هذه المتغيرات، أمر حاسم، على أي حال، في بناء علاقات وطيدة.
المعنى الأهم من ذلك، هو أن التطلعات العثمانية فات وقتها. كما فات وقت التعامل على أساس أيديولوجي مع الجوار. بل مع أيٍّ كان.
العثمانية الجديدة التي حاول أردوغان تصديرها، فشلت مرتين. الأولى، لأنها عادت لتتصادم مع أوروبا، ما بعد الاستعمارية، لتكتشف أنقرة أنها لا تزال قوة استعمارية، ولو على نحو مختلف. والثانية، لأنها لم تدرك أن الدول العربية لم تعد تصلح لتكون ولايات عثمانية، كما أراد أردوغان لليبيا أن تكون. العالم العربي كله، والعالم بأجمعه، اتفق على طرد مرتزقته من هناك.
وهذا إنما يعني أن تركيا تستطيع أن تحافظ على مكانتها كقوة إقليمية، ولكن عندما تكون مستعدة للتعامل مع القوى الأخرى، مثل السعودية ومصر والإمارات، على أساس الندية والشراكة والمساواة. هذا هو الاستدراك الأول.
أما الأيديولوجيا الإخوانية، فهي مثل غيرها من الأيديولوجيات الاشتراكية والشيوعية والقومية، قد تكون أداة للمنافسة الحزبية الداخلية، إلا أنها لا تصلح لتكون أساسا للعلاقات بين الدول، كما لا تصلح أن تكون سلعة للتصدير، ولا لكسب النفوذ من خلالها.
عمل كهذا يشبه نظرية “تصدير الثورة” في إيران. إنه عمل يتناسب مع النزعة العدوانية الإيرانية، لأنه يصدر عن إسلام شقاقي يستدرج العداوات، ويستثير الكراهيات الطائفية والانقسامات الاجتماعية.
حاولت الأردوغانية السياسية أن تتخذ من هذا المشروع تعلّة للتمدد، كما حاولت قطر أن تفعل الشيء نفسه، إلا أن المشروع انهار حتى ارتفع غباره إلى عنان السماء. إنما ليس لأن المصريين والتونسيين والسودانيين انقلبوا عليه وداسوه بالإقدام. بل لسببين آخرين:
تحتاج الخطوة الإماراتية لرأب الصدوع مع تركيا، أن تنحني لها القامات. لشجاعتها أولا. ولتوقيتها ثانيا. ولارتكازها على أساس يتوافق مع التاريخ ثالثا
الأول، لأنه مشروع لم يقدم لمجتمعاته إلا الخراب والإفقار والفشل الإداري.
والثاني، لأنه مشروع يستخف باختلافات المجتمعات عن بعضها، بحيث لا يمكنك أن تجعلها تصطف على مسطرة واحدة. كما أنه يستخف بالتنوع والتعددية الثقافية داخل كل مجتمع أيضا، بحيث لا يمكنك، هنا أيضا، أن تضع المجتمع على ذات المسطرة.
وهذا لا يعود إلى شيء خصوصي يتعلق بطبيعة المشروع الإخواني. بل إنه يعود إلى طبيعة كل مشروع أيديولوجي آخر. فإذا ما أضيفت إليه أن الطبيعة الإخوانية نفسها إشكالية من حيث النظرة إلى متطلبات التحديث السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فسرعان ما سوف يتضح أن المشروع الإخواني غبي وسخيف، هو بحد ذاته، لأنه مشروع ماضوي. فبينما “تتعارك” شعوب المنطقة مع متطلبات التقدم والتحديث في الاقتصاد والسياسة والثقافة، فإن آخر ما تحتاجه هو أن تتلقى ركلة تعيدها إلى الوراء.
نجاح أردوغان في تركيا، جاء من أنه حاول تقديم “صورة” حداثية لهذا المشروع. وها هو يفشل اقتصاديا وسياسيا على نحو مشهود. اقتصاديا، لأنه يتعاند مع الحقائق والبديهيات حول أسباب وسبل معالجة التضخم، وكيف أن التوسع الاقتصادي على أساس الديون يضع قنبلة موقوتة تحت مقعد الاقتصاد. وسياسيا، لأنه يتحول إلى مشروع طغيان يلاحق المعارضين وغير المعارضين على أساس الشكوك والأوهام، حتى انتهى به الأمر إلى سجن الآلاف، وإقالة مئات الآلاف من وظائفهم.
هذا أمر لا يعنينا على أي حال. إنه مشكلة الأحزاب التركية مع بعضها، أو قل، مشكلة الأتراك مع أردوغان. والأتراك جديرون بحلها.
ما يعنينا هو تركيا نفسها. أفضل تعريف يمكن أن يتقدم به أردوغان إلى المنطقة، هو أنه “الرئيس التركي”. يترك أردوغانياته للأتراك لكي يتعاملوا معها، ويأتي ليقدم لنا تركيا، لا أي حزب من أحزابها، ولا أي قومية من قومياتها.
سيجد أرضا ممهدة، يحرسها تاريخ من التلاؤم والانسجام ظل ممتدا لنحو ألف عام.
حتى المخيلة لا تتسع للآفاق التي يمكن أن تبلغها الشراكة الاقتصادية والاستراتيجية بين دول المنطقة العربية وبين تركيا. مسار آخر للتاريخ يمكن أن يبدأ. والفوز يمكن أن يُكتب لهذه الشراكة، على المستوى الدولي أيضا.
تستطيع القامات أن تفهم أن الشجاعة الإماراتية التي شقت الطريق إلى أنقرة، كانت أبعد بكثير من مجرد شجاعة.