الإنسان المعاصر يصنع دراما جديدة لخلق الإثارة في حياته الباهتة

ترى من أي شيء يكون الخلاص؟ هل هو خلاص من العدو الأبدي للإنسان أي الموت، أم أنه خلاص من العذاب الأرضي؟ هل هو خلاص من الشقاء الإنساني؟ هل هو خلاص من العبودية بمعناها الكوني والسياسي؟ هل هو خلاص من المعاناة، معاناة الوجود في هذا العالم؟ وهنا يطرح السؤال عن طبيعة الخلاص بالفن، وهو في نفس الوقت سؤال عن وظيفة الفن، وهذا ما يرصده الباحث المصري حسن حماد في كتاب جديد.
ينطلق الباحث حسن حماد في كتابه “الخلاص بالفن” من تساؤلات حول وظيفة الفن، إن كانت الإمتاع وتحقيق المتعة الحسية، أم هي تحقيق التطهير بالمعنى الأرسطي، أم هي خدمة الطقوس الدينية؟ ويواصل استفهامه: هل يمكن للفن أن يمارس دورا سياسيا تنويريا تحريضيا؟ هل يمارس الفن دوره التحرري في عالم الواقع أم في دائرة الوعي؟ هل يستطيع الفن أن يملأ الفراغ الروحي للإنسان الحديث؟ بعبارة أخرى هل يمكن للفن أن يحل محل الدين أو أن يصبح هو نفسه ديانة لها عبادها ونساكها وحواريوها؟ ماذا نعني بالخلاص بالفن ومن المقصود بالخلاص المبدع أو المتلقي أم كليهما معا؟
ويرى حسن حماد، أستاذ ورئيس قسم الفلسفة والعميد السابق لكلية الآداب – جامعة الزقازيق، في كتابه الصادر عن دار إضاءات أن الخلاص بالفن هو أحد السبل التي من خلالها يحاول الإنسان أن يجد مخرجا من الأزمة الإنسانية وحلا للمعضلة البشرية.
البحث عن الخلاص

يحمل تساؤلات حول وظيفة الفن
يقرّ حماد بأن تقديم إجابات وافية عن مثل هذه الأسئلة ربما يحتاج إلى الآلاف من الصفحات، لأن تاريخ الفن هو في الوقت نفسه تاريخ الإنسان. وإزاء هذا التحدي توقف عند بعض المراحل التي كان فيها الفن جزءا من الطقوس الدينية، خاصة في مرحلة فجر الإنسانية حيث كان الفن يمثل جزءا من السحر والأسطورة. وركز على فن المسرح والتراجيديا تحديدا، باعتبار أن التراجيديا هي الفن الذي ينافس الدين في رسالته الأخلاقية والرسولية، وأن التراجيديا هي الفن الأكثر التصاقا بالتجربة الوجودية للإنسان وذلك دون أن يكون الهدف تأريخا لفن المسرح.
ويقول الباحث إن الحديث عن الخلاص بالفن ينطوي على هدفين: الهروب من اليأس والتطلع إلى الأمل، ومقولة إن الخلاص مشيد دائما على قاعدة من اليأس تنطبق أكثر ما تنطبق على الفن؛ ولهذا استشهد في هذا الكتاب بالكثير من المفكرين والفلاسفة الذين أصابهم اليأس من إمكانية تغيير الواقع بالطرق السياسية، وكفروا بمعظم الأيديولوجيات، ورأوا في الفن الوسيلة الأخيرة لإنقاذ الإنسان، ومن هؤلاء شوبنهاور ونيتشه ومفكرو مدرسة فرانكفورت وأندريه مالرو وغيرهم ممن منحوا الفن دورا يتجاوز الحدود الجمالية ويستهدف التجربة الإنسانية بكل ثرائها وتنوعها.
ويرى أن الخلاص هو تاريخ المسعى الإنساني، وأنه الإنسان عندما يحاول أن يقهر تناهيه وضعفه وخوفه وعجزه وموته. والخلاص الديني -حسب رأيه- هو الخلاص الذي يرتبط بالمعتقدات التي تربط هذا الخلاص بقوة خارج الإنسان، وتجعل من الإله قوة مفارقة للعالم الأرضي؛ ومن ثم فهي تضع مثالها في عالم آخر مغاير لهذا العالم. ويبدو أن قوة الأديان السماوية تعتمد على قوة هذا البعد الميتافيزيقي فيها، ويعني المجهول أو اللامرئي الذي لا يمثل المعلوم أو المرئي بالنسبة إليه مجرد إشارة أو علامة. ولهذا فإن اعتقاد اليهودي في أنه المنوط بوعد الخلاص من قبل الرب، أو اعتقاد المسيحي في أنه سوف يحصل على الخلاص بعودة المسيح، أو اعتقاد المسلم في أنه سوف يحظى بشرف الشفاعة، أو اعتقاد الشيعي في عودة الإمام المخلص، كل هذه الاعتقادات تمنح المؤمن قوة وهدوءا وإحساسا باليقين.
ويوضح حماد أن الحلول الدينية للخلاص ليست هي الحلول الوحيدة للخروج من الأزمة الإنسانية، فهناك الآلاف من الحلول أو المساعي الإنسانية الأخرى التي تقف إلى جانب الحلول الدينية، وتدخل في إطارها الحلول التي تطرحها الديانات الوضعية والفنون والمذاهب السياسية، وكافة الفعاليات البشرية: كالعلم والجنس والحب والثورة… إلخ. وهذه الحلول يمكن أن نسميها الحلول الإنسانية، وهي تسمية تبدو من وجهة نظرنا أكثر دقة من اصطلاح العلمانية أو اللادينية، حيث أن البعد الديني ليس مقصورا فقط على الدين بمعناه اللاهوتي، فهناك جانب ما في الإنسان يتجاوز عقله ووعيه ومقاصده.
الفن هو أحد المسكنات أو واحد من الأدوية العديدة التي يخترعها الإنسان للتغلب على منغصات الحياة
وبهذا المعنى يصعب أن نقول إن هناك ملحدا خالصا أو إلحادا تاما، فالمسألة العقائدية -والتي يعني بها البعد الروحي- مسألة متأصلة في الإنسان؛ إنها رغبة الإنسان الدائمة في خلق شيء ما يتجاوزه، الرغبة في “الميتا” أو في “الما وراء” من أجل إيجاد بعد آخر للوجود غير البعد الفيزيقي، الرغبة في اكتشاف بعد ثان للنفس الإنسانية غير البعد الظاهري الخارجي السلوكي، إن هذه الرغبة هي التي تدفعنا أحيانا إلى النرجسية أو عبادة الذات وتدفعنا أحيانا أخرى إلى تأليه الآخر سواء كان هذا الآخر حبيبا أو زعيما، شمسا أو قمرا، نسرا أو حجرا، مكانا أو رمزا، اتجاها فكريا أو مذهبا سياسيا. إن هذه الرغبة العميقة التي تكمن فينا جميعا هي أساس كل شعور ديني سواء بالمعنى التقليدي للدين أو بمعناه الأوسع والأشمل، وهي أيضا الجذر الذي من خلاله تولد الرغبة في الخلاص.
ويتساءل حماد ترى هل هناك خلاص بالفن؟ وهل هذا الخلاص نهائي أم نسبي؟ مؤقت أم عابر؟ ويجيب: لا يوجد خلاص نهائي، ولم تعرف البشرية خلال رحلتها التاريخية الطويلة خلاصا نهائيا، لأن هذا النوع من الخلاص إذا تحقق فإنه يعني العودة مرة أخرى إلى الفردوس ونهاية التاريخ وبالتالي نهاية الأمل أيضا، لأن الأمل يولد على أرضية من اليأس، وفوق قاعدة من المأساة، والفاعلية البشرية تتأسس عبر إحساس الإنسان بالحاجة، ولو اكتملت حاجات الإنسان وأشبعت جميع رغباته لتوقف عن الحياة.
ومن المعروف أن أعلى نسبة انتحار في العالم تشهدها الدول التي تتمتع بدرجة عالية من الرفاهية والرخاء الاقتصادي. فلنا أن نتصور أننا قد أرضينا جميع أهوائنا، وحققنا كل أحلامنا. فماذا بعد؟ هل يمكن الفرار من السأم والشعور بالخواء؟ إن السعادة في جانب منها ترتبط بإرضاء الحاجات البشرية (سواء مادية أو روحية) فماذا لو أرضينا جميع تلك الحاجات، هل يمكن بلوغ السعادة؟
الإجابة بالنفي لأن الدائرة لا تكتمل أبدا. من جانب آخر يتحقق الخلاص النهائي إذا استطاع الإنسان قهر الموت وتجاوز التناهي، أو بعبارة أخرى إذا بلغ الخلود. وهذا الأمل لم يتحقق على الأرض حتى هذه اللحظة، ويبدو أنه لن يتحقق، لأن الحياة داخل الكرة الأرضية تخضع لمقولات ومبادئ التغير والتحول والفناء، وهي مقولات ترتبط بحركة الزمن الذي لم يستطيع الإنسان -رغم كل مجهوداته ومحاولاته- الإفلات منه! ورغم أن الإبداع الإنساني هو محاولة لقهر الموت إلا أن الفن كما يقول أندريه مالرو غير قادر على إسكات السؤال الذي يطرحه الموت.
دراما إنسانية جديدة

حسن حماد: الخلاص بالفن هو أحد السبل التي من خلالها يحاول الإنسان أن يجد مخرجا من الأزمة الإنسانية وحلا للمعضلة البشرية
يقرر حماد أن أي حديث عن الخلاص بالفن محاصر منذ البداية بكل خطايا النزعة النسبية، ويصعب التعامل معه خارج هذا الإطار. وحتى الفلاسفة الذين جعلوا من الفن طريقا للخلاص -مثل شوبنهاور ونيتشه وسارتر وماركيوز وأرنست بلوخ، وغيرهم- يصلون إلى نفس النتيجة.
فها هو شوبنهاور يصل إلى أن الفن هو الفاعلية المعبرة عن البعد العابر في السعادة الإنسانية، فالفن كما يقول “هو تلك المرآة الحقيقية للعالم والحياة خاصة فن الشعر؛ فكل ملحمة، أو قصيدة درامية، يمكن أن تمثل بمفردها نضالا وجهدا وحربا من أجل سعادة ليست كاملة أو دائمة. إنها تصل بأبطالها إلى الهدف عبر الآلاف من المصاعب والمخاطر، وبمجرد وصولهم إلى أهدافهم يتم إسدال الستار سريعا حيث أنه لم يعد هناك الآن ما يمكن عمله سوى بيان أن الهدف الرائع الذي توقع البطل أن يجد فيه السعادة كان مخيبا للآمال وبعد بلوغه لم يعد أحسن حالا من ذي قبل، لأن السعادة الحقيقية والدائمة غير ممكنة ولا يمكن أن تكون موضوعا للفن”.
ويلفت حماد إلى أن الفن هو أحد المسكنات أو واحد من الأدوية العديدة التي يخترعها الإنسان للتغلب على منغصات الحياة، وهو بهذا المعنى يقدم خلاصا دنيويا يحيا في دائرة الإمكان ويصب في التيار العظيم للطموح الإنساني الساعي نحو تحقيق المجتمع الأفضل. والواقع أنه ليس هناك طريق واحد للخلاص بالفن، فقد يتحقق هذا الخلاص بالتطهير (أرسطو)، أو الكرنفالية (ميخائيل باختين)، أو بالعالم البديل، العالم اليوتوبي (بلوخ، وماركيوز، ومالرو) أو بالنضال الثوري (بريخت والتيار الماركسي).
والمسرح يمكن أن يؤدي تلك الأدوار مجتمعة، لكن الكاتب في هذا البحث حاول أن يركز على نقطة محددة، وهي الجانب الشعائري أو الطقوسي في التراجيديا الكلاسيكية بشقيها اليوناني والحديث. غير أن هذا التحديد لا يعني أن المسرح المعاصر يخلو من هذا البعد، فالبعد الطقوسي عنصر مكون للتجربة الفنية من حيث هي كذلك، يعني أنه إذا كان الفن خرقا للمعتاد والمألوف وتمردا على الضرورة اليومية، ويقوم على مبادئ التلقائية والحرية والتنوع والتخيل والإيهام والاتصالية، فإنه بذلك لا بد أن يتضمن في بنية تكوينه عنصرا طقوسيا بصورة أو بأخرى، لكن هذا العنصر الطقوسي يكون أكثر بروزا ووضوحا في الدراما لاعتبارات تاريخية وتقنية.
ويرى أن الإنسان المعاصر منذ أن فقد روح الطقس في الفن وفي الحياة صار محروما من السعادة؛ أصبح يحيا بلا اكتراث، بلا مشاعر، بلا اهتمام، وصارت حياته روتينية كالأشياء. لم يعد هناك ما يدهشه أو يبهره أو يلفت نظره، صارت الأشياء من حوله فاترة، وصارت حياته نفسها أكثر فتورا، وإزاء انعدام الدراما من حياته كان لا بد أن يخلق الدراما البديلة، والدراما البديلة هي دراما اليأس، ودراما التدمير: تدمير الذات، وتدمير الآخر، وتدمير الأشياء.
إن الإنسان المعاصر حتى يخلق الإثارة في حياته الساكنة الباهتة كان عليه أن يصنع دراما جديدة تناسب روح اليأس والهوان التي يعيشها، والإنسان المعاصر يعثر على تلك الدراما البديلة بعدة طرق؛ فأحيانا عبر الاستمتاع السادي – المازوخي بمشاهد العنف والقسوة والتعذيب، وتارة أخرى من خلال ممارسة بعض الطقوس المشوهة التي تستدعي مشاعر بدائية قديمة مثل التعصب للفرق الرياضية والتعلق الفاشستي بالقوميات أو الزعماء، والهوس الديني، والتشيع الأعمى للأيديولوجيات، وعبادة السلع، وكل مظاهر الفيتشية المعاصرة.
على الفنان أن يرفض كالبطل التراجيدي كل أساليب المهادنة والتسوية والمصالحة مع عالم يستأصل إنسانية الإنسان
وينبه حماد إلى أن الفنان التراجيدى اليوم عليه أن يبحث عن تقنيات جديدة تتلاءم مع روح العصر، وعليه أن يواصل التحدي والتحدث بصورة مغايرة لما هو سائد حتى لا تبتلعه العولمة وتحيله إلى مسخ. وأن الفن كقيمة قوامها التمرد على الواقع ينبغي له أن يمارس هذا التمرد تجاه أى محاولة لاحتوائه. وهذا الأمر ليس جديداً، فمنذ فجر التاريخ والفن يخضع دائماً لإغراء أن يصبح جزءاً من المؤسسات السلطوية، والعولمة بصورتها الراهنة ليست إلا شكلاً جديداً من أشكال الرأسمالية، وبالتالي فهي سلطة شأنها شأن أي سلطة أخرى.
ويضيف “على الفنان الحقيقي اليوم أن يتخذ موقعه في المعسكر المعادي للعولمة. ولعله من المناسب أن نذكر في هذا السياق أن العولمة ليست نهاية التاريخ، وأنه لا بد أن يولد الجديد، قد يتأخر قليلاً، ولكنه سوف يأتي لا محالة. ربما يكون عصر المعجزات قد انتهى، ولكن أحداً لا يستطيع أن يتنبأ بما سيحدث، وسيظل المصير التاريخي مرهوناً بقدرة الرأسمالية على الاستمرار، وأيضاً بقدرة الشعوب المقهورة على المقاومة والنضال ضد سادة العولمة، وضد الدكتاتورية السياسية والعصبية العرقية – الدينية من جانب آخر. إن الفنان المعاصر أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن يستسلم لليأس ويؤمن بالواقع الراهن، وإما أن يقاوم وأن يحمل صليبه مثل الرسل والقديسين”.
ويخلص حماد إلى أنه على الفنان اليوم أن يرفض مثل البطل التراجيدي كل أساليب المهادنة أو التسوية أو المصالحة مع عالم كل ما فيه يستأصل إنسانية الإنسان.
ويقول “عليه ألا يستسلم برغم يقينه أن كل أعماله يمكن أن تحترق مثل القرابين، وأنها يمكن أن تكون مجرد إضافات للمحرقة الكبرى التي تحاول أن تحيل كل ما هو بطولي وعظيم إلى شيء تافه وبلا قيمة. إن مهمة الفنان المعاصر اليوم هي كشف تشيؤ الواقع الراهن، وفضح مدى فساده وتحلله وغثيانه. بعبارة أخرى أن عليه أن يتواصل مع هذا العالم عبر رفضه ودحضه واحتقاره. أن عليه أن يكتفي بالتهديم والتعرية ولا يترك لنفسه أي فرصة لأي عزاء من أي نوع. وحسبه أن يكون عزاؤه الوحيد هو امتلاك القدرة على السخرية والاحتجاج والازدراء! إن عليه أن يتمسك بالحلم ويتذرع بالأمل رغم مأساوية المصير الإنساني. عليه أن يدرك أن المخلص الحقيقي لن يظهر إلا حين يسود الظلام، وحين يملأ اليأس القلوب”.