لماذا لم تعد مصر منزعجة من تداعيات الأزمة الليبية المستمرة

مصر باتت مطمئنة إلى أن التغييرات على المشهد الليبي لن تضيرها بعد أن نجحت في تحييد الميليشيات غرب ليبيا، وحدت من غلواء نفوذ تركيا، وأمّنت حدودها الغربية، فيما باتت مواجهة القوى والمرتزقة على الأراضي الليبية مهمة الدول الغربية. وسعت القاهرة لتحويل المعركة الأمنية في ليبيا إلى معركة سياسية من بوابة الانتخابات.
تراجعت حدة التهديدات الأمنية القادمة من ليبيا على مصر مؤخرا، فتراجع معها مستوى الانزعاج والتوتر من التطورات التي أخذت شكلا سياسيا يتعلق بتحديد مصير الانتخابات المعطلة، وهو أمر لا يشكل قلقا كبيرا للقاهرة في الوقت الراهن، فهذه العملية شأن ليبي وإقليمي ودولي يمكن حلها بالحوارات والأدوات والتفاهمات السياسية أكثر من قعقعة السلاح وارتفاع صوت المدافع في غرب ليبيا وشرقها.
كشّرت مصر عن أنيابها عندما كانت أجزاء كبيرة من منطقة شرق ليبيا المجاورة لحدودها تحت هيمنة جماعات إرهابية، ورفعت جاهزيتها العسكرية وقت أن أرادت الميليشيات الاحتكاك بها والاضرار بمصالحها، ووضعت خطها الأحمر في سرت – الجفرة عندما راودت تركيا طموحات سافرة بالاقتراب من هذه المنطقة.
تغير الكثير من هذه المعادلات، فلا المتطرفون يتحكمون في الشرق، ولا قادة الميليشيات عازمون على الاقتراب منه، ولا تركيا تريد إعادة فصولها القاتمة في مضايقة مصر التي أعادت ترتيب أوراقها الأمنية بما يضمن درجة عالية من تأمين الحدود الغربية، واتخذت من الإجراءات ما يردع القوى التي تفكر في الاعتداء عليها.
أحد أسرار الارتياح المصري لما يجري في ليبيا أن تركيا سوف تكون مضطرة للتخلي تدريجيا عن خيارها العسكري في المنطقة الذي أفضى إلى زيادة حدة الانزعاج المصري ورفع سقف الاستنفار
وأصبحت مسألة التدخلات العسكرية الخارجية وكثافة المرتزقة تمثل قلقا لدول غربية أكثر من مصر، حيث تأكدت قوى عدة أن هذه القضية سوف تكون لها ارتدادات على توازنات القوى العالمية، ويمكن أن تتحول إلى منغص دائم لجنوب أوروبا وحلف شمال الأطلسي، فالتهاون السابق أغرى روسيا وشجع تركيا على توسيع نفوذهما في ليبيا.
تجاوز تمركز القوات الأجنبية حدود الهموم المصرية التقليدية، وبات همّا لدى قوى كبرى وتتولى التعامل معه بطريقة شبه جماعية، بما يكسر حاجزا مهما سعت القاهرة لتحطيمه خلال الأشهر الماضية ولم تجد تجاوبا كافيا معها، إذ حال التقاعس أو التراخي الذي بدا عليه المجتمع الدولي دون ذلك في حينه.
تسبب وضع ملف المرتزقة على الطاولة الدولية في طمأنة القيادة المصرية، خاصة أن فلولا من هؤلاء بدأت ترحل عن ليبيا كنوع من الإيحاء بأن هذه الورقة لن تستمر طويلا في ليبيا، وأشار الزخم الذي شهدته الانتخابات المغدورة إلى أن غالبية القوى الليبية ترتاح إلى هذا الخيار وتقتنع أن الحرب لم تعد حلا للأزمة المستعصية.
عندما بدأ ملف التدخلات الخارجية يحتل أولوية لدى المجتمع الدولي وجدت القاهرة أن الأزمة في ليبيا يمكن تفكيك العقدة الكبيرة فيها، والتي مثلت على الدوام هاجسا كبيرا لها، لأنها لا تريد أن تكون كبش فداء، أو رأس حربة في مواجهة موزاييك من الميليشيات تتداخل فيها كل أنواع القذارة العسكرية.
كما أن التطورات السياسية في دول الجوار لم تعد داعمة للمتطرفين ومن يدورون في فلكهم داخل ليبيا، فالضربة التي وجهت إلى حركة النهضة في تونس حرمت التيار الإسلامي من أحد أهم الأبواب الخلفية التي اعتمد عليها طويلا، حيث سدت السطات الأمنية في تونس جانبا معتبرا من ثغرات اعتاد على استغلالها المنتمون إلى هذا التيار في ليبيا، وأوقفت زحف سيناريوهات تجرها إلى مستنقع شبيه بما يجري في ليبيا.
وأعادت الجزائر تصويب رؤيتها بما يخفف من تعاطفها أو تفهمها لخطاب الإسلاميين في ليبيا، وبدت على تناغم نسبي مع القاهرة، والذي تعزز مع سقوط حزب العدالة والتنمية المغربي في الانتخابات البرلمانية الأخيرة وفقدانه السيطرة على الحكومة، الأمر الذي أوجد ارتياحا لدى مصر، فالتغيرات التي حدثت في دول الجوار المغاربية ستكون لها انعكاسات سلبية على الحظوظ الأمنية والسياسية للإسلاميين في ليبيا. كان هؤلاء من أشد القوى الليبية سعيا لتعطيل مسار الانتخابات بذريعة الاعتراض على القوانين المنظمة لها تارة أو عدم اكتمال البنية اللوجستية اللازمة تارة أخرى.
بينما يعود السبب الرئيسي إلى عدم الثقة في الوجود داخل السلطة بعد إجراء انتخابات نزيهة، لذلك دفعت القاهرة نحوها كطريق وحيد يتكفل بكشف الوزن الحقيقي للإسلاميين في ليبيا، حيث ترى تقديرات مصرية أن وزنهم لا يتجاوز الـ15 في المئة، الأمر الذي لا يمكنّهم من الوصول إلى السلطة أو التحكم في مفاتيحها التشريعية.
سعت القاهرة منذ فترة لتحويل المعركة الأمنية إلى سياسية في ليبيا، وليتنافس المتنافسون، غير أن بعض القوى رفضت تسهيل الطريق أمام هذا الخيار لعجزها عن فهم الواقع الليبي أو تواطؤها مع قادة الجماعات المسلحة ومن يقفون خلفهم، وهو ما يفسر إصرار مصر مبكرا على اللجوء إلى التسوية السياسية لحل الأزمة الليبية.
على الرغم من الصعوبات التي تعتري العملية الانتخابية حاليا، لكنها أضحت واقعا يصعب التراجع عنه، وتعمل بعض القوى الدولية على إيجاد صيغة مناسبة لضبط الدفة في هذا الاتجاه ومنع النكوص عنه، ومثلت حوارات أجرتها المبعوثة الخاصة للأمم المتحدة ستيفاني ويليامز في كل من تونس وتركيا وروسيا ومصر مؤخرا جزءا من البحث عن وسيلة للخروج من المأزق وتأكيدا لعدم الرجوع إلى الحرب.
مصر كشّرت عن أنيابها عندما كانت أجزاء كبيرة من منطقة شرق ليبيا المجاورة لحدودها تحت هيمنة جماعات إرهابية، ورفعت جاهزيتها العسكرية وقت أن أرادت الميليشيات الاحتكاك بها والاضرار بمصالحها
أضفى الوصول إلى هذه النقطة الكثير من معالم الارتياح في القاهرة لأن الصراع السياسي أخفّ ألما لها من الصراعات المسلحة، فهما كانت القوة الصاعدة في المشهد الجديد فلدى مصر من المرونة ما يمكنها من التعامل معها، الأمر الذي جعلها تضاعف من انفتاحها على القوى السياسية باختلاف أطيافها الفترة الماضية وتتخلى عن انحيازاتها نحو تيار أو شخصيات بعينها.
أسهم اللجوء إلى التغيير في ليبيا ودعم اللجوء إلى طريق الانتخابات في ضبط الخلل الحاصل في العلاقة بين القاهرة وقوى نشطة على الساحة الليبية، فطالما أن اللعبة ملتزمة بالضوابط السياسية وبعيدة عن العبث الأمني فلن يضيرها كثيرا صعود قوة ليست على وفاق تام معها، فالشعب الذي اختار هذه القوة أو تلك هو الوحيد صاحب الإرادة والقادر على التخلص منها.
يرفع الدخول في هذه المرحلة عن كاهل مصر عبئا أمنيا كبيرا مع تركيا تحديدا عندما كانت من أبرز المنغصات التي حاولت القاهرة التخلص منها بطرق مختلفة، فمع التقارب السياسي الظاهر بين البلدين لم يعد تواصل أنقرة مع قوى في شرق ليبيا، محسوبة تقليديا على مصر، مصدر إزعاج لها، ولم تعد زيارات المسؤولين في أنقرة إلى هذه المنطقة يفهم على أنه موجه تماما ضد المصالح المصرية.
أزال التقارب بين القاهرة وأنقرة الكثير من المحرمات في ليبيا، وأدى وضع المنافسة في إطار سياسي لتقليل منسوب الغضب والخلافات بينهما، ففي النهاية أصبحت معالم اللعبة واضحة وقواعدها ليست عصية على الفهم، ومن يملك المقومات الفارقة عليه أن يستقطب ما يريد من القوى التي يستطيع التعاون والتنسيق معها.
أحد أسرار الارتياح المصري لما يجري في ليبيا أن تركيا سوف تكون مضطرة للتخلي تدريجيا عن خيارها العسكري في المنطقة الذي أفضى إلى زيادة حدة الانزعاج المصري ورفع سقف الاستنفار، لأنه يخل بالتوازن الذي تريده القاهرة، وكان سيجبرها على اختيار طرق عنيفة لا تريد اللجوء إليها في هذه المرحلة، حيث تحاول تثبيت أقدام النظام في الداخل أولا قبل الاستعداد أو الشروع في مواجهات إقليمية.