جرائم انتخابية أمام القضاء التونسي: إدانة سياسية أم ذر رماد في العيون؟

يتطلع الشارع السياسي في تونس إلى معرفة الحقائق المتعلقة بالجرائم الانتخابية بدورتيها التشريعية والرئاسية الماضية، بعدما قرّر القضاء فتح تلك الملفات، في خطوة لتفعيل ما أورده تقرير دائرة المحاسبات من تجاوزات تعلقت بالإشهار السياسي وشبهات التمويل الأجنبي لحملات الأحزاب، فضلا عن شراء ذمم الناخبين.
تونس - تدشّن المحكمة الابتدائية بالعاصمة تونس الخميس النظر في ملف الجرائم الانتخابية التي تم تسجيلها في العام 2019 ومن بينها الانتفاع بدعاية انتخابية غير مشروعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والدعاية خلال فترة الصمت الانتخابي، بالإضافة إلى عدم شرعية موارد تمويل الحملة الانتخابية للبعض منهم.
وتضم قائمة المتهمين تسعة عشر شخصا من قادة الأحزاب السياسية والمترشحين للسباق الرئاسي، ومن بينهم راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة ويوسف الشاهد رئيس حزب تحيا تونس والرئيس المؤقت الأسبق منصف المرزوقي وزعيم حزب العمال حمّة الهمامي ووزير الدفاع الأسبق عبدالكريم الزبيدي وآخرون.
وتنطلق المحاكمة في ظل جدل واسع حول طبيعة الاتهامات ونصوص الإحالة القانونية بشأنها والأحكام المنتظر صدورها على المتهمين، فيما اعتبر نائب رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فاروق بوعسكر أنّ “الرئيس قيس سعيّد معني أيضا بمخالفة الدعاية السياسية كغيره من المترشحين، إلا أنّه يتمتع بالحصانة طيلة توليه رئاسة البلاد”.

عبدالحميد بن مصباح: عقوبة التمويل الأجنبي للحملات تصل إلى خمس سنوات سجنا
وأضاف أن “هناك جرائم انتخابية أخرى أكثر أهمية من التي سينظر فيها القضاء الخميس، ومنها تلقي التمويلات الأجنبية وتزوير التزكيات”.
وترى أوساط تونسية أن الملفات المعروضة فعليا على القضاء تعكس رغبة في غلق ملف الجرائم الانتخابية انطلاقا من أبسط القضايا المسجلة، وهو ما سيؤدي إلى إسقاط بقية الجرائم بفعل التقادم، وذلك بعد مرور ثلاث سنوات من ارتكابها، كما حدث مع الجرائم المسجلة في انتخابات 2014 بشقيها الرئاسي والبرلماني والانتخابات البلدية للعام 2018.
وخلال اجتماع لمجلس الوزراء أوائل يناير الجاري، فنّد الرئيس سعيد أن يكون تورط في الحصول على تمويلات أجنبية لحملته الدعائية على مواقع التواصل الاجتماعي خلال السباق الرئاسي، وقال إنه استمع إلى عدد من الأشخاص الذين سيتم تتبعهم بتهم تتعلق بالتمويلات الأجنبية التي تأتي من الخارج وتدخل في حقائب بالأورو وبالدولار، وفق تقديره.
وأضاف سعيّد “ليعلم الجميع أني لا أخاف إلا الله، وأن المبلغ الوحيد الذي دفعته خمسون دينارا إلى جانب ثمن فناجين القهوة ورفضت أصلا التمويل العمومي وقلت للهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي من المفترض أن تكون مستقلة لا أن تكون أداة في أيدي عدد من الأشخاص إن هذه الصفحات التي لا أستعملها أصلا، لا تلزمني ولا أعلم من كان وراءها، ومع ذلك تصدر البيانات والتعاليق في كل مكان ويقال بعد ذلك إن هناك تمويلا”.
وجاء تصريح سعيد كرد على إدراج اسمه ضمن قائمة المتهمين بارتكاب جرائم تتعلق بالدعاية الانتخابية وفق التقرير الصادر عن دائرة المحاسبات والذي سيتم الاعتماد على جانب منه في المحاكمة المرتقبة، علما وأنه مدعوّ إلى الوقوف أمام القضاء باعتباره يمتلك الحصانة السياسية كرئيس للبلاد.
وأكد المحلل السياسي والقانوني عبدالحميد بن مصباح أن “القضية المطروحة الخميس على القضاء قد تشهد غياب أغلب المتهمين ممن سيكتفون بتكليف محامين بالحضور بدلا عنهم، وذلك لأسباب عدة أهمها أن التهم الموجهة ضدهم تدخل في سياق الجنح وليست جنايات، والعقوبات التي أقرها القانون بخصوصها هي عقوبات مالية فقط”.
وبيّن مصباح لـ”العرب” أن “القانون الانتخابي يعاقب على جرائم مخالفة شروط الدعاية السياسية بغرامة مالية تقدر بعشرة آلاف دينار (3.47 ألف دولار) وعلى خرق الصمت الانتخابي بغرامة قدرها عشرون ألف دينار (6.94 ألف دولار)، وهو ما يعني أن تلك الأحكام مدنية وقد تتخذ بعدا سياسيا بالأساس، لكن تأثيرها يبقى محدودا على مستقبل المتهمين والتيارات السياسية التي ينتمون إليها، عكس جريمة التمويل الأجنبي للحملات الانتخابية مثلا والتي تصل عقوبتها إلى خمس سنوات سجنا”.
وكان مكتب الاتصال بالمحكمة الابتدائية بتونس قد أعلن أن النيابة العمومية قررت إحالة تسعة عشر شخصا شاركوا في الانتخابات التشريعية والرئاسية بدوريها الأول والثاني على المجلس الجناحي بالمحكمة الابتدائية بتونس من أجل جرائم انتخابية، وذلك بعد إتمام الاستقراءات والأبحاث بناء على التقرير العام حول نتائج مراقبة تمويل الحملات الانتخابية للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها والانتخابات التشريعية لسنة 2019 ومراقبة مالية الأحزاب.
وبحسب القانون الانتخابي، فإن الجرائم المتعلقة باستعمال الموارد العمومية في الحملات الانتخابية واستعمال وسائل الإعلام الأجنبية والجرائم التي تتعلق بالتبرعات النقدية وتزوير التزكيات الشعبية والبرلمانية تسقط بمرور ثلاث سنوات على ارتكابها، ولذلك، فإن ما تم تسجيلها من هذه الجرائم في انتخابات 2019 في شقيها الرئاسي والبرلماني ستسقط بنهاية العام الجاري 2022.

وتتضمن لائحة المحالين على المجلس الجناحي نبيل القروي ويوسف الشاهد وعبدالكريم الزبيدي وراشد الخريجي وربيعة بن عمارة وسليم الرياحي وراشد الغنوشي وأحمد الصافي سعيد وحمادي الجبالي وحمة الهمامي وسلمى اللومي ومحمد الصغير النوري ومحمد المنصف المرزوقي وناجي جلول ومحمد الهاشمي الحامدي وإلياس الفخفاخ ومهدي جمعة ومنجي الرحوي ولطفي المرايحي وسعيد العايدي.
وكشفت إذاعة موزاييك الخاصة الثلاثاء أن النيابة العامة بالمحكمة الابتدائية بتونس قررت إحالة كل من عبدالفتاح مورو وعبير موسي وسيف الدين مخلوف وعمر منصور على أنظار قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس، وذلك من أجل مخالفة التراتيب المتعلقة بالإشهار السياسي خلال الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها والانتخابات التشريعية لسنة 2019.
وأبرزت أن قرار إحالة المذكورين على التحقيق جاء استنادا إلى صفاتهم كمحامين حيث “توجب القوانين المعمول بها إحالة المحامي على قاضي التحقيق في أي جنحة أو جريمة تنسب إليه”.
وبيّن المحلل السياسي منذر ثابت أن “هذه القضايا كان من المفترض أن يتم الحسم فيها بسرعة، وأن يتزامن المسار القضائي والسياسي على ذات الوتيرة الزمنية، لكن ما حدث كان العكس تماما، حيث تأخر المسار القضائي كثيرا في حسم موقفه من الجرائم الانتخابية التي تم تسجيلها سواء من قبل هيئة الانتخابات أو من هيئة المحاسبات، وهو ما يعني عدم الاهتمام بها ضمن منظومة إخلالات عامة عرفتها البلاد في محطاتها الانتخابية للعام 2011 ثم للعام 2014 وصولا للعامين 2018 و2019”.
وأضاف لـ”العرب” أن “ما يجري حاليا لا يمكن فصله عن المسار السياسي العام السائد بعد التدابير الرئاسية الاستثنائية المعلنة في الخامس والعشرين من يوليو الماضي، ولكن في صورة تعكس حالة لا تخرج عن ذر الرماد في العيون، وبالتالي، فإن الهدف السياسي من المسار القضائي الحالي لن يتحقق، كما أن المشهد السياسي العام لن يتغير باعتبار البرلمان نفسه في حكم العدم، وهو معلّق في حل المنحلّ، ومغلق في حكم المنتهية صلاحياته، لكن الإعلان رسميا عن حله يفرض انتخابات جديدة في أجل منظور أدناه خمسة وأربعين يوما وأقصاه تسعين يوما”.

منذر ثابت: المسار القضائي تأخر كثيرا في حسم موقفه من الجرائم الانتخابية
وأردف ثابت أن “الملاحقة القضائية الحالية المتعلقة بالجرائم الانتخابية تكشف عن خلل في العلاقة بين الزمنين السياسي والقضائي، كما تكشف عن ارتباك في توصيف التهم فمرة في خانة الجرائم ومرة أخرى في خانة المخالفات المدنية البسيطة التي ستعرض على الدائرة الجناحية كنوع من التغطية على الجرائم الحقيقية”.
واعتبر زعيم حزب العمال حمّة الهمامي أن الهدف ليس بحثا جديا وفعليا في فساد انتخابات 2019، بل هو تشويه ومهزلة لتلهية الرأي العام عن الميزانية وتوصيات صندوق النقد الدولي، وهي تندرج في نفس إطار الحديث عن تسميم الراحل الباجي قائد السبسي و“اختطاف نورالدين البحيري”.
وأضاف في تصريحات صحافية أن “حزب العمال قدم قضية في ديسمبر 2019 في ما يخص إخلالات الانتخابات”، مؤكدا أنه “تم الاستماع إليه ولا يتعلق بذمته لا إشهار سياسي ولا دعاية غير مشروعة ولا خرق صمت انتخابي”.
ويرى مراقبون أن الرئيس سعيد كان قد أبدى تشديده في مناسبات عدة على ضرورة أن يحسم القضاء موقفه بشأن الجرائم الانتخابية ولاسيما المتعلقة بالاستحقاق التشريعي وفق ما ورد من شبهات تضمنها تقرير هيئة المحاسبات، وذلك لأسباب سياسية حيث أن تأكيد الاتهامات الموجهة لكل من حركة النهضة وحزب قلب تونس وإدانتهما بالحصول على تمويلات أجنبية كان يمكن أن يؤدي إلى إقصاء كتلتيهما النيابيتين، وبالتالي إلى حل البرلمان آليا، ولكن ذلك لن يتحقق بسهولة على ما يبدو.
وأبرز السياسي والمحامي مبروك كرشيد أن “الملف المعروض على القضاء حاليا كثيرا ما تصدر فيه المحاكم أحكاما بعدم سماع الدعوى”، مضيفا أن “التهم الموجهة لعدد من السياسيين عقابها غرامات مالية، كما أن حضور المتهمين ليس وجوبيا لأن التهم لا تتضمن عقابا بالسجن”.
وأبرز رئيس محكمة المحاسبات نجيب القطاري أن “عقوبة الجرائم الانتخابية المتمثلة في الدعاية السياسية وعدم احترام فترة الصمت الانتخابي هي عقوبة مالية، وأن النيابة العامة لدى محكمة المحاسبات تولت منذ يناير 2021، وفق الفصل 15 من القانون الأساسي المنظم للمحكمة، تبليغ النيابة العامة المختصة بملفات المخالفات الانتخابية التي من شأنها أن تشكّل جناية أو جنحة، والتي تم إدراجها بالتقرير الخصوصي الذي أصدرته المحكمة”.
وأكد القطاري أن الشبهات المتعلقة بالإشهار السياسي وعدم احترام الصمت الانتخابي تمثل جنحا تكون عقوبتها مالية، وهي من اختصاص القضاء العدلي، متابعا أن “محكمة المحاسبات سبق لها أن قدمت مقترحا للسلطة التشريعية من أجل مراجعة القانون الانتخابي، قصد إضفاء المزيد من النجاعة على تدخل محكمة المحاسبات، خاصة عبر اعتماد إجراءات وآجال خصوصية للتقاضي تتماشى وطبيعة المادة الانتخابية، فضلا عن إضفاء المزيد من الدقة على تعريف بعض المفاهيم كالإشهار السياسي”.
ويؤكد محللون سياسيون أن مجلس نواب الشعب الذي كان خاضعا لسيطرة حركة النهضة وحلفائها لم يتجه لمراجعة القانون الانتخابي، وترك المجال مفتوحا بما يخدم مصالح الأطراف السياسية التي ترى نفسها الأقوى على الساحة ويحول دون ملاحقتها قضائيا بشكل قد يؤثر على نتائجها أو على موقعها السياسي أو التشريعي، لافتين إلى أن تيار الإسلام السياسي كان مؤثرا على المسار الانتخابي من جهة ومتغلغلا في مفاصل المؤسسة القضائية من جهة أخرى.