دول البلطيق على "قائمة طعام" روسيا

رغم عقود من الاستقلال إلا أن دول البلطيق لا تزال تواجه التهديد الروسي.
الجمعة 2022/01/14
من التالي؟

موسكو – تغذي التهديدات الروسية باجتياح أوكرانيا وإقدام موسكو على إرسال قوات إلى كازاخستان لإخماد اضطرابات هناك حالة القلق لدى دول البلطيق التي ترى بأن مثل هذه التدخلات الروسية تعكس عدم وجود خطوط حمراء بالنسبة إلى الكرملين، وهو ما يفرض إعادة النظر في سياساتها الدفاعية.

وتعتبر دول البلطيق أن التهديدات الروسية المتعاظمة باتت تستوجب التركيز على الأمن الجماعي في المنطقة، والتعامل مع التهديدات بجدية من خلال إيلاء الاهتمام الكافي للميزانيات العسكرية.

ولدول البلطيق التي تجمع إستونيا ولاتفيا وليتوانيا تاريخ قاس مع روسيا، حيث سبق وأن احتلت الإمبراطورية الروسية دول المنطقة، وبعد فترة وجيزة من الاستقلال بين الحربين العالميتين، قام الاتحاد السوفياتي بإعادة السيطرة عليها، بداعي أنها جزء من أراضيه.

القوات الروسية التي أرسلت إلى كازاخستان لقمع الانتفاضة الشعبية تعيد التذكير بسحق التمرد في المجر

ورغم عقود من الاستقلال إلا أن دول البلطيق لا تزال تواجه التهديد الروسي. وخلصت دائرة أمن الدولة في لاتفيا، في تقريرها السنوي، إلى أن أجهزة المخابرات الروسية شكلت التهديد الأمني الأول للبلاد في عام 2021 تليها الوكالات الصينية والبيلاروسية في المرتبة الثانية والثالثة.

وعقد اجتماع في الحادي والعشرين من ديسمبر الماضي بين وزراء دفاع إستونيا ولاتفيا وليتوانيا كالي لانيت، وأرتيس بابريكس وأرفيداس أنوساوسكاس، تم الاتفاق خلاله على ضرورة تبني نهج مشترك للتصدي للمحاولات الروسية لزعزعة الأمن الأوروبي.

وانتقد وزراء دول البلطيق في بيان مشترك مساعي روسيا “التأسيس لمناطق نفوذ في أوروبا وإنكار حق الدول ذات السيادة في تقرير مصيرها”.

وأشار البيان إلى أن دول البلطيق قلقة للغاية بشأن “تمركز القوات العسكرية الروسية على حدود أوكرانيا”. مشددين على أنهم يقفون إلى جانب كييف وأنهم مستعدون لتقديم الدعم الفوري لها، بما في ذلك جميع الأدوات غير العسكرية والعسكرية المتاحة.

وليست مثل هذه العبارات بالجديدة. حيث لطالما كانت دول البلطيق قلقة بشأن علاقاتها مع الجارة الشرقية. وتبقى الدول الوحيدة على حدود روسيا التي تربطها بها علاقات حميمة تلك التي لديها مشاكل كبيرة مع الفساد والديمقراطية نفسها.

وليس هذا مفاجئا، حيث لم يمح ربيع براغ في العام 1968 والثورة المجرية في العام 1956 من ذاكرة جيران روسيا. ولا تزال معاناة الحقبة السوفياتية ماثلة في ذاكرة شعوب دول البلطيق من عمليات الترحيل الجماعي إلى معسكرات الاعتقال، والقمع الوحشي لحركة مقاومة ما بعد الحرب.

وتجعل هذه الذكريات المؤلمة مواطني دول البلطيق قلقين لأنهم يرون أنه لم يتغير الكثير في السياسة الروسية منذ أيام الاتحاد السوفياتي.

التدخلات الروسية تعكس عدم وجود خطوط حمراء بالنسبة إلى الكرملين
التدخلات الروسية تعكس عدم وجود خطوط حمراء بالنسبة إلى الكرملين

وكان لما حدث في جورجيا في العام 2008 فيما يسمى بالنزاعات الحدودية أوجه تشابه واضحة مع حرب الشتاء، عندما غزا السوفيات فنلندا، واتبعت شبه جزيرة القرم في 2014 نفس سيناريو احتلال الاتحاد السوفياتي لدول البلطيق في العام 1940.

وتعيد القوات التي أرسلت إلى كازاخستان لقمع الانتفاضة الشعبية التذكير بسحق التمرد في المجر وتشيكوسلوفاكيا.

وتبقى دول البلطيق مستعدة للتحرك لحماية أمنها وهي حريصة على دعم أوكرانيا قدر الإمكان بسبب هذا الماضي المشترك، حيث تعلمت من أخطاء الماضي وتدرك اليوم أن الأمن الجماعي هو الأمل الوحيد للبقاء.

كما أخذت هذه الدول عضوية حلف الأطلسي على محمل الجد، حيث ترى أن هذا الانضمام سيشكل رادعا إضافيا لموسكو، لكن ذلك لا يعني أن التهديد انتفى.

وتقلّص الاعتقاد القديم بأن “روسيا لن تغزو دول البلطيق طالما هي أعضاء في الناتو”. وأصبحت هذه الفكرة سائدة بشكل خاص بين الشباب وذوي العلاقات العسكرية. ويترجم ارتفاع معدلات العضوية في الميليشيات المنظمة في منطقة البلطيق، والتي زادت العام الماضي بنسبة 11.5 في المئة، إحساسا متناميا بضرورة الرهان على الذات.

ويقول ضابط في الحرس الوطني اللاتفي سبق وأن خدم في صفوف الجيش السوفياتي في أفغانستان “ستكون هناك حرب أخرى. لا أعرف متى أو كيف، لكنها قادمة. لقد كان الأمر كذلك دائما، وإلى أن يحدث شيء مذهل حقا في روسيا، فسيظل الأمر كذلك”.

دول البلطيق تبقى مستعدة للتحرك لحماية أمنها وهي حريصة على دعم أوكرانيا قدر الإمكان بسبب هذا الماضي المشترك

والموقف السائد في مجال ما بعد الاتحاد السوفياتي هو أن “أحذية الروس ستكون في بلادهم مرة أخرى”. وغالبا ما كان يُطلق على هذا الموقف في الماضي جنون الرهاب، لاسيما قبل الهجمات على جورجيا وأوكرانيا.

وأُطلِق على دول البلطيق لقب مروّجي الخوف، كما حدث عندما أثاروا مخاوف بشأن أنشطة روسيا في الشيشان، وفي قمعها الداخلي للمعارضة. ولكنّ مواطني البلطيق يقولون “لقد رأينا هذا من قبل، ونحن دائما نتعامل مع التهديدات بجدية تامة”.

وتكمن أحد أسباب ذلك في أن معظم شعوب دول البلطيق تتحدث الروسية، فهم متابعون أوفياء لكل المواقف والتصريحات الروسية.

وفي لاتفيا، على سبيل المثال، يتحدث 37 في المئة من الشعب اللغة الروسية وكثير غيرهم يتكلمون اللغة الروسية بطلاقة. ويشاهد الكثير من سكان لاتفيا وسائل الإعلام الروسية الرسمية وغير الرسمية.

وصرح ألكسندر نيفزوروف، وهو واحد من أبرز الصحافيين الروس ومقدم إذاعة صدى موسكو، مؤخرا أن “وسائل الإعلام الروسية مليئة بالمعلومات حول كيف يجب أن يخافنا جيراننا، وكيف يمكننا تحويل العالم إلى مقبرة نووية مليئة بالرماد، كيف يمكن لجيشنا أن يغزوهم في أقل من يوم، وكيف يجب علينا استعادة الحدود التي كانت قائمة، إن لم يكن في عهد الاتحاد السوفياتي، فمن المؤكّد في ظلّ الإمبراطورية الروسية؟ كيف تنتمي جميعها إلى روسيا الأم ومن ثم نتفاجأ عندما يصدقنا جيراننا ويأخذون هذا بعين الاعتبار ويحتجون”.

ويرى الكاتب الصحافي اللاتفي كريستابس أندريجسون أن أفضل تفسير للمزاج والوضع في دول البلطيق وبالتالي في منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي هو “لقد كنا هنا من قبل. والآن كازاخستان وأوكرانيا. وغدا قد نكون نحن. وإذا لم نساعد أوكرانيا ونؤيدها الآن، فهل سنأمل في أن يدعمنا شخص آخر؟ لم نفعل شيئا آخر مرة في عام 1940، وجلسنا في الزاوية على أمل أن يمر كل شيء بشكل طبيعي. لم يحدث ذلك، وجاء جوزيف ستالين وتسبب في مأساة لشعوبنا لن تُنسى أبدا. لذلك، نستمع إلى ما تقوله روسيا ونصدقه. حتى الآن، لم تعطنا أيّ سبب لعدم تكرار ذلك”.

6