فنانة تنشد التراث العربي بإيقاعات أوركسترالية

رغم طغيان موجة الغناء العربي الحديث الذي لا يقدّم في معظمه حالة فنية عالية، تبقى للطرب العربي الأصيل مكانته الخاصة، فهو وإن خفت حضوره، إلاّ أنه لم يندثر وظل محافظا على بريقه حتى عند جزء كبير من الجمهور الشاب. وضمن هذا التوجه قدّمت الفنانة السورية الشابة ميرنا ملوحي بمشاركة فرقة "قصيد" الموسيقية حفلا غنائيا في دمشق حقّقت فيه تفاعلا خلاّقا بين الموسيقى التراثية وجمهور الشباب.
دمشق - أحيت الفنانة ميرنا ملوحي مؤخرا أمسية غنائية طربية على خشبة مسرح الحمراء بدمشق، حضرت فيها أجواء الموسيقى العربية الرصينة والراقية التي يتشوّق الناس لسماعها، حيث أدت المطربة السورية الشابة مجموعة من الأغاني الصعبة برفقة أوركسترا قصيد بقيادة المايسترو كمال سكيكر، فغنت لمطربين سوريين ولبنانيين ومصريين.
البداية كانت مع أجواء المطربة فايزة أحمد عبر أغنيتها الشهيرة “أنا قلبي إليك ميال” من زجل مرسي جميل عزيز وألحان محمد الموجي، وهي الأغنية التي ثبّتت مكانتها كواحدة من المطربات الكبار في مصر أواسط خمسينات القرن الماضي، أغنية كان أعدّها الموجي لزوجته الفنانة أحلام، لكنه بعد سماع صوت فايزة منحها اللحن، ثم ألحقه بلحن “يما القمر عالباب” الشهير.
الأغنية التي أدّتها ملوحي بصوتها الرخيم تفاعل معها الجمهور رقصا وتصفيقا، قبل أن تقدّم الأغنية الشهيرة التي لحنها الموسيقار فريد الأطرش وغناها كما غنتها بعده سعاد محمد وهي “بقى عايز تنساني” التي كتبها عبدالعزيز سلام الذي كان قد كتب له أغنيته الشهيرة “وياك” التي ترجمت إلى الروسية والفرنسية.
تناغم فني

كمال سكيكر: الاختلاف في تبني التراث الموسيقي يضمن المزيد من النجاح
بعيدا عن الطرب قدّمت ملوحي من الغناء الرحباني أغنية “يا رايح على كفر حالا” لفيروز والتي تميّزت بالحيوية والسرعة في تناغم بين أداء الفنانة الشابة والفرقة الذي بدا أكثر تلقائية من الغناء الطربي الثقيل الذي كان قبلا. ومن تراث الموسيقار محمد عبدالوهاب قدّمت “مضناك جفاه مرقده” وهي القصيدة التي لحنها بعد وفاة كاتبها الشاعر أحمد شوقي بعشر سنوات وذهب فيها في حالة تطريبية عالية تتوافق مع خصوصية الشعر مبتعدا عن الروح التجديدية التي كانت تسم ألحانه حينها.
وفي انعطافة مفاجئة قدّم الحفل شيئا من الغناء الأحدث والمتغيّر مزاجيا، حيث غنّت ملوحي “أمّن لي بيت” للمغنية لطيفة التونسية وهي من زجل ولحن زياد الرحباني الذي قدّم فيها جملا موسيقية متكرّرة ورشيقة كانت بساطة الكلمات والتوزيع الموسيقي الحديث لها جسرا لوصولها لشرائح كبيرة من الناس، وقدّمتها ميرنا بشكل رشيق وانسيابي.
كما قدّم الحفل عملا لسيد درويش وعزفا منفردا على القانون، والخاتمة كانت بأغنية “دارت الأيام” التي وضعها زجلا مأمون الشناوي في رابع تعاون له مع أم كلثوم بعد “أنساك” و”كل ليلة وكل يوم” و”بعيد عنك” ولحنها محمد عبدالوهاب وقدّمتها أم كلثوم عام 1970.
اللحن شهير ومعروف عند الجمهور ويحفظه الكثيرون، فهو أحد كلاسيكيات الغناء الكلثومي، الذي ردّد العشرات من المرات سابقا، الأمر الذي جعل أداء ملوحي محل مقارنة مع تجارب أخرى. لكن أداءها جاء متناغما مع سطوة شهرة اللحن وجمالياته وكذلك التوليفة الموسيقية التي أوجدتها فرقة قصيد، فكان مسك الختام في هذه الأمسية الطربية الدافئة أداء وتفاعلا بين المطربة الشابة وجمهورها الدمشقي.
ويبدو أن هدف فرقة قصيد وميرنا ملوحي قد التقى عند ضرورة تقديم هذا الحفل في هذا التوقيت بالذات، حيث أجواء أعياد الميلاد والطقس البارد والحنين إلى التراث والماضي. ففرقة قصيد تتبنى خطا مختلفا في تقديم الموسيقى، وتميزها يبدأ من اسمها قصيد، وهو اسم يدلّ مباشرة على أن هناك علاقة وطيدة تربطها بالشعر، فالقصيد في الشعر هو ما جاوز الأبيات السبعة، وفرقة قصيد ومنذ تأسيسها في العام 2008 تقوم على التعامل مع التراث الموسيقي والغنائي العربي الأصيل بروح عصرية فتقدّمه بصيغة أوركسترالية هارمونية، وهي تضمّ نخبة من عازفي سوريا من خريجي المعهد العالي للموسيقى.
فرقة “قصيد” تتعامل مع التراث الموسيقي والغنائي العربي بروح عصرية، فتقدمه بصيغة أوركسترالية هارمونية
والفرقة وضعت لنفسها خطا منذ الانطلاق وهو تقديم التراث الموسيقي الغنائي والآلي السوري والعربي بحيث تكون موضوعة الحفاظ على الهوية الهدف الأول لها، ثم تقديم ذلك من خلال تطويرات مهنية تضع تلك الأعمال في شكل علمي عصري جديد يساهم في تقريبها من الناس وإظهارها بلبوس جديد. وقدّمت الفرقة عبر مسارها الفني الكثير من الأعمال الموسيقية العربية التي أوجدت فيها مساحات واضحة للآلات الموسيقية العربية الأصيلة إلى جانب بقية الآلات العالمية.
وفي جانب الغناء الفردي تنتهج ملوحي طريقا خاصا، وهو تقديم فن غنائي راق يبتعد عن فنون الملاهي والمطاعم، وهذا ما وطّد إمكانية تلاقي مشروعها الغنائي مع ما تقدّمه فرقة قصيد من بحث موسيقي يجمع بين الطرب العربي والعزف الأوركسترالي الغربي.
وكانت بدايات ملوحي من خلال كورال كنيسة الوادي في سوريا. وهي المنطقة التي تتفاعل فيها مكونات جمالية طبيعية وبيئية وفنية تجعل من أبنائها طاقات فنية غنية. فقدّمت منذ صباها تراتيل كنسية في العديد من المشاركات داخل سوريا.
وبعد تخرجها من الجامعة في دراسة الأدب الإنجليزي وعملها في أحد البنوك، عاد شغفها بالفن ليجعلها تدرس الفن الغنائي تحت إشراف باسل الصالح في المعهد العالي للموسيقى بدمشق، لتنتقل بذلك إلى منصة الاحتراف. فقدّمت عام 2014 أغنية مع إياد حنا وحقّقت رواجا كبيرا ممّا دفع مايسترو فرقة طرب دهب براق تناري الذي كان بصدد تأسيسها بالاتصال بها وطلب منها العمل في الفرقة، وكان ذلك، فباتت مغنية محترفة في فرقة تراثية محترفة.
دعم منقوص

رغم نجاحاتها الفنية الفردية، تعترف ملوحي بأن الاهتمام بفن الغناء في سوريا ليس مستقرا ولا تقوم على دعمه جهود منظمة. وهي ترى أنه ليس في سوريا عناية كافية بفن الغناء والإنتاج له، فشركات الإنتاج غائبة عن تبني طاقات ومواهب فنية قوية، وتقول “حبذا لو كانت للجهات العامة خطط في تطوير عملها من حيث الإنتاج وكذلك من حيث الفعالية الإعلامية التي تكفل تحقيق معدلات عرض وتواصل كبيرة، خاصة مع وجود برامج فنية عربية كثيرة وشهيرة تروّج لبعض الأصوات”.
وهي في ذلك تقول “لكن هذه البرامج تحوطها بعض الحساسيات والحسابات التي قد تكون غير فنية، لذلك فإن المشاركة فيها والاستفادة من نجاحاتها أمر مرهون بالمجازفة”.
وشاركت ملوحي في العديد من الحفلات، خاصة مع فرقة طرب دهب في أوبرا دمشق ومهرجانات معرض دمشق الدولي والقلعة والوادي وغيرها، كما شاركت في حفل بلبنان على مسرح المدينة وفي أوبريت “الدم حبر للحق” للمايسترو طاهر مامللي. وقدّمت أغنيات ضمن مسلسل “هارون الرشيد” للملحن رضوان نصري. كما غنت منذ فترة أغنية “ساعات ساعات” للمغنية الشهيرة صباح وحقّقت بها نجاحا كبيرا.
“بقى عايز تنساني” أغنية أدّتها ملوحي بصوتها الرخيم تفاعل معها الجمهور رقصا وتصفيقا، قبل أن تقدّم الأغنية الشهيرة التي لحنها الموسيقار فريد الأطرش وغناها كما غنتها بعده سعاد محمد
ويبدو مسار فرقة قصيد مختلفا مع نظيراتها من الفرق التي تعنى بتقديم الموسيقى العربية الأصيلة، وهو ما تسعى الفرقة لتحقيقه من خلال عملها. فكمال سكيكر مؤسّس وقائد الفرقة يرى أن تعدّد الأفكار في تقديم الرؤى الفنية من خلال فرق التراث الموسيقية أمر ضروري، لكي لا تتّسم الفرق بالتماثل، وبالتالي التكرار، فلكل فرقة خصوصيتها التي يجب أن تعمل عليها.
وفي فرقة قصيد كان التوجه نحو تقديم التراث الموسيقي العربي الأصيل والعمل على استلهامه من خلال تقديم تآليف عصرية حديثة تحاكيه. كذلك تعمل الفرقة على تقديم هذه الأعمال بلغة علمية حديثة تعتمد لغة التوزيع الهارموني التي تعني الانضباط والتوازن في العمل وتقديمه بعيدا عن الفوضى التي يمكن أن تكون موجودة في بعض الأغنيات العربية.
والفرقة تقدّم الغناء بكونه جزءا من الحالة الموسيقية وليس كلها، فهي تقدّمه بصيغة جماعية لا ينحصر بمغن واحد حفاظا على فكرة الفرقة الموسيقية وليس المغني الذي ترافقه فرقة موسيقية.
ويبدو سكيكر صاحب مشروع فني متكامل يعمل عليه لتحقيق رؤيته في تناول الموسيقى التراثية من خلال تآليفه الموسيقية التي يقدّمها أو قيامه بتوزيع أعمال تراثية موسيقية عربية من خلال فرقة قصيد. وهو خريج المعهد العالي للموسيقى بدمشق، وقدّم العديد من الأعمال الموسيقية في قوالب عربية أصيلة ولحن لشعراء من سوريا والوطن العربي، له مشاركات مع الفرقة الوطنية السيمفونية السورية، حيث يعزف فيها ويشغل مكانه حاليا كعازف العود في الفرقة الوطنية للموسيقى العربية وفرقة أساتذة معهد صلحي الوادي الموسيقية وقائد فرقة قصيد للموسيقى العربية.