الروائيون العرب لم ينخرطوا جديا في الثورة على بلزاك

كان ظهور الرواية الجديدة استجابة للمتغيرات التي حلّت في الواقع، بحلول الآلة محل الإنسان، والأهم فقدان العالم لقوى التوازن الذي حدث بعد حربين كونيتين، وقد نتج عن هذا تضاؤل ذات الإنسان، فشعر بأنه فقد وجوده وإنسانيته، فالواقع لم يعد واقعا بتعبير ناتالي ساروت نفسها. فجاءت الرواية الجديدة تعبيرا عن هذه المتغيّرات، وهو ما لم يفهمه الكثير من الروائيين العرب.
يشكل كتاب “الرواية الجديدة والواقع” ترجمة لأشغال الندوة العلمية التي انعقدت في بروكسيل ببلجيكا في مستهل ستينات القرن الماضي حول الرواية الجديدة والواقع وشارك فيها كاتبان ينتميان إلى الرواية الجديدة الفرنسية وهما آلان روب غرييه وناتالي ساروت، والناقد الأدبي الذي تزعم مناهج النقد المعاصر الذي عرف بـ”البنيوية التكوينية” لوسيان جولدمان، والناقدة جينفيان مويلو إحدى تلميذات جولدمان..
ترصد النصوص الأربعة المؤلفة لهذا الكتاب الرواية عامة، والرواية الفرنسية الجديدة خاصة، في ارتباطها بالواقع، مثيرة جملة من الأسئلة الإشكالية، من بينها: ما علاقة التصور الروائي بالواقع؟ ما طبيعة الواقع الروائي؟ وما هي دلالته؟ هل للتحولات الاجتماعية والاقتصادية أثر ما في البنيات الروائية؟ هل يتنافى مطلب البحث والتجريب مع الواقع والواقعية والالتزام؟ كيف تكون القراءة المثلى للروايات الجديدة؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي ستظل قائمة ما دام قائما ذلك التناقض الضمني الأزلي بين وعي ممتثل وثابت، وآخر مضاد ومتحول.

الكتاب يسعى للتحسيس ببعض القضايا النظرية والمنهجية الجوهرية التي ارتهن بها فن الرواية الجديدة إنتاجا وتلقيا
واقع لاواقعي
لأن هناك من سيتساءلون عن جدوى ترجمة أشغال ندوة مر على انعقادها نصف قرن، يؤكد الناقد والمترجم المغربي رشيد بنحدو أن ما أغراه بترجمتها ونشرها هو “التحسيس ببعض القضايا النظرية والمنهجية الجوهرية التي ارتهن بها فن الرواية في فرنسا: إنتاجا وتلقيا، في الخمسينات والستينات وذلك بموازاة تحول شامل وجذري عرفته في الفترة ذاتها العلوم الإنسانية عامة، ومن ناحية أخرى إمداد العديد من كتاب الرواية والنقد الروائي، في العالم العربي، ببعض عناصر الإجابة عن الكثير من التساؤلات التي لم يتمكنوا، بعد، من تجاوزها، أو تجاوزوها من غير إلمام بها”.
ويشير في مداخلته التي تفتتح الكتاب، الصادر عن سلسلة كتاب الدوحة، إلى أن “من الروائيين – وهذا أخطر ـ من أساؤوا تقدير الرهانات الجمالية والفكرية التي قامت عليها تجربة الرواية الجديدة، وفي مقدمتها رهان التجريب، حصريا. فقد أمكن لي ملاحظة أن بعض الروائيين العرب (خاصة منهم من لم يتمرسوا، قرائيا، بنصوص الروائيين الجدد، إنما سمعوا عنها فقط وهم كثر) قد انبهروا بفكرة التجريب السحرية هذه، فطفقوا يجترحون، مثلهم، تقنيات في السرد والوصف، وطرائق في التخييل زعزعت، فعلا، ثوابت المعيار الفني الذي كرسته مثلا روايات نجيب محفوظ”.
ويستدرك “لكن، عوض أن يفهموا أن رهان التجريب هو بحث مضن ومستمر، ومغامرة مفتوحة لا تحدها ضفاف، استفرد كل منهم بتقنية أو طريقة، أدمن تنفيذها في جميع نصوصه، على نحو، أصبحت معه عنوانا خاصا دالا عليه ومميزا له عن باقي الروائيين الآخرين، ما يعني، لا محالة، ولا غرابة، الاجترار والتكرار والجمود”.
ويتابع بنحدو “ولأن الأدلة على ما أقول كثيرة، وحيث إن موضوع هذا الكتاب هو العلاقة مع الواقع، فسأقتصر على حال بعض الروائيين في المشرق والمغرب، الذين يحلو لهم أن يزعموا، بمنتهى العجب والخيلاء، أنهم تأثروا بموجة الرواية الجديدة في فرنسا، والحال أنهم يظلون أوفياء للحساسية الجمالية التقليدية”.
ويضيف “كم من روائي عندنا يوحي، في الصفحات الأولى لروايته، بأنه، على منوال الروائيين الجدد، سيكتب من غير أن يعرف عن أي شيء سيكتب، بحيث ِ تبدو الكتابة، منذ البداية، مستنفدة ذاتها في سلسلة غير متجانسة من التداعيات الحرة والاستيهامات الهوجاء ذات الصلة بالزمن الداخلي! لكنه، وفي ما يشبه حركة تكفير عن ذنب أو غيّ ما، سرعان ما ينكفئ إلى حمأة الواقع المعيش لينصت إلى أصدائه الهادرة في وجدانه، تستحثه على أن يتخذ، بالكتابة وفي الكتابة، المواقف الضرورية من آفات التخلف والجهل والفساد والقمع والاستغلال الذي يتخبط فيها مجتمعه”.
ويقول “أستطيع أن أقدر، بالتخمين والتأويل، أن هذا الفهم لعلاقة الرواية بالواقع ينطوي على مغالطة في التصور وفي الأداء معا، لدى هذا الروائي، هو معطى موضوعي، موجود بنفسه، ومكثف بذاته، قبل فعل الكتابة، ومن ثم يكفيه أن يرهف السمع قليلا لنبضه، ليتجلى أمامه جاهزا في مختلف صوره، ومجهزا بمعنى واحد، ونهائي”.
ويرى بنحدو أن نصوص الرواية الفرنسية الجديدة، التي يقول بعض الروائيين العرب، زعما وافتراء، إنهم متأثرون بها، تجهر، تكوينيا باستقلاليتها عن عالم الواقع، وتقطع من ثم، مع نوع من التصور المرآوي، الآلي، والمتهافت، الذي ينبني على فكرة “تلوية” النص بالنسبة إلى الواقع؛ يعني أن تكون اللغة تالية وتابعة لهذا الواقع، لا سابقة له. ذلك أن الواقع بالنسبة إلى تجربة الرواية الجديدة، وفقا لرؤى أصحاب الدراسات الأربعة المترجمة في هذا الكتاب، لا يشرع في الوجود إلا في أثناء الكتابة، ولا يصبح ناجزا إلا بعد الانتهاء منها، وأن معناه، أيضا، لا يتشكل إلا ضمن السيرورة اللانهائية للقراءة، فالرهان، إذن، كما يقول “ليس هو كتابة رواية عن الواقع، بل هو كتابة هذا الواقع روائيا”، بكل ما يعنيه هذا من تسام وتباعد، وأسلبة، وتخييل”.
قالت ناتالي ساروت في نص مداخلتها “هناك واقع يراه كل الناس، ويدركونه بشكل فوري ومباشر، واقع معروف ومدروس ومحدد، واقع اجترّته أشكال تعبيرية، أصبحت هي نفسها معروفة ومسطحة لكثرة تكرارها. هذا الواقع ليس، أبدا، واقع الكاتب الروائي، فهو مجرد مظهر يوهم بالواقع. الواقع، بالنسبة إلى الروائي، هو المجهول واللامرئي، هو ما رآه بمفرده، وما يبدو له أنه أول من يستطيع رصده. الواقع لديه هو ما تعجز الأشكال التعبيرية المألوفة والمستهلكة عن التقاطه، مستلزما طرائق وأشكالا جديدة، ليكشف عن نفسه”. وتتساءل ما هو، إذن، هذا الواقع، الذي ينافي الواقع المباشر والمبتذل والمكشوف، الواقع المعروف والمدروس الذي يمكن لأي أحد أن يدركه، فورا؟ وتوضح “يتشكل الواقع، لدينا من عناصر متناثرة في فضاء العدم، نحزرها، ونحدسها بشكل غامض، عناصر ذات تشابك معقد وسديمي، لا تنبض بالحياة، في كتلة الافتراضات والاحتمالات اللامتناهية.. هي تائهة، ووراء حجب المرئي والمبتذل والاتفاقي هي كامنة. وبقدر ما يكون الواقع جديدا، يكون النص الأدبي الذي يكشف عن هذا الواقع، ذا شكل شاذ وغير مألوف، مثلما يكون ذا تأثير عميق يسمح بهتك ذلك الستار السميك، الذي يقي طرائق إدراكنا وإحساسنا من كل أنواع التشويش والانحراف”.
بعض الروائيين العرب لم يفهموا أن رهان التجريب هو بحث مضن ومستمر، ومغامرة مفتوحة لا تحدها ضفاف
هذا الستار الواقي، وفق قولها، يتشكل من تلك الرؤية الخادعة التي توهم بالواقع، ومن مجموع الكليشيهات الاتفاقية والصور الجاهزة التي تحول، في أي وقت، بين القارئ والواقع الجديد الذي يكشف النص، مثلما تحول بين الكاتب والواقع الذي يريد أن يكشف عنه. هذا العالم الخادع، عالم المظاهر، هو عالم كل واحد منا. إنه، كذلك، عالم صنف من الكتاب الذين يسترخون مطمئنين إلى السهولة وقانعين بالحياة.
إن الواقع المبتذل “واقع القارئ وواقع الكاتب” هو صورة للعالم، يقدمها لنا رصيد معارفنا وثقافتنا وكل الآثار التي تكون التجربة الأدبية والفلسفية والفنية لكل واحد منا، صورة معروفة وتافهة، للمجتمع وللطبيعة وللعلاقات الاجتماعية، كما تصوغها آراؤنا المسبقة والجاهزة عن علم النفس والأخلاق، والميتافيزيقا، والشعر، والجمال، أو على الأقل عمّا اعتدنا اعتباره كذلك، وعمّا اتفق، في فترة ما، على اعتباره كذلك، خاصة في مجال الأدب.
هذا الواقع العادي، المتشكل من هذه المجموعة من المفاهيم التي تصوغ رؤية كل واحد منا للعالم، يصمد، بعنف، أمام الواقع الجديد الذي يبقى خفيا ومجهولا، بل إننا نكرس كل قوانا لردع هذا الواقع الجديد، باعتباره جسما غريبا ومزعجا، وربما ضارا، يعكر واقعنا المألوف والمريح حيث نعيش جسما يذكر بالجرثومة التي يحاصرها عدد لا يحصى من الكريات البيضاء بمجرد أن تتسرب إلى جسد الإنسان.
أحيانا، يستعين الروائي بواقع عادي تكون مهمته الكشف عن واقع جديد، أو هو يستهدف واقعا جديدا من خلال رصد للواقع العادي. حينئذ يكون هذا الواقع العادي هو ما يلتقطه القراء وأغلب النقاد. إنه واقع يخفي، في رأيهم، واقعا جديدا. وحين تكشف الرواية عن واقع جديد، فإن هؤلاء القراء والنقاد ينزعون إلى اختزاله وإدماجه ضمن أنساق أصبحت معروفة، باحثين له عن نماذج وأنماط تماثله، إنهم، بذلك، يشلون هذا الواقع الجديد، ويمسخونه بواسطة ما تفرزه ذكرياتهم وتصوراتهم المبتسرة من عصارة مبتذلة، ثم يستهلكونه، دبقا، مخنوقا، لا نبض فيه.
عالم الفرد التافه

في مداخلته تساءل آلان روب غرييه “لماذا هذا الحضور الكثيف والمذهل لعالم الأشياء في رواياتي؟ وأجيب بأنني لست، في الحقيقة، مختلق عالم للأشياء، في الرواية. إنكم تعرفون أن الرواية البلزاكية هي، بالذات، ما يطفح بالأشياء، حيث تحتشد فيها مجموعة من الأوصاف في منتهي الدقة، تتعلق بعالم جد مادي: بيوت، أثاث، ملابس؛ أي ممتلكات الشخصيات. إن هذه الأوصاف تلعب دورا يبدو ثانويا، بل إننا كثيرا ما نرغب في تجاوزها، عند قراءتنا لروايات بلزاك مستعجلين بقية الحدث الروائي، وذلك لأنها تبدو لنا ذات وظيفة تزيينية أو حشوية في النص، بل كما لو كانت صنو الإنسان ذاته، وبديلة له”.
وأضاف “ثم إن هذه الأشياء تبدو جد مألوفة للقارئ؛ فهو يتعرف إليها كما لو كانت أشياءه، في حين أعتقد، شخصيا، أنها تخص إنسان القرن التاسع عشر. بخلاف ذلك، يبدو لقارئ روايتنا أن ما تطفح به هذه من أشياء تنتمي إلى عالم غريب ومقلق وغير عادي، كما لو كان هو نفسه لا يعيش في هذا العالم، وذلك رغم كون هذه الأشياء موصوفة من طرف إنسان متورط في أحداث إنسانية. وهنا أعتقد بأن القارئ يجب أن يتعرف في ما يقرأ إلى عالم ليس عالمه، لكنه يرغب في أن يكون عالمه”.
ورأى أنه ليس بإمكان الرواية أو اللوحة أو اللحن أو أيّ أثر فني أن يكون تطبيقا لفكرة معروفة سلفا. إذ الإبداع بحث يخلق نفسه، بحث يفرز أسئلته الخاصة بنفسه. ومن العادي، طبعا، أن تشكل الرواية مجالا للبحث، يمكّن الدارسين، علماء الاجتماع، مثلا، من اكتشاف دلالات ما، لكنها ستكون، حتما، رواية دون قيمة، إذا كان كاتبها يعرف، سلفا، هذه الدلالات، بل أعتقد أن كتابتها عبث.
واتفق لوسيان جولدمان مع آلان روب في أنه لا يؤمن بوجود واقع إنساني ثابت ونهائي، يجب على الأجيال المتلاحقة من الفنانين والكتاب أن تستكشفه بدقة متناهية، ذلك أن ماهية الواقع الإنساني، هي نفسها، ديناميكية ومتغيرة عبر التاريخ، ثم إن تغيرها ذاته هو بنسب متفاوتة، طبعا، من صنع كل الناس، بمن في ذلك الكتاب، باعتبار مساهمتهم جزءا من مجهود عام يروم تغيير الواقع.
وأضاف “هكذا، فإذا أصبح من العسير، اليوم، وصف تاريخ الشخصية الروائية ونفسيتها دون الوقوع في آفتي التفاهة والابتذال، فليس لأن بلزاك وستندال وفلوبير قد وصفوا ذلك في رواياتهم، فحسب، بل لأننا نعيش في مجتمع يختلف كل الاختلاف عن المجتمع الذي عاشوا فيه؛ مجتمع فقد فيه الفرد (وضمنيا، سيرته ونفسيته) كل أهمية جوهرية، وتحول إلى كائن تافه ومبتذل”.
وأضاف “كما أعلن ذلك آلان روب في عرضه، فإذا كانت الرواية الجديدة تصف، بطريقة مختلفة، علاقة رجل غيور بزوجته، وكذا عشيق هذه وعالم الأشياء المحيط بهما، فليس لأن الكاتب يريد تحقيق نوع من الأصالة الشكلية، بل لأن طبيعة البنية الاجتماعية التي تؤطر كل هذه العناصر قد تغيرت. فقد أصبحت المرأة، بالفعل، وكذا العشيق والزوج نفسه، أشياء، كما أن العواطف في مجموع هذه البنية، بل في سائر البنى الأساسية للمجتمع المعاصر، أصبحت تعبر الآن عن علاقة نوعية، تتمتع الأشياء ضمنها بسلطة دائمة ومستقلة، على حساب سلطة الإنسان المتلاشية، وذلك بعد أن كانت هذه العواطف تعبيرا عن علاقة الإنسان بعالم الأشياء المادية والطبيعية والصناعية.