عبداللطيف عبدالحميد مخرجا وممثلا في "الإفطار الأخير"

قد ينهي الموت وجود أشخاص في الحياة، لكنه لا يكون سببا في نهاية وجودهم في الذاكرة، فأطياف هؤلاء تعيش في وجدان من يبادلونهم الحب وشغف الحياة. فيلم “الإفطار الأخير” محاولة سينمائية سورية تتلمّس هذا المنحى العاطفي الواقع بين الحقيقة والخيال.
دمشق- يقدّم فيلم “الإفطار الأخير” وهو أحدث أفلام المخرج عبداللطيف عبدالحميد من إنتاج المؤسسة العامة للسينما بسوريا، أحداثا تتماهى على خارطة مجتمع إنساني يعيش قسوة مرحلة حرب تركت آثارها العميقة على المجتمع، فأوجدت نماذج مختلفة، متلاقية الأهواء والمصالح حينا ومتصارعة ومتضاربة تارة أخرى.
ففي حي دمشقي شبه شعبي، يعمل سامي (عبدالمنعم عمايري) خياطا للملابس الرجالية، وهو ماهر في عمله ويقدّم خدماته في الخياطة للعديد من رجالات الدولة في مناصب وظيفية عليا، وكأنه يقوم بتجميلهم جسديا رغم الفراغ الفكري الذي يكون عليه بعضهم، وهو لذلك يمتلك علاقات مميزة مع غالبيتهم يسخّرها في خدمة أبناء حيه لتقديم العون لهم في ما قد يعترضهم من مشكلات حياتية أو أمنية.
رندة (كندة حنا) زوجة سامي التي تمتلك حدسا خاصا في تفاصيل حياتهما، تباغته ذات صباح وهما يتناولان الإفطار بأن لديها شعورا بأنها ستموت في ذلك اليوم، وأن هذا الإفطار سيكون الأخير لهما معا. وتطلب من زوجها أن يتزوّج من صديقتها جمانة بعد وفاتها. يضعنا مسار الفيلم أمام ذروة درامية بالغة الغرابة في هذه العقدة والتي لا تلبث أن تصبح أكثر تشويقا، عندما تسقط قذيفة هاون على حديقة منزلهما ممّا يودي بحياة رندة فعلا، ويصبح تنبؤها السابق أمرا واقعا.
علاقات غريبة

عبدالطيف عبدالحميد: الحرب سهل أن تبدأها، صعب أن تنهيها ومستحيل أن تنساها
في لحظات عصف هائل من الألم الذي يعيشه سامي ويشاركه فيه صديقه الوحيد نبيل (كرم الشعراني) تسير بنا الحكاية إلى مسارات أكثر تعقيدا، فرندة ماتت لكنها لم تغب، فهي موجودة في البيت تشاهد التلفزيون وتستحمّ وترقص وتلقي الأوامر.
وسامي مُحاط بأفعالها وأقوالها حتى أنه يقوم أحيانا بالحديث معها، يُتعبه الأمر، فيترك البيت وينام في فندق حتى يتخلّص من سطوة خيالاتها، لكنها تلاحقه إليه. يسافر إلى الريف لينال قسطا من الهدوء والراحة ويتعرّف على رجل مسن، يقنعه بضرورة أن يتزوّج من جمانة لكي يستريح من ملاحقة أطياف رندة له. فيفعل ذلك أخيرا، ولتبدأ فصول جديدة من علاقة متضاربة بين المرأتين.
عالم افتراضي يقوم على مزج الحقيقي بالمتخيل، والمنطقي بغير المنطقي، يبنيه عبداللطيف عبدالحميد ليحكي من خلاله قصة عن حي وشريحة اجتماعية تأثرت حياتها بما كان في سوريا ماضيا وحاضرا.
وتبرز في الفيلم مجموعة من العلاقات الغريبة والعميقة وضمن أطر خاصة، منها مكانة المثقف الشاعر نبيل الصديق الوحيد لبطل الفيلم سامي الذي يشاركه أفراحه وأحزانه، والذي يقدّم له كل ما يستطيعه من جهد في تجميل تفاصيل حياته المليئة بالفوضى والألم.
المثقف يعيش على هامش الحياة في شقة صغيرة على سطح بيت دمشقي مليء بالكتب ودواوين الشعر، وسامي يساعده في التصدّي لأعباء الحياة المادية فيدعمه بالمال كلما طلبه ويشتري منه كتبا لا يأخذها، لكن نبيل يدعمه بالجمال الفكري والإبداع الإنساني.
وعندما أراد سامي الذهاب لزيارة قبر زوجته التي فقدها حديثا طلب من صديقه الشاعر أن يكتب له شيئا، فقال له “أسوأ أنواع الرحيل من رحل عنك ولم يرحل منك”، ليخطّها سامي على شاهدة قبر زوجته.
علاقة سامي بنبيل كانت روحية فيها منطق التكامل، فكلاهما يجمّلان الحياة، أحدهما لأجسام الناس حتى يقلّل من قبحهم والثاني لأرواح الناس حتى تخفّ آلامهم.

الفيلم يطرح مجموعة من العلاقات الإنسانية الشائكة في زمن الحرب السورية قوامها الحنين إلى أحبة رحلوا
وحتى علاقة سامي بجمانة تبدو غريبة وطريفة، فهي تحبه وقد أعلمت زوجته قبل موتها بأنها تحبه، لكنه لا يبادلها الحب، وعندما يطرح عليها فكرة الزواج تصارحه بأنه لا يحبها، فيعترف، لكنه يصرّ على طلبها للزواج وتقبل. فكلاهما استسلما لفكرة التعايش الذي يمكن أن يخلق حياة أفضل حتى لو لم يكن مبنيا على الحب.
حفل الفيلم بإيقاعات موسيقية وتشكيلات بصرية موظفة خلقت انسجاما بين ما طرح من أفكار ومفردات، ففي البنية الموسيقية وجدت حالة موسيقية ملفتة سواء ما تعلق منها بالمختارات الغنائية التي قدّمها أو بالموسيقى المؤلفة التي وضعها خالد رزق، والتي رصدت بأناة تفاصيل حساسة في أحداثه.
كما ظهر جهد الفنان التونسي طارق بن عبدالله بشكل جلي وهو يضع لمساته في إدارة تصوير الفيلم وتصميم إضاءة خاصة أوجدت توظيفا دقيقا لبعض المشاهد التي يتداخل فيها الحقيقي بالخيالي، فكان الدمج بينهما حافلا بأجواء غرائبية أوصلت مفهوم الفيلم بتداخل الفضاءات والأزمنة بشكل انسيابي.
وكان آخر فيلم نفّذته مصمّمة الأزياء لاريسا عبدالحميد رفيقة درب عبداللطيف عبدالحميد هو “الإفطار الأخير”، وشاركته بعدها وضع تصاميم ملابس فيلم “الطريق” الذي رحلت قبل تنفيذه بعد صراع مرير مع المرض.
ولاريسا فنانة روسية تركت بلدها وعاشت مع زوجها عبدالحميد في سوريا لتشكّل معه منذ بداية مشواره السينمائي جدلية فنية ناجحة، وشاركت في كل الأفلام التي قدّمها.
وعبدالحميد بدا متأثرا وهو يقدّم فيلمه في حفل إطلاقه، عندما قال إنه كان يتمنى أن تكون شريكة عمره لاريسا موجودة الآن معه، لكن القدر لم يسمح بذلك .
ورغم زمن الحرب الذي يرافق موضوعيا أحداث الفيلم، إلاّ أنه لم يقدّمها واقعا حاضرا، بل اكتفى عبدالحميد بإبرازها كخلفية للأحداث، فوفاة رندة وإن حدثت بسبب قذيفة هاون أثناء الحرب، لكن الموت يمكن أن يحدث دون حروب أيضا.
بعيدا عن الحرب

كتب عبدالحميد في تقديم فيلمه “الحروب لا تنتهي مع إعلانات وقف إطلاق النار.. فإن إبداع معادلها الفني يستمرّ لزمن طويل، الحرب سهل أن تبدأها، صعب أن تنهيها ومستحيل أن تنساها”.
وفي هذا الفيلم نعثر مرة أخرى على حكاية الحب في الحرب، وربما الجملة التالية تعطينا مفتاح الانتباه إلى قصته “أسوأ أنواع الرحيل مَنْ رحل عنك ولم يرحل منك”، فالذين نفقدهم في الواقع نحييهم في الذاكرة.. إنهم كأنما يصرّون بظهورهم المتكرّر في حياتنا على الإبداع في حياة افتراضية. ونحن من مقاعد المُشاهدين الهادئة المريحة، نتفرّج على السيرورة المضطربة للبشر في محنة الحرب.
ابتعاد الفيلم بشكل واضح عن حضور الحرب كحدث أساسي فيه ووجود قصة حب تنتهي بشكل مأساوي، وظهور نجمين فنيين شهيرين في الدراما السورية (عمايري وحنا) سيعزّز فرص تحقيق الفيلم رصيدا جماهيريا لدى المتلقين، الأمر الذي أشارت إليه آراء وانطباعات الجمهور في حفل إطلاق الفيلم، والذي كان في غالبه مشدودا إليه، ممّا يُؤكّد أنه خطوة جدية في خلق حالة من التفاعل الأكبر مع الجمهور.
◄ عالم افتراضي يقوم على مزج الحقيقي بالمتخيل، والمنطقي بغير المنطقي، يبنيه المخرج ليحكي من خلاله قصة عن حي وشريحة اجتماعية تأثرت حياتها بما كان في سوريا ماضيا وحاضرا
ومخرج الفيلم عبداللطيف عبدالحميد سبق له أن طهر كممثل تحت إدارة مخرجين سينمائيين سوريين على غرار أسامة محمد في “نجوم النهار” وجود سعيد في “صديقي الأخير” وأيمن زيدان في “أمينة” كما ظهر في أدوار قصيرة في بعض أفلامه. ويظهر هنا في دور أبويوسف الرجل المسن الذي عانى من فقدان زوجته كما هو حال سامي، ويقدّم له النصائح لكي يتجاوز محنته.
فقدّم شخصية طريفة تضجّ بالكوميديا والعبث والأصالة حقّقت رغم حضورها الزمني البسيط صدى طيبا لدى جمهور الفيلم.
وفيلم “الإفطار الأخير” شارك قبل فترة في أحدث دورات مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط، ونال فيه جائزة أفضل سيناريو (جائزة وحيد حامد) في مسابقة الفيلم العربي، وهو أحدث إنتاجات المؤسسة العامة للسينما في سوريا.
وقام بتأليفه وإخراجه عبداللطيف عبدالحميد، وشارك بالتمثيل فيه كلّ من عبدالمنعم عمايري وكندة حنا وكرم الشعراني وراما عيسى ويوسف المقبل وبيدروس برصوميان ومحمد خاوندي وماجد عيسى وعبدالسلام غيبور، إلى جانب كلّ من محسن غازي وناصر وردياني ومحمد شما كضيوف شرف.