هدوء المخاوف العسكرية المصرية في ليبيا لا يلغي هواجسها السياسية

السيسي في مؤتمر باريس أكثر ارتياحا لما تحقق من مكاسب في ليبيا.
الأحد 2021/11/14
هدوء مصري حذر

القاهرة تبدو وكأنها وضعت من على أكتفاها عبئا كبيرا في ليبيا بعد التفاهمات التي حصلت بين أكثر من طرف محلي وإقليمي وأفضت إلى تحديد موعد واضح للانتخابات، ما جعل الرئيس المصري يبدو أكثر ارتياحا في مؤتمر باريس قياسا بمؤتمرات سابقة. الانتخابات في الجارة الغربية تريح مصر من حيث تأمينها أمنها القومي وفرصة كي تتخلص من خصومها الأيديولوجيين.

هدأت المخاوف المصرية العسكرية في ليبيا كثيرا عما كانت عليه منتصف العام الماضي عندما لوحت وقتها بالتدخل العسكري، لكن تزايدت هواجسها السياسية حاليا بسبب ما يمكن أن يترتب من تداعيات على إجراء الانتخابات في الرابع والعشرين من ديسمبر المقبل، أو حدوث انتكاسة تؤدي إلى تعثرها أو ترحيلها إلى موعد مجهول.

بدا حضور الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مؤتمر باريس الخاص بالأزمة الليبية الجمعة، أكثر ارتياحا هذه المرة ولم يعد محمّلا بهموم عسكرية كبيرة كما كان في مؤتمرات دولية سابقة، وهدف من وراء وجوده في فرنسا دعم رؤية بلاده بشأن التوافق حول إجراء الانتخابات والدفع نحو إيجاد تفاهمات لإزالة العراقيل التي تعتريها، وتسريع وتيرة خروج القوات الأجنبية والمرتزقة، أو على الأقل ضمان تحييدها.

يعود تراجع المخاوف العسكرية إلى صمود وقف إطلاق النار الذي جرى التوصل إليه في أكتوبر من العام الماضي، وحدوث تقارب سياسي بين مصر وتركيا أزال الكثير من المماحكات العسكرية مع القاهرة عبر أذرع الثانية المسلحة في الأراضي الليبية، وضمان الاستقرار في شرق ليبيا كمنطقة حيوية للأمن القومي المصري.

وسد الكثير من المنافذ الأمنية على حدود مصر الغربية مع ليبيا الخطورة التي كانت تمثلها الجماعات الإرهابية من خلال تسللها إلى داخل الحدود المصرية وتنفيذ عمليات إرهابية، فضلا عن اكتمال تواجد القوات المسلحة بكثافة في قواعد عسكرية جديدة، ومراقبتها بدقة لما يجري في ليبيا برا وبحرا وجوا، وهو ما خفض مستوى المخاطر القادمة منها، وقلل من تصاعد المفاجآت العسكرية القاتمة.

منع العودة إلى المربع الأول

تطورات تحجيم الأعمال المسلحة أدت إلى تمكين مصر من إدخال تعديلات في خططها السياسية، وفتح أبواب الحوار مع القوى الليبية
تطورات تحجيم الأعمال المسلحة أدت إلى تمكين مصر من إدخال تعديلات في خططها السياسية، وفتح أبواب الحوار مع القوى الليبية

ساعدت وسائل الضبط المتنوعة في الحد من خطر التهديد المباشر، ولم تلغ الاستنفار على الحدود المصرية والتشدد في جاهزيتها، لأن اتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا لا يزال يحتاج إلى المزيد من الدعم السياسي لمنع انهياره ومواجهة التجاذبات المتقطعة، وهي الزاوية التي تعمل عليها القاهرة لمنع العودة إلى المربع العسكري الأول وما يصاحبه من فرض خيارات لم تعد ذات أولوية في التحركات المصرية.

تعتقد دوائر دبلوماسية في مصر أن هذه مرحلة وضع التصورات السياسية وتحويلها إلى تصرفات على الأرض، وهو ما انتبهت إليه القاهرة منذ حوالي عام عندما دعمت وقف إطلاق النار بين القوى المتصارعة، وشجعت اللجنة العسكرية المشتركة 5 + 5 على مواصلة عملها واستضافة اجتماعات مهمة لها، لأجل استكمال بناء القواعد التي تقود إلى تثبيت الهدوء العسكري ويتسنى الوصول إلى الهدف الكبير، وهو خروج القوات الأجنبية والمرتزقة وتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية.

أدت مسيرة التطورات في مجال تحجيم الأعمال المسلحة إلى تمكين مصر من إدخال تعديلات كبيرة في خططها السياسية، وفتح المزيد من أبواب الحوار مع غالبية القوى الليبية، وقلصت من إشكالية الانحياز للشرق على حساب الغرب، واستثمرت اختيار سلطة تنفيذية جديدة بمجلسيها الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية في توسيع أطر الانفتاح معهما، ومع قوى سياسية مختلفة في الغرب الليبي.

تعتقد القاهرة أن الدفع نحو إجراء الانتخابات مسألة ضرورية للتخلص من تأثير قوى الإسلام السياسي وهيمنتها على صناعة القرار في ليبيا، فأي انتخابات في الأجواء الراهنة لن تصب في صالحهم، وإذا كانت مصر لديها تفضيلات لمن يصل إلى مقعد الرئيس فلن يضيرها أيضا وصول أي شخصية لا تعمل لحساب تركيا أو الإخوان، طالما أنها لن تعمل ضد استهداف المصالح المصرية في ليبيا والمنطقة.

وتمكنت من فتح قنوات تواصل مع أطراف متباينة تساعدها على التعامل مع أي شخصية أو تيار سياسي يحرص على أمن واستقرار ليبيا، وعدم التدخل في شؤون جيرانها والنأي عن التبعية السلبية لأي قوى إقليمية لها أطماع في الدولة الليبية.

بين الحسابات والرهانات

التوافق حول إجراء الانتخابات في ليبيا أصبح حقيقة ملموسة
التوافق حول إجراء الانتخابات في ليبيا أصبح حقيقة ملموسة

تأتي الهواجس المصرية السياسية من إجراء الانتخابات وظهور طبقة تعيد تكرار أخطاء المرحلة السابقة عليها وكل عوراتها التي فاقمت التدهور، أو عدم إجرائها واستمرار الاستقطاب الحاد، وفي الحالتين على القاهرة أن تعيد حساباتها ورهاناتها حول إمكانية أن تهدأ الأوضاع في ليبيا قريبا وتبدأ التفكير في سيناريوهات بديلة.

من الصعوبة أن تتحمل مصر ظهور نموذج مشاغب قريب منها يكرر مآسي دول عربية لم تفلح في النجاة من دوامات العنف وحلقاتها المتشعبة، أو يعيد للأذهان تجارب من نوعية اللبننة وتوزيع المحاصصات السياسية البغيضة وما تقود إليه من نتائج وخيمة، والصوملة التي أصبحت عنوانا لاقتتال أقاليم الدولة وانقساماتها الإدراية.

من يراقب التصورات المصرية للتعاطي مع الأزمة الليبية يجد انتقالا من مرحلة الاستغراق في التفاصيل العسكرية إلى التركيز على الرؤية السياسية المتعلقة بالاستعداد لطبيعة المرحلة المقبلة عند إجراء الانتخابات أو الإخفاق فيها، وهو تعديل لافت في المنهج الذي استنزف جانبا من قدرات القاهرة في متابعة التطورات الصغيرة، ومكن دولة مثل تركيا من السعي لهندسة المشهد الليبي بما يفيدها مستقبلا.

بدأت اللعبة بين القاهرة وأنقرة تنتقل من مرحلة عض الأصابع عسكريا إلى عضها سياسيا، فلم تعد هذه المرحلة تتحمل ما كان يجري خلال العامين الماضيين حول تعمد تركيا مضايقة مصر بتوظيف الميليشيات المسلحة والمرتزقة ضمن أطر لخلافات إقليمية معقدة بينهما، لأن هناك قوى دولية كبيرة سئمت من اللعبة التركية، وبدأت تنقلب عليها لأنها منحت روسيا موطئ قدم في ليبيا قد يصعب بتره لاحقا.

تراجع المخاوف العسكرية يعود إلى صمود وقف إطلاق النار الذي جرى التوصل إليه، وحدوث تقارب سياسي بين مصر وتركيا أزال الكثير من المماحكات العسكرية مع القاهرة

تراقب القاهرة هذه التطورات عن كثب، كما تضعها أنقرة في الحسبان، لذلك تحول الخلاف حول ليبيا بينهما من الشق العسكري إلى السياسي، ومن يستطيع توسيع قواعده على المحور الثاني سوف يحصد مكاسب عديدة الفترة المقبلة.

حصدت تركيا مكاسب في الفترة الماضية التي غلب فيها ضجيج السلاح، ويمكن أن تخسرها الفترة المقبلة التي من المرجح أن يتغلب فيها ضجيج السياسة، وحصدت القاهرة بضعة نقاط عندما انفتحت مبكرا على أطياف متباينة في ليبيا، ولا تزال تركيا تحصر نفسها في مكونات تيار الإسلامي السياسي، والتي بدأت تتراجع حظوظه.

ترتاح القاهرة كثيرا عندما تنصب خلافاتها مع تركيا أو غيرها في البعد السياسي، حيث تساعدها مرونتها المعهودة وعدم تبنيها مواقف حدية صارمة في مواقف كثيرة في تسهيل عملية العودة والتصالح مع خصومها، خاصة أنها لم ترتكب حماقات تحول دون العودة، بينما أخطاء أنقرة تقلل من فرص الثقة فيها.

تبذل مصر حاليا جهودا سياسية على أصعدة ليبية وإقليمية ودولية لإنهاء مرحلة الصراعات المسلحة سريعا وطي صفحتها، بعد خروج القوات الأجنبية والمرتزقة كي يتم التفرغ لترتيب الأوضاع سياسيا، ويلعب الرئيسي السيسي بنفسه دورا في هذا المضمار لأن التوترات العسكرية في ليبيا تجعل أراضيها وجهة دائمة للتنظيمات المتطرفة في محيط بات جاذبا لها، بالتالي سوف تظل الهواجس السياسية لدى القاهرة مستمرة ما لم يتم التوصل إلى صيغة ترسم بدقة مستقبل الحكم في ليبيا.

4