لوصيف حماني دبلوماسي جزائري أرسى دعائم الفن النبيل في بلاده

حماني يعتبره مؤرخو عالم الملاكمة من الرياضيين النموذجيين الذين وفقوا بين مشوارهم الاحترافي وبين مسارهم المهني.
السبت 2021/11/13
الملاكم الذي شحنته زغاريد والدته في حلبات النزال

فقد القفاز الجزائري برحيل الملاكم لوصيف حماني واحدا من أبرز الرموز التي صنعت أمجاد الملاكمة في البلاد ورفعت الراية الوطنية في المحافل القارية والدولية، فشق بذلك طريق الأجيال والتتويجات التي وشحت خزائن الفن النبيل الجزائري، قبل أن تنهار كما انهارت بقية القطاعات، تحت ضغط التحلل الذي يتغلغل في مفاصل ومؤسسات الدولة، ولم تسلم منها الرياضة والملاكمة تحديدا.

خلّف رحيل حماني تعاطفا شعبيا ورسميا كبيرا مع عائلته ومع العائلة الرياضية في البلاد، وإشادة بخصال وإنجازات الرجل في مساره الرياضي الحافل بالإنجازات والتتويجات في مختلف المحافل القارية والدولية التي أسعدت الجزائريين، خاصة الأجيال التي كانت تتابع منازلات النجم على وقع زغاريد والدته التي كانت ترافقه أينما حل أو ارتحل، فتشحنه وتشد من أزره في مقارعة الخصوم.

وكان على رأس المتأثرين، الرجل الأول في الدولة الرئيس عبدالمجيد تبون، الذي غرد في حسابه الخاص على تويتر، قائلا ”برحيل الملاكم المقتدر الأسبق لوصيف حماني، تفقد الملاكمة الجزائرية أحد أعمدتها التي شُيّدت عليها أمجاد هذه الرياضة المحبوبة. أعزّي عائلة الفقيد وكل مُحبّيه، وأدعو الله أن يشمله برحمته الواسعة، إنّا لله وإنّا إليه راجعون“.

تركة حماني

أبطال الملاكمة في الجزائر اليوم يعانون البطالة أو يبيعون الخضار وآخرون عبروا البحر هرباً من الجحيم
أبطال الملاكمة في الجزائر اليوم يعانون البطالة أو يبيعون الخضار وآخرون عبروا البحر هرباً من الجحيم

رحيل حماني في باريس، مثلما أحزن محبي الرياضة والملاكمة الجزائرية، أحيا هاجس المصير المحزن للكثير من نجوم وأبطال لم تشفع لهم إنجازاتهم في أن يتحولوا الى ضحايا للإقصاء والتهميش. فمنهم من يعاني البطالة، ومنهم من يبيع الخضار، ومنهم من شق عباب البحر على قارب خشبي هربا من جحيم وطن بات

يضيق بأبنائه حتى ولو كانوا أبطالا متوجين.

رحل هذا البطل بحر الأسبوع الجاري عن عمر ناهز 71 سنة بالعاصمة الفرنسية، بعد صراع طويل مع المرض، وتشاء الصدف ألا يتجاوز مسافة هذا العام من العمر، بعد الإشاعات التي راجت العام الماضي حول وفاته، حيث انتشر حينها على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى بعض الصحف والمواقع المحلية نبأ رحيله، قبل أن تتدخل العائلة وتطمئن أنصاره ومحبيه في منطقة القبائل والجزائر عموما، وتبلغهم رسائل المحبة والعرفان من حماني على فراش مرضه.

الجزائر تعتبر الأقرب إلى المدرسة العالمية على غرار كوبا ودول آسيا الشرقية في مجال الملاكمة، لكن حضورها تراجع مؤخرا بشكل لافت بسبب الفساد

ويعد حماني المولود العام 1950 ببلدية آيت يحيى بمحافظة تيزي وزو شرق العاصمة الجزائر، من بين الرياضيين الأوائل الذين فتحوا الطريق أمام هذه الرياضة، حيث مثل الجزائر في الألعاب الأولمبية العام 1972 قبل أن يتوج بالميدالية الذهبية للألعاب الأفريقية التي نظمت العام 1973 بالعاصمة النيجيرية لاغوس، وانضم في 1975 إلى عالم الاحتراف.

وفي بداياته الاحترافية، فاز حماني وهو لا يتجاوز سن الـ26 عاما بلقب بطل أفريقيا في الوزن الممتاز أقل من 67 كلغ، أمام الإيفواري سي روبينسون، واستطاع المحافظة على لقبه أمام سمون بيرك ريفوي، ثم هُزم بالضربة القاضية أمام الأميركي مرفين هاغلر في إطار منافسة بطولة العالم.

وأنهى أسطورة القفاز الجزائري مشواره الرياضي الاحترافي الحافل بالإنجازات بعد 27 منازلة منها 24 فوزا وثلاث هزائم، إلى جانب فوزه بسبع بطولات للجزائر، وبذهبية الألعاب الأفريقية والمتوسطية وبطل أفريقيا مرتين. كما تابع حياته كممثل رسمي للجزائر في باريس وتونس وتشاد.

حماني يعتبره مؤرخو هذا الحقل من الرياضيين النموذجيين في الرياضات الفردية الذين وفقوا بين مشوارهم الاحترافي وبين مسارهم المهني، فالرجل الذي قضى شبابه بين حلبات الملاكمة، أنهى مسيرته الحياتية موظفا دبلوماسيا في عدد من العواصم العربية والأوروبية. رحل حماني وفي حلق محبي الملاكمة والرياضات الفردية عموما غصة مما لحق بالعديد من أبطالها من ضيم ونهايات مأساوية.

بطل رسم مستقبل الأجيال

حماني يعد واحدا من أبرز الرموز التي صنعت أمجاد الملاكمة في الجزائر، قبل أن تنهار كما انهارت بقية القطاعات
حماني يعد واحدا من أبرز الرموز التي صنعت أمجاد الملاكمة في الجزائر، قبل أن تنهار كما انهارت بقية القطاعات

قبل حماني انتهت حياة الملاكم والبطل الأولمبي حسين سلطاني بين أحضان المحظورات والوفاة المشبوهة في فرنسا أيضا، ورغم تتويجه بالميدالية الذهبية الأولمبية في الدورة التي أقيمت في أتلانتا الأميركية العام 1996 في وزن الريشة، بعدما تغلّب على منافسه البلغاري تونتشو تونتشيف في المباراة النهائية التي أقيمت بينهما، إلا أنه لم يحظ بالرعاية والاهتمام اللازمين من طرف الجهات الرياضية الوصية. وانتهى حلمه وحلم عشاق هذا الفن في الجزائر عام 2002 عندما فُقد الاتصال به واختفى عن الأنظار، لتجد السلطات الفرنسية جثته في مدينة مرسيليا، وليعم الحزن الكبير أوساط الجماهير الجزائرية، بعدما فقدت أحد أبطالها.

وإذا كان حماني من الرياضيين المحظوظين الذين وفقوا في مشوارهم، فإن الطريق لم يكن مفروشا بالسجاد الأحمر لخلفائه في رياضة الملاكمة الجزائرية، وهو ما انعكس على النتائج المحققة حيث خيم التدهور تدريجيا على حصائل الجزائر في المنافسات القارية والعالمية.

وكغيرها من الرياضات المشاركة في الألعاب الأولمبية الأخيرة، عادت الملاكمة الجزائرية بخفي حنين، ولم يعد وهج حماني وسلطاني وعلالو وغيرهم يلهم الأجيال الجديدة في حفظ ماء الوجه، خاصة وأن القفاز الجزائري دأب على عدم تخييب الآمال في الاستحقاقات السابقة، قبل أن يستسلم هو الآخر للانحدار الشامل لكافة السويات في البلاد.

مدرسة حماني تفقد بريقها

حماني يعتبره مؤرخو عالم الملاكمة من الرياضيين النموذجيين

فيما كان حماني يصول ويجول في الحلبات المحترفة في منتصف ثمانينات القرن الماضي، كان أسلافه يدافعون عن إنجازاته ومشعله في مختلف الاستحقاقات. وقد كان تتويج الملاكم الراحل موسى مصطفى في أولمبياد لوس أنجلس العام 1984 أول ميدالية للجزائر في المحفل العالمي، حيث تقاسم مصطفى مع نظيره الأميركي إيفاندير هوليفيلد المركز

الثالث وحمل البرونزية في الوزن الثقيل، وحقق بذلك أول إنجاز للجزائر في الأولمبياد على مرّ التاريخ، قبل توالي الميداليات لاحقا.

وعلى خطاه سار الملاكم الجزائري محمد زاوي الذي تمكّن من تحقيق برونزية في الوزن المتوسط في نفس الأولمبياد، حيث تشارك المركز الثالث مع الملاكم البورتوريكي أريستيديس غونزاليس، وبات أيضا أول جزائري يحقق ميدالية لبلاده في الأولمبياد، باعتبار أنه خاض اللقاء في اليوم نفسه الذي توج فيه مصطفى موسى كذلك.

وجاء بعدهما الملاكم الجزائري محمد بحاري، الذي حقق بدوره ميدالية للجزائر والعرب في بطولة الألعاب الأولمبية بأتلانتا عام 1996 في وزن المتوسط، واختار الاحتراف في مطلع الألفية لكنه لم يعمر طويلا، حيث اعتزل بعد مدة قصيرة.

ويعد الملاكم الجزائري محمد علالو، المنتمي إلى نادي مولودية الجزائر المملوك لشركة سوناطراك النفطية الحكومية، واحدا من أسلاف حماني، وإن لم يوفق في دورة الألعاب الأولمبية عام 1996 في الوصول إلى منصات التتويج، فقد انتظر أربعة أعوام كاملة حتى يعود مرة أخرى إلى المنافسة التي أقيمت في مدينة سيدني الأسترالية 2000، واستطاع الحصول على الميدالية البرونزية في وزن خفيف الوسط.

أبطال الرياضة في الجزائر اليوم منهم من يعاني البطالة، ومنهم من يبيع الخضار، ومنهم من شق عباب البحر على قارب خشبي هربا من جحيم وطن بات يضيق بأبنائه

ولم تستطع الجزائر تثمين ذلك والاستفادة من خبرات الأجيال التي سطر طريقها الأسطورة حماني، فأفضل هؤلاء الأبطال انتهى به المطاف معتزلا بعيدا عن الأضواء، بدل استغلال خبرته ورصيده في تكوين الأجيال الشابة، الأمر الذي خلق فترات فراغ طويلة تهاوت فيها طموحات حماني وأسلافه في الحضيض.

وبعدما كانت الجزائر أقرب إلى المدرسة العالمية على غرار كوبا ودول آسيا الشرقية في مجال الملاكمة، تراجع حضورها بشكل لافت، ولو أنه لا يختلف عن وضع الرياضات الفردية الأخرى، بسبب الاختلال الواضح في إسناد المسؤوليات ورصد الإمكانيات اللازمة والاهتمام بالتكوين والكفاءات البشرية المتوفرة في البلاد، ولم تسلم حتى الرياضة من ممارسات الفساد الذي أزكمت رائحته الأنوف في العديد من الاستحقاقات التي تحولت إلى رحلات للسياحة والتسوق والاستفادة من نفقات المهمة بالعملة الصعبة.

12