الشعر اللاتيني المعاصر ينتصر لحضاراته ويثور على لغته الأوروبية وثقافة الغزاة

عشرون شاعرا من أميركا اللاتينية يقودون شعوبهم إلى "الرؤية في ليلة معتمة".
السبت 2021/11/13
دي بورجوس وميسترال ونيرودا وباث ولويناث وكاردينال أصوات أميركا اللاتينية التي أسمعت أصقاع العالم

نجح شعراء أميركا اللاتينية في اختراق فضاءات شعرية تتجاوز جغرافيا المركز الشعري الأوروبي، وذلك رغم أن أغلبهم يكتبون بلغات أوروبية كالإسبانية والبرتغالية، ولكنهم تمكنوا من الانعتاق من الحضارات الغازية بثقافاتها ولغاتها، ليخطوا لهم ثقافة خاصة وطابعا شعريا فريدا متعددا ومجددا بلغ تأثيره مختلف أصقاع العالم وحتى أوروبا نفسها، وهو ما سنراه في مختارات شعرية جديدة لشعراء لاتينيين. 

تضيء المختارات الشعرية التي ترجمها وقدم لها الشاعر والمترجم طلعت شاهين على عدد من شعراء أميركا اللاتينية المعاصرين كنزا جماليا وفنيا وثقافيا، يكشف تألق الرؤى والأفكار وتعددها وثراءها، وانفتاح حيوات الشعراء على فضاءات الحرية، حرية الروح والجسد، حرية الوجود داخل العالم.

 ورغم خصوصية نصوص كل شاعر وشاعرة وتفرد تشكيلاتها اللغوية وعمق دلالاتها، إلا أننا نستشعر ذلك الثراء الذي يحيط بعوالم هؤلاء الشعراء، وفرادة التخييل وارتباطه الإنساني بمحيطه وما يعتمل داخله من رقة وصدق في المشاعر والأحاسيس. وهو ما يؤكد أن الشعر في أميركا اللاتينية يواصل تأكيد خصوبته المفعمة بالحياة وتطوره وقدرته على أن يكون كاشفا لارتباطاته بتجليات الذات وما يعتركها من مشكلات وهموم وطموحات وأحلام داخلية وخارجية.

أدب مختلف عن لغته

أدب مختلف

المختارات التي عنونها شاهين بـ”الرؤية في ليلة معتمة.. مختارات من الشعر المعاصر في أميركا اللاتينية” ضمت نصوصا لما يقرب من 20 شاعرا وشاعرة من بينهم الحاصلة على جائزة نوبل للآداب عام 1947 غابرييلا ميسترال من تشيلي ومواطنها الحاصل على نوبل عام 1971 بابلو نيرودا، وخوانا دي إيباربورو من الأوروغواي، ودولثي ماريا لويناث من كوبا، وكذلك الحاصل على نوبل 1990 المكسيكي أوكتافيو باث ومواطنه روساريو كاستيانوس، وخوليا دي بورغوس من بورتو ريكو، وخوان ليسكانو من فنزويلا، ويولاندا بيدريغال من بوليفيا، وخافيير سولوغورن من البيرو، وإرنستو كاردينال من نيكاراغوا، وكلاريبيل أليغريا من السلفادور، وهيربرتو باديّا من كوبا، والبنمي بيرتاليثيا بيرالتا، وجيوكونده بيلي من نيكاراغوا ومواطنه روساريو موريو، وغيرهم.

قدم شاهين للمختارات بقراءة في الشعر المعاصر في أميركا اللاتينية، لافتا في البداية إلى أن الأدب المكتوب باللغة الإسبانية القشتالية (Castellano) في أميركا اللاتينية مختلف تماما عن الأدب المكتوب في إسبانيا رغم وحدة اللغة المكتوب بها، وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى اختلاف طريقة تناول الواقع وروح الكتابة التي يشعر بها الكاتب الأميركي اللاتيني الذي يعيش حضارة مختلفة، نتجت عن تمازج الحضارات القديمة مثل المايا والأثتيكا والكيتشوا، وغيرها من الحضارات التي كانت قائمة قبل غزو كولومبوس لتلك الأراضي عام 1492 وما تبعه من غزو الحضارة الأوروبية لتلك البلدان التي انتقلت إلى العالم الجديد مع الفتح الإسباني لها قبل خمسة قرون.

 وعبر الكاتب الإسباني ميجيل دي أونامونو عن هذا الاختلاف في رسائل تبادلها مع الكاتب والشاعر النيكاراغوي روبين داريو، صاحب الفضل الأول في تحرر أدب أميركا اللاتينية من التأثير الكاسح للتيارات الأوروبية، وأول من وضع أسس الأدب الحديث أو ما يسميه النقاد باسم “المودرنيزمو” الذي كان أكثر تأثيرا على الكتاب الإسبان من تأثير التيارات الأوروبية الأخرى التي كانت سائدة في ذلك الوقت.

وتابع شاهين أن أونامونو اعترف بأن الكتابة في أميركا اللاتينية تبدو كما لو كانت مجرد لعب بالألفاظ، وهو ما يؤكده واقع الكتابة التي يجب أن نقبلها على هذا النحو دون اعتراض، مع وجود خطورة في ألا نكون على قدر الفهم المطلوب، وذلك لأن تلك الكتابة تأتينا من العالم الجديد في وقت كانت تعيش فيه إسبانيا وجيل 1898 حالة من التشوش نظرا إلى التوجه الفردي والشعوبي الذي يحكم تاريخها وثقافتها، وهو ما يتطلب منا العودة إلى الجذور الروحية للتراث التي تكاد تفلت من بين أصابعنا بسبب تراكم الانحطاط الذي حل بنا طوال عصور عديدة.

وقد كتب أونامونو قائلا “أنا أرى في حضرتك كاتبا يريد أن يقول باللغة الإسبانية ما لا يستطيع أن يقوله المتحدثون بها ولا فكروا في قوله أبدا، وما كان يمكن أن يعتقد أحد في ذلك قبل اليوم”.

ويذكر خورخي رودريغيز بادرون أن اللهجة التي يتحدث بها الكاتب الإسباني إلى زميله النيكاراغوي روبين داريو فيها من إحساس الأبوة أكثر من الإحساس بالدهشة التي تدل دلالة طبيعية على عدم الفهم لما توصلت إليه الكتابة الأدبية في أميركا اللاتينية.

وأضاف “وصل الغزاة الإسبان إلى العالم الجديد حاملين معهم ثقافتهم المتطورة عبر عناصر عصر النهضة التي كانت تحتويها الثقافة الأوروبية في ذلك الوقت، ولكن الإسبان لم يتوصلوا إلى لغة مشتركة للحوار الذي لا مفر منه مع أولئك الذين يقيمون في العالم الجديد، ولا حتى مجرد فهم واقع تلك الأرض الجديدة، وبدا واضحا أن إسبانيا كانت تهدف إلى زرع ثقافتها في ذلك العالم بكل الوسائل بغض النظر عن الثقافات القائمة هناك، وبعضها كان قد وصل إلى درجة عالية من التقدم. لذلك لم يكن هناك مفر من نشأة ثقافة جديدة لم يسبق لها مثيل، تنتج عن المزج بين ما هو قائم في أميركا اللاتينية قبل الغزو وما هو قادم مع الغزاة الإسبان”.

التجديد الشعري

الأدب المكتوب باللغة الإسبانية القشتالية في أميركا اللاتينية مختلف تماما عن الأدب المكتوب في إسبانيا رغم وحدة اللغة

أكد شاهين أن الثقافة التي تشكلت بعد الغزو الإسباني في أميركا اللاتينية شكلت هوية شعوب جديدة نتجت في معظمها عن التمازج بين الأصيل في تلك البلاد والعناصر الوافدة، وكما يرى الكثير من الباحثين فإن الحضارات التي بدت متباعدة جدا في أصولها وعناصرها تمكنت من التقارب في ظروف خاصة ونادرة، وخلقت شكلها الجديد والخاص، وإن كان الظاهر يبدو أن الشعوب الأصلية كانت لثقافتها الغلبة في النهاية، لأن الثقافة الغازية لم تتمكن من فرض شروطها رغم تمتعها بالقوة التي مكنتها من الفتح.

وأضاف أن الشعوب الأصلية في تلك البلاد، والتي يطلقون على أفرادها اسم “الهنود الحمر” تمييزا لهم عن الشعوب التي تسكن الهند الآسيوية، استقبلت الثقافة القادمة من أوروبا كبذرة لنبت جديد، ونمت تلك النبتة الجديدة كما لو كانت تطورا جديدا في حضارة تلك البلاد، التي سرعان ما تفردت بثقافة جديدة لها تطورها الخاص بعيدا عن الثقافة الأوروبية التي وقفت عند حد التلقيح.

وأوضح أن الشعر كان من أوائل الأنواع الأدبية التي أنتجتها تلك البلاد، ولكن البدايات كانت مجرد تقليد للشعر القادم مع المستعمر الإسباني تماما كما كان المسرح، بل بدأ بعضها على أيدي أحفاد الإسبان الغزاة، ومع مرور الوقت تطور الأمر وبدأت الأجيال الجديدة تعرف طريقها إلى إبداع أميركي لاتيني خالص، على الرغم من وحدة اللغة مع كتاب إسبانيا.

وكان عام 1888، الذي أصدر فيه الكاتب النيكاراغوي روبين داريو كتاب “أزرق”، بداية حقيقية لانفصال الشعر في أميركا اللاتينية عن تبعية الشعر في إسبانيا، بل إن تأثير كتابه “أزرق ” امتد إلى الأجيال الجديدة التي تكتب الشعر في إسبانيا. وربما كان للرقعة الجغرافية الواسعة التي تمتد عليها أميركا اللاتينية كقارة، وما يعني ذلك من تنوع في نطق اللغة وكتابتها إضافة إلى التأثيرات المحلية الخاصة بكل منطقة، أثرها في تعدد مشارب شعراء تلك القارة وموضوعاتهم وطريقتهم في تناول تلك الموضوعات، حتى أصبح التعامل مع كل إنتاج أميركا اللاتينية بشكل جمعي صعبا للغاية.

ولفت شاهين إلى أن العديد من شعراء تلك القارة بلغوا القمة في الإبداع، وحصل عدد منهم على جائزة نوبل مثل غابرييلا ميسترال التي حصلت عليها عام 1947 أو أوكتافيو باث الذي حصل عليها عام 1990، فاز عدد كبير منهم بجائزة “ثرفانتيس” التي تمنحها الأكاديمية الإسبانية لأفضل الكتاب الناطقين باللغة الإسبانية، والتي يعتبرونها بمثابة جائزة نوبل للأدب المكتوب بتلك اللغة.

ونظرا إلى صعوبة الحديث المفصل عن الكتابة الشعرية لدى كل دولة من دول أميركا اللاتينية على حدة، أو الحديث عن كل حركة من حركات التجديد الشعري فيها بشكل مفصل، قدم شاهين نماذج لتلك الكتابات مع مقدمة صغيرة للتعريف بكل شاعر حتى يمكن للقارئ أن يلم بشيء من المعرفة حول كل منهم، تاركا للقارئ أن يتعرف على جانب من الكتابة الشعرية في أميركا اللاتينية من خلال تلك القصائد التي اختارها من بين مئات القصائد التي كان يمكن أن تصلح للترجمة لتوسيع دائرة معرفتنا بهذا الشعر.

 

نماذج من المختارات

أوكتافيو باث – المكسيك

عيناك عيناك وطن البرق والدموع، صمت يتحدث عواصف بلا رياح، بحر بلا أمواج، طيور سجينة، ووحوش ذهبية ناعسة، يواقيت تلمع كالحقيقة، خريف في وضوح الغابة حيث يغني الضوء على كتف شجرة، والأوراق عصافير، شاطئ يلتقي بصياح النجوم، سلة ثمار نارية، كذبة تغذي مرايا هذا العالم، بوابات البعيد، نبض البحر الهادئ في منتصف النهار أطراف المطلق، صحراء.

******

كلاريبيل أليغريا – نيكاراغوا رسالة إلى الزمن سيدي: أكتب لك هذه الرسالة يوم عيد ميلادي تسلمت هديتك، لا أحبها. دائما ودائما نفسها، منذ طفولتي، أنتظر قلقة أرتدي ملابس العيد أخرج إلى الشارع بحثا عنها.

***

لا تكن يا سيدي عنيدا لا زلت أراك تلعب الشطرنج مع الجد، كانت زياراتك في البداية متقطعة ثم سرعان ما صارت يومية. صوت الجد بدأ يفقد بريقه. أنت تصر، ا تحترم إنسانية شمائله الرقيقة ولا حذاءه.

***

تتبعني كنت غريرة في ذلك الوقت، بوجهك الذي لا يتغير كنت تصادق أبي لتفوز بي.

***

مسكين يا جدي! على سرير موتك حاضر، تنتظر النهاية، تسبح بين الأرائك، الجدران تبدو أكثر نصاعة. هناك شخص آخر، كانت تشير إليه أغلق عيني الجد وتوقف لحظة ليتأمله.

***

تمنعه من العودة في كل مرة أراه يقشعر بدني

***

لا تتبعني أرجوك أتضرع إليك. أحب آخر منذ سنوات، لم تعد تشدني هداياك.

***

لماذا تنتظرني في المعارض دائما في فم الأحلام، تحت سماء العطلات؟ تحياتك لها طعم الغرف المغلقة.

***

رأيتك قبل أيام مع الأطفال تعرفت على معطفك، الصوف المعروف نفسه، منذ كنت تلميذة، وأنت صديقا لأبي، معطفك مثير للسخرية.

***

لا تعد أكرر لك. لا تتوقف في الحديقة بعد الآن. حتى لا تخيف الأطفال. فتسقط الأوراق: لقد رأيتها.

***

ماذا يفيد كل هذا؟ ستضيع بعض الوقت بتلك القهقهات العالية وتوصل اعتراضك للأطفال، لوجهي، للأوراق، كل شيء يضيع في حديقتك. سوف تكسب ولا محال، أعرف ذلك منذ بدأت أكتب لك رسالتي.

******

بيرتاليثيا بيرالتا – بنما

مسابقة لملكات الجمال مطلوب امرأة جميلة: نهودها تتطلع للسماء على الأقل، كل نهد ثماني عشرة بوصة، إلى أسفل قليلا جذع لين، يضمه كفان في عشرين بوصة أسفل قليلا تنفرج ستا وثلاثين كل هذا مقابل رحلة حول العالم، سيارة أحدث موديل، أزواج بالجملة، إعلانات تلفزيونية، وأفضل أدوات التجميل التي عرفتها البشرية.

******

روساريو موريو ـ نيكاراغوا

قصائد -1-

أعتقد أننا نسير في طريق الموت بتلك الأيدي التي فقدت حساسية الحب، لم نتعلم أبدا تغيير المياه للأسماك فأغرقتنا الأسرار دون أن ننتبه.

* * *

لا أبحث عن رجل يرتدي الأحذية العسكرية، تخيفني نظراته الحزينة، التي لم يعد يزهو فيها عباد الشمس، ولا سحري.

* * *

لا أبحث عنك، لم أعد أعرف عدد الأيام التي كنت اتبعك فيها خلف الخرائط والملابس العسكرية، بعيدة عن أبجدية الرقة.

* * *

كل شيء مازال في مكانه غير أنني لم أعد فتاة الأغلفة.

* * *

امرأة لم توجد حتى الآن على وشك اللحاق بقطار متوقف منذ زمن بعيد، زادها: المرايا والزهور.

-2-

قفزنا على خرائط كثيرة كانت تفصلنا، يداي لم تعد تلحق بك، فقدنا لغات القلب السرية، ولغة الليل، كل شيء سيظل في مكانه: الزوبعة، الحرب، بوش، البيريسترويكا، والصيف. الطبيعي هو هذه الغرفة ذات النوافذ المغلقة أنا داخلها عارية، ويتساقط الحب من الجدار.

-3-

نصنع الثورة، عندما نكتب القصيدة أو نغني أغنيات ديانا روس، عيون بيتي ديفز، تأوهات باربرا ستراند، نفعل كل هذا بملابس براقة وعلى العيون أصباغ الشهر.

 

13