"المقلب الآخر من الزمن" رسالة فنية من دانتي إلى بيروت

عندما يجتمع فن النحت بالفن المعماري وفن التجهيز في عمل واحد، فأغلب الظن أنه سيشير إلى أمرين. الأول أنه عمل معاصر وينتمي إلى الفن المفاهيمي، أما الأمر الآخر الذي يشير إليه، فهو أنه عمل مخصّص للعامة يكون في متناول الجميع خارج جدران أي صالة فنية مهما كانت كبيرة ومجهزة لاستضافته. و”المقلب الآخر من الزمن” لصاحبته الفنانة/ المهندسة المعمارية اللبنانية نايلا رومانوس إيليا يندرج ضمن هذا الفكر الجامع بين الفنون الثلاثة، النحت والمعمار والتجهيز.
بيروت - “المقلب الآخر من الزمن” هو اسم عمل فنيّ هندسي للفنانة اللبنانية نايلا رومانوس إيليا احتل حيزا كبيرا في ساحة واسعة من ساحات مدينة بيروت، ليصبح مزارا لكل من اهتم بالفن ولكل من تعاطف مع الأفكار المطروحة من خلاله.
والعمل الذي أنجز في ظل غياب تام للدعم الرسمي لكافة الأعمال الفنية التي شهدتها بيروت، خاصة في الفترة الأخيرة من الزمن، اشتركت العديد من الجهات لأجل إنجازه وتقديمه لعامة الشعب في إحدى الساحات البيروتية. وضاعف غياب الجهة الرسمية من إضفاء مصداقية كبيرة للعمل.
وعبّرت نايلا رومانوس عن حرصها بتذكير الناس “بأن الفن العام يشكّل جزءا من التاريخ المشترك للأمة، ما يساهم في بلورة ثقافتها المتطوّرة في ظل الحفاظ على الذاكرة الجماعية. لكن قبل كل شيء، الغرض منه أن يستمتع به الجميع ويشعروا بأنه لهم”.
الماضي في الحاضر

نايلا رومانوس إيليا: الفن العام يساهم في بلورة التاريخ المشترك للأمة ويدعم ثقافتها
أول ما يلفت النظر إلى هذا العمل، هو في البداية، “شجاعة” الفنانة/ المهندسة في تخيّله ومن ثم تحقيقها عملا فنيا من وحي “الكوميديا الإلهية” العمل الأدبي والعالمي العملاق.على الرغم من أن هذا العمل جاء ضمن الاحتفال بمرور سبعمئة سنة على رحيل الشاعر والكاتب دانتي أليغييري (1265 - 1321)، أبو اللغة الإيطالية، صاحب “الكوميديا الإلهية”، فإنه بدا وكأنه، أي العمل الفني، اتّخذ هذه المناسبة ذريعة كي يستحضر من واقع الحال العالمي بشكل عام واللبناني بشكل خاص كل الصور الظلامية التي يمكن تخيّلها إلى جانب إمكانية الخلاص أو استحالته بالنسبة إلى كل اللبنانيين، لاسيما كل من يعيش منهم داخل البلد.
أما الأمر اللافت الثاني فهو أنه كان دعوة للمُشاهد لأن يلج في العقل الهندسي/ العلمي/ الفني وآلية ترجمته للأفكار مهما بلغت من تجريديتها في عمل فني تألف من أشكال مُختزلة ومُتداخلة تسرد في استدارتها وتشابكها وانحدارها وارتفاعها سيرة السقوط في الجحيم، والانتقال إلى المطهر ومن ثم الخلاص.
وعلى الرغم من غياب أي شكل مربع (المشير تاريخيا إلى الحياة الأرضية) عن العمل الفني واقتصاره على حلقات معدنية مختلفة ومتداخلة (المشيرة إلى الروحانية والألوهية تاريخيا)، فإن مجسم “المقلب الآخر من الزمن” يحيلنا إلى لوحة “الرجل الفيتروفي” التي رسمها ليوناردو دافينشي وتمثل رجلين عاريين في وضع متراكب أحدهما داخل دائرة والآخر داخل مربع.
ففي حين جسّدت هذه اللوحة التقاء الفن بالعلم، والأرضي بالسماوي بحركة انسيابية كاملة ولا نهائية، فعمل المهندسة الفنانة رومانوس يمثل الصلة الوطيدة ما بين الجحيم والمطهر والخلاص عبر حلقات دائرية وشبه دائرية متداخلة، حبذا لو كانت متحركة فعلا، ولم تكتف بتجميد فعل تحوّل وانقلاب مواضع الجحيم والمطهر والخلاص بشكل عجائبي بدت فيه تلك العناصر الثلاثة أنها تعاقبت على أن تكون في نفس المكان، ولكن في وقت مختلف وفي ثلاث صيغ مختلفة.
تقشّف معبّر
جاء عمل المهندسة رومانوس الفنيّ متقشف العناصر، ولكنه معبّر بصريا عن غنى ووفرة الاحتمالات التي تنتظر كل إنسان، لاسيما ذلك الذي يخوض عباب الظلمات بحثا عن بقعة مضيئة أو منفذ ما يحقّق له الخلاص من متاهة الحلقات المتشقلبة.
احتل العمل مسافة خمسين مترا مربعا تحقّق في ثلاثة أمكنة مفصلية عبرت عن الجحيم والمطهر والفردوس، كما ذكرنا آنفا.
وذكر البيان الصحافي المتعلق بالعمل الفني وما جرى في فلكه من حفلات موسيقية أن له “رمزية عميقة وصلة وصل وثيقة بلبنان، حيث أن عقودا من الفساد والإهمال وعدم المحاسبة وضعت الوعي الفردي والاجتماعي تحت أقصى الاختبارات.. هذا الجحيم بالذات تم فرضه على الناس من دون أن يستحقوه. تحوّلت الكوميديا إلى مأساة، وفي حين تبدو الجنة بعيدة المنال، يهدف الفن إلى غرس بصيص أمل..”.
كما ذكر البيان ما قالته المُهندسة رومانوس عن عملها، فهو “يوفّر التجهيز المرئي من بعيد، جوانب متنوّعة، سواء تم الاقتراب منه بالسيارة أو مشيا أو تم استكشافه من الداخل. وتبدو علاقة المشاهد بالعمل متشعّبة، كما أن ردود الفعل والتفاعلات تتنوّع بين البصرية والجسدية والعاطفية والفكرية. وبالتالي، ربما تتغيّر تفسيرات المراقبين وافتراضاتهم الأولية أثناء تجوّلهم حول هذا العمل الفني والتفاعل معه، على أمل أن يولّد هذا الأمر فيهم حافزا للانخراط والتأمّل”.

أشكال مُتداخلة تسرد في انحدارها وارتفاعها سيرة السقوط في الجحيم، والانتقال إلى المطهر فالخلاص
ونايلا رومانوس إيليا مهندسة معمارية وفنانة لبنانية، طالت إنجازاتها العديدة في مجال مشاريع التصميم الداخلي والترميم والهندسة المعمارية في لبنان.
غادرت وطنها على مقربة نهاية الحرب الأهلية فانتقلت للعيش في باريس، ومنها إلى لندن فهونغ كونغ وصولا إلى دبي.
وفي خلال هذه الفترة قامت بسفرات عديدة وزارت أنحاء مختلفة من العالم فانطبعت في داخلها الآثار الثقافية والفنية الخاصة بكل مدينة، حيث كانت في وقت سابق قد طوّرت اهتماما عميقا بالفن.
وفي العام 2011 بدأت بالنحت فعشقت هذا الفن وكرّست نفسها له منذ ذلك الوقت. لها مجموعة فنية خاصة، تأمّلت فيها ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية، وفي الوقت عينه قامت بالتوعية بالاستدامة وسط أزمة نفايات غير مسبوقة في البلد عاكسة مشكلة من المشاكل الدالة على دولة مقصّرة.
وتبدي الفنانة/ المهندسة اهتماما كبيرا بالحضارة الفينيقية، وتحديدا بالأبجدية الفينيقية، فعندما كانت في دبي، قامت بإنشاء مجموعة المنحوتات الأولى الخاصة بها، المنبثقة من قوّة اللغة نفسها والمستوحاة من أشكال هذه الأحرف ومعانيها ورمزياتها. ويمكن إيجاد منحوتاتها ضمن مجموعات خاصة وعامة في لبنان والخارج.
تأثرت بمهنة الهندسة المعمارية، فتقارب منحوتاتها على هذا الأساس مستبدلة الوظيفة الفنية بالحدس، حيث تختلف جذريا مقاييس أعمالها، فتتفاوت بين الفن العام الضخم والمجموعات الصغيرة المحدودة النسخ المبتكرة خصيصا للمتاجر في المتاحف أو حتى منحوتات يمكن ارتداؤها كمجوهرات.