قصائد يقودها سرد ميكانيكي تحاول إنقاذ الناس من الأيديولوجيا والألم

كان لحركة جيل البيت الأدبية الأميركية التي انطلقت من سان فرانسيسكو عام 1955 الأثر العميق في الثقافة الأميركية، حيث تأسست انطلاقا من الدفاع عن الحريات الشخصية والرفض الحاد للنزعة العسكرية والمادية والقمع الجنسي، وقد لجأ كتّابها وشعراؤها إلى استخدام لغة الشارع في كتاباتهم، متطرقين إلى موضوعات من خارج المانيفستو الأدبي الرسمي، لكن الشعراء اللاحقين عن المؤسسين وسّعوا من دائرة الفعل الشعري إلى فنون أخرى وإلى فتح آفاقه على قضايا كونية خارج الحدود الأميركية، ومن هؤلاء الشاعر الأميركي المعاصر مايكل روتنبرغ الذي يكتب قصيدة مختلفة تماما عن سابقيه وثائرة على كل محدودية ومحاولة أن تحمل تصورات شاعرها وروحه الخاصة.
يقدم الشاعر مايكل روتنبرغ تجربة شعرية مختلفة ومغايرة ومتجاوزة لسياقات التجارب الشعرية الأميركية التي قدمتها الأجيال السابقة عليه مثل: والت ويتمان، إدغار آلان بو، أميلي ديكنسون، إزرا باوند، ألن غينسبرغ، جاك كيرواك، آن ساكستون، تشارلز بوكوفسكي، فيليب ويلن، لانغستون هيوز، سيلفيا بلاث وتشارلز سيميك وغيرهم.
يستمد روتنبرغ قوته وعمقه وتجلياته من الوعي بما يرزح تحت الإنسان سواء في الشرق الأوسط أو الغرب أو أميركا من آلام في مواجهة آليات الفساد والحرب والقمع والاضطهاد، وفي مجموعته الشعرية “حبس إلى أجل غير مسمّى.. قصة كلب”، يخاطب كل شخص يضيع في جمال العالم العابر ناسيا أو متناسيا أن الظلم مازال يسود في كل لحظة، حيث جمع جميع أجزاء وشظايا الحياة ليقود الخطى ويوجهها عبر ظلمات الحقبة الحالية من الحبس إلى أجل غير مسمى.
تجديد الشعر الأميركي
مايكل روتنبرغ جعل ذاته بمسافات واضحة ممّا ترصده، وحدّ من انفعالاتها، فبدا البعد العاطفي أو الغنائي في نصوص المجموعة شبه معدم
المجموعة التي صدرت عن مؤسسة أروقة، ترجمها وقدم لها الشاعر المغربي الحبيب الواعي، كما قدم لها الشاعر والناقد المغربي عبداللطيف الوراري الذي شكلت مقدمته المعنونة بـ”مدخل حذر إلى إيقاع شاعر آخر مختلف” قراءة عميقة لتجربة الشاعر ورؤاه، وذلك انطلاقا من رؤيته للشعر الأميركي حيث رأى أنّ الشعر الأميركي، بفضل نشاطيّة مبدعيه، ما فتئ ينحت حداثته الدائمة، ولا يكفّ عن تجديد أنساغ مخيّلته الهائلة، والعمل على الدفع بها إلى أقصى ما تفكّر به قصيدة لغة وبناءً وأسلوبا، وربطه بروح العصر وقضاياه في أزمنة الحرب والظلم والهمجية، إصغاء والتزاما.
ولعلّ من جملة هؤلاء، بل أكثرهم تجديدا ومفارقة في آن، هو الشاعر مايكل روتنبرغ الذي نشرت له دواوين وحظيت قصائده على نطاق واسع باهتمام مجلات أدبية عديدة. وعدا كونه شاعرا، فهو كاتب أغان ورئيس تحرير مجلة “بيغ بريدج” وناشرها على الإنترنت، والشريك المؤسس لحركة الشعر العالمي المعروفة بـ”100 ألف شاعر من أجل التغيير”.
وأضاف “مكّن روتنبرغ القارئ الأميركي المعاصر، عبر علاقاته الوطيدة مع دار نشر ‘بنغوين’ الشهيرة، من الاطلاع على مجلدات مختارة من الشعر الأميركي الحديث نشرت خلال العقد الماضي، لكتّاب أميركيين لعبوا دورا حاسما في صوغ مفهوم جديد للشعرية الأميركية خلال منتصف القرن الماضي، ومن بين هؤلاء الشعراء نذكر: فيليب ويلن، جوان كايغر، ديفيد ميلتزر وإدوارد دورن.
وبموازاة مع ذلك، عمل هذا الشاعر عبر مجلّته ‘بيغ بريدج’ على تشجيع أصوات شعرية جديدة، ومن ثمّة ساهم في بثّ روح جديدة تتواصل والإرث الشعري الذي ينشد سبل التجديد في الشعر المعاصر. ولقد ساهمت هذه الخدمات التي أسداها للشعر الحديث في التعريف به محرّرا وناشرا للشعر وفنّانا ذا ذائقة خاصة، ومنشغلا بالأسئلة التي يطرحها الفرد عن تجربته الشخصية في محاولتها لإعادة تأريخ وبناء السمات الأدائية في الشعر الأميركي الجديد. وهو ما أشار إليه الناقد الأميركي دايل سميث بقوله ‘إنّ مايكل روتنبرغ ساهم في صياغة مشهد الشعر الأميركي باعتباره محرّرا ومدافعا عن التجديد في الشعر الأميركي'”.
سرد ميكانيكي
اعترف الوراري بأن فضل معرفته بالشاعر الأميركي مايكل روتنبرغ يعود إلى صديقه الحبيب الواعي الذي كما يقول “يواظب اليوم من أجل ترجمة جزء مهمّ من مدونة الشعر الأميركي خلال العقود الأخيرة، لشعراء من أمثال: ألن غينسبرغ، أميري بركة، سام هاميل، وليس آخرهم مايكل روتنبرغ الذي مدّني بمسودة ديوانه الأخير ‘حبس إلى أجل غير مسمّى: قصة كلب’، بعدما فرغ من ترجمته إلى العربية، وذلك من أجل أن أقاسمه متعة استكشاف عالم هذا الشاعر المختلف، والتعرّف على طبيعة تصوّره للشعر ورؤيته ووظيفته في زمننا”.
وأضاف “لقد هالني شعر هذا الرجل، الذي يحتشد بعشرات الكلمات والملفوظات من كلّ فنّ وعلم، من الذرة إلى البكتيريا والطفيليات، مرورا بأسماء الدول والعواصم والمدن والغابات والنباتات ومشاهير الأعلام والفنون والحيوانات والنسب والرموز الرياضية ومنتوجات الصناعة الجديدة التي تغرق المجتمع الاستهلاكي في أتونها، من خلال عين شعريّة لاقطة وساخرة ترصد في حركاتها المهمل في حياتنا اليومية وتفاصيلها المكتظّة والباردة في آن، والعابرة للآفاق والمحيطات، يقول الشاعر: في حركة، / دائما في حركة/ المطر وإبر الصنوبر المنكسرة/ من ورائي/ عنكبوت على صخرة بجانب النافذة/ الصقر يعبر قمم الأشجار/ ثُمّ يذهب/ أتبع هذا/ أتبع ذاك/ زجاجة خضراء دبقة/ من خليج المكسيك/ تسافر عبر الولايات المتحدة/ في صندوق/ في شاحنة متحركة/ في طريقها إلى ساحل المحيط الهادئ/ أراض على الرفّ/ بجانب الصور العائلية/ نسر ذهبي اللون/ يطفو على حجر كريستالي/ أخشاب طافية، مبخرة..”.
ولفت إلى أن “كلّ هذه الدوالّ يداخل بعضها بعضا بكيفيّة تضع المعنى خارج كلّ حساب متوقّع في العملية الشعرية لروتنبرغ، وهو ما يجعل النصوص، داخل المجموعة، تنطوي على مفارقات بناء الدلالة، في علاقتها بأزمة تشيُّؤ الموضوعة، وانشطار الذات وتصدُّع فهمها للغيرية التي تعكسها بنى الملفوظ كيفما اتفق. لقد جعل روتنبرغ ذاته بمسافات واضحة ممّا ترصده، وحدّ من انفعالاتها، فبدا البعد العاطفي أو الغنائي في نصوص المجموعة شبه معدم، في مقابل الرفع من وتيرة السرد شبه المنطقي والميكانيكي الذي يتيح التهويل من تفاصيل صغيرة ومبتذلة حينا، ومفكّكة ومبتورة حينا آخر، في أتون اللعبة الإبداعية للخيال”.
اتباع الوجدان

أوضح الوراري أن الديوان يطفح بمتواليات فنتازية وسوريالية لا يمكن أن نخطئها، لكن ذلك لا يفقدنا الشعور بأنّ شعر روتنبرغ هذا يستمدّ قوّته وروحه من معاناة الإنسان وآلامه، ليس من أجل أن ينصب نفسه سرادق عزاء لمعزّين مفترضين ومُملّين، بل من أجل إيقاظ الوعي الأممي الذي طالما وقع تحت خدر الأيديولوجيّات المتطرفة، للتغيير والثورة. فالدّيوان، إذا، يمكن أن يُقرأ كقصيدة أو معلّقة طويلة تنبثق من تيار الوعي الكامن لدى الشاعر بضرورة التغيير، والأمل في التغيير، آجلًا أم عاجلًا.
لكن من المهمّ أن نلفت إلى أنّ روتنبرغ يصوغ جملته الشعرية الخاصة به: جملة بصريّة باروديّة ومحدودبة، من نتاج خبرته الشخصية، ووعيه الحدّي بالعالم المحسوس، وثقافته الفلسفية النافذة، ومقروئيته النابهة لأعمال والت ويتمان وجيمس جويس وألن غينسبرغ وغيره من شعراء جيل الإيقاع الاستثنائي.
وداخل هذا كلّه، تتنوّع صيغ الجملة وطرق كتابتها التي تسترفدها من أساليب المونتاج والمونولوغ والتبئير والتفضئة، ومن ملفوظات الكتابة الاعترافية، وهو يصل القصائد بتقنيّات الكتابة عند شعراء ما بعد الحداثة.
لقد حسم روتنبرغ مع تقاليد الشعر المرسل وأسلوب الأسطر الشعرية وقصائد السوناتة، وشرع يكتب نصوصه وفق ما تمليه عليه أعماق وجدانه بانسياب وسلاسة، في جمل جريئة وفقرات ومتواليات متدفقة تستضمر، في الكثير من الأحيان، فكرا فلسفيا جريئا، ارتيابيا ومضادا يغيم في صور مبتذلة وصادمة وغير متوقّعة، ويستوحي مضامينه من نزوع الكلْبيّة باعتبارها مذهبا يقوم على رفض العادات التي تحدد باسم الدين، أو تتعلق باللباس، أو اللباقة أو غيرها من القيود الاجتماعية، ساعيا وراء أسلوب حياة لا مادّية نتيجة شعور الأنا بالإحباط في الحضارة الجديدة وخيبة أمله منها.
نص غير مألوف
الشعر الأميركي، بفضل نشاطيّة مبدعيه، ما فتئ ينحت حداثته الدائمة، ولا يكفّ عن تجديد أنساغ مخيّلته الهائلة
كشف الحبيب الواعي في مقدمته أن ما لفت انتباهه في الديوان أن قصائده “تعكس وعيا ثقافيا كونيا بتأثّر شاعرنا بحركات التغيير الاجتماعي والسياسي بشمال أفريقيا وبلدان الشرق الأوسط على أشكال الكتابة الشعرية وروح الشعرية الأميركية المعاصرة، وهو اهتمام يعكس كذلك معاناة روح قلقة تجاه الظرف الإنساني، ليس فحسب في أميركا باعتبارها الدولة الأشدّ تمثيلًا لروح الرأسمالية المتوحشة، بل في البلدان العربية التي كبحت الأنظمة السياسية العقيمة عجلةَ تقدّمها. هذا من الناحية الموضوعاتية، وقد تولى الشاعر عبداللطيف الوراري التحدث عن المواضيع والقضايا التي يثيرها شعر مايكل روتنبرغ وتأثيره على الشعر العربي المعاصر”.
وتحدث بإيجاز عن الحيثيات التي رافقت ترجمته للديوان إلى العربية، قال “أوّلًا، لم تكن تجربة ترجمة ديوان مايكل روتنبرغ سهلة لاعتبارات عدة منها ما يتعلق بما هو لغوي تركيبي، ومنها ما يعلق بما هو ثقافي بالدرجة الأولى. فمن الناحية اللغوية التركيبية، شكّل أسلوب روتنبرغ تحدّيا كبيرا بالنسبة إلي نظرا لكونه يكتب بطريقة مخالفة لما ألفناه في شعرنا العربي الحديث. فروتنبرغ يسمو فوق الفهم القديم والتقليدي للنحو، ويتحدى التركيب وبنية الجملة اللذين تعوّد عليهما القارئ العربي، لأنه اختار أن يتخلى عن استعمال جمل فعلية وركز بالأساس على جمل اسمية تبتدئ بالمصدر في الكثير من الأحيان”.
وتابع “سيلاحظ القارئ أن فهم روتنبرغ للقصيدة يتلخّص في كونه لا يعتمد على الجملة الفعلية التي تحدّد تناسقا سرديّا داخل النص الشعري، بل يستعمل جملا اسمية متجاورة تنقل تجربة وأحاسيس الشاعر على شكل انطباعات تميل إلى السريالية في الكثير من الأحيان. يسمي مايكل روتنبرغ هذه التقنية بالسرد عن طريق المجاورة وهي تقنية يستعملها بعض شعراء جيل الإيقاع، خاصة أولئك الذين تأثروا بكتابات شعرية شرقية من قبيل الهايكو لدى اليابانيين، وأخص بالذكر هنا زعيم جيل البيت جاك كيرواك صاحب ‘كتاب الهايكو'”.
مقطع من قصيدة “حبس لأجل غير مسمى: قصة كلب”
كلب شاعر
كلب شاعر/ كلب حزين
منتفش الشعر/ زيغي/ كلب وردي
شاعر الحلم/ شاعر حزين
كلب…
زيغي وأنا وحيدان في الغابة
تيري ذهبت إلى ولاية فلوريدا مع كلبها بوما
كي تزور والدتها
رأس زيغي على وسادة تيري
عندما أشرع في تدليله
يبسط ساقيه
وفاء
الوفاء مضطرب. مريض وشاعري
زيغي يريد أن يخرج. أريد أن أختبئ
بعيدًا عن المرتشين والسياسيين
عن صفقات المخططين المتهورين
تحف منخفضة الثمن
خدمات العقود وعمالة الأطفال
30 مليون صوت لمغنيهم المفضل
من إكس فاكتور ™
ثماني مئة شخص فقط وقعوا على عريضة لتحرير
شاعر التبت من سجن الصين
“هل أنت تلك الشعلة التي تحترق وسط العاصفة؟
هل أنت ذاك القارب الذي يتأرجح في البحر؟
هل أنت أيضا ذاك الذي يقدم مشعل الحياة في ظلام الليل؟”
– تاشي رابتن
“لا تضيع صوتك، صوت لنفسك!
” وووف! وووف!
يوم السوق
بائعو الكتب في لبنان
رشيد في فصل الربيع
شكسبير والاذان
علم الفلك والإبداع
في الإمارات العربية المتحدة
انسجام بطليموس
روائيان تصويريان في الخضرة المراقبة للربيع العربي
“ليس هناك سوى خطابات جذابة إلى حين سقوط القنبلة”
قتل في ميدان التحرير
35 ٪ من 99 ٪ تؤيد 99 ٪
وووف!
ثلة من الأشباح في دير الشعر
عالقة في الوحل وراء ذروة نارية
أركان أدونيس، زرادشت وهرقل
فاعلو الخير مستعبدون في القوس
ثيران وول ستريت فوق سلك ذهبي معلق من ثقب أسود
الفلاسفة والكهنة
اقترض الضوء وانفق الظلام
قصص مليئة بالأنانية والشراهة
تأثير أزرق من نجم منكسر
هذا قسم الذين يحبون اكتناز الأموال
هذا الصوف البسيط منسوج من الوحش العالم
كنت وحدي في عالم مليء بالوعود
ولكن العالم لم يستطع أن يفي بوعده
ممزق في نقطة التماس
شعري في شكله البدائي
الغشاء المليء بالأخبار يتنهد
تحت وطأة سحابة حزينة
كلب ألماني سام كلب ألماني سام في الثلج
جميل جدًّا! لا تئنّ يا جروي!
كن عظيمًا في إدمان الحرية
كلب حيوان كلب
يدعى الفول السوداني
ثلاث ليالي كلب
هذا الشكل العمودي المتلاشي
كونه حاز على الرتبة الثانية
فقد أسر في عظم ذهبي آخر
كونك وضعت على هذا الظلام المائي
لماذا تهتم على الإطلاق؟
تغير الضوء هذا في طريقه إلى النفاذ
الضوء والظلام يضطربان في ثانية
مستوى البائعين السابقين لأوانهم
هواة جمع طوابع ورديين وغلكسينية مستفحلة
تصر على أن تتحدث معي
– بينما أحاول أن أكتب الشعر –
عن صراخ الأطفال والكلاب
إنها تقرأ من الإنترنت
حول معاملة شركات الخطوط الجوية المجحفة للكمأة
مؤامرة الشركات ضد الجراء
كمأة وحيدة في الظلام
كمأة بعد حلول الظلام
كلب يدعى كمأة
أنتظر نباحه ولكنه لا يأتي أبدا
فقط الفول السوداني، والفول السوداني يأتي مملّحًا أو غير مملح في كيس