باريس تبحث عن آليات جديدة لترميم علاقاتها مع قارة المستقبل

فرنسا تتجه نحو الأجيال الأفريقية الشابة لمعالجة مشكلاتها مع مستعمراتها السابقة.
الجمعة 2021/10/08
ماكرون يرسم استراتيجية جديدة للتصالح مع أفريقيا

تبحث فرنسا عن حلول جديدة لإعادة توطيد جسور تواصلها مع مستعمراتها السابقة في أفريقيا بعد أن بدأت تفقد علاقاتها برحيل الزعماء التاريخيين لتلك الدول ودخول القارة السمراء تحت وطأة تجاذبات دولية وصراعات على تأمين المصالح فيها ليس فقط من قبل روسيا والصين، وإنما كذلك من قبل الولايات المتحدة ومنافسين أوروبيين، بالإضافة إلى التمددين التركي والإيراني المتسترين تحت غطاء الإسلام السياسي وتطلعات الأجيال الجديدة للثأر من المستعمر الفرنسي باعتباره قوة استغلال اقتصادي واستلاب ثقافي وحضاري.

تونس - في ظل خلافات جادة مع الجزائر وأزمات في تونس ومالي وتشاد وغينيا ومدغشقر وغيرها، يدير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجمعة لقاء قمة من نوع خاص، تحتضنه مدينة مونبلييه، لن يحضره رؤساء دول أو حكومات أو قادة مؤسسات رسمية، وإنما سيتم تخصيصها حصريا لشباب أفريقيا وفرنسا، الذي يقول المنظمون إنه يبني كل يوم، مستقبل العلاقة بين فرنسا والقارة الأفريقية، معتبرين أن طموح القمة هو السماح لهم بالتوافق حول وجهات النظر والإجراءات الملموسة الأولى التي يتعين القيام بها لتجديد العلاقة بين فرنسا والقارة الأفريقية.

تحوّل في الاهتمامات

تنتظم القمة رسميا من الثلاثاء 5 إلى الأحد 10 أكتوبر، بحيث يكون الحدث حفلة مفتوحة لأكبر عدد ممكن من الناس، وتقام الأحداث والاجتماعات والعروض الثقافية والرياضية والفنية من جميع أنحاء أفريقيا في أماكن مختلفة في قلب مونبلييه. مفتوحة للجميع، وخاصة الشباب.

وتجمع فرنسا في هذه القمة حوالي 5 آلاف مشارك من رواد الأعمال الشباب والفنانين والباحثين والرياضيين والطلاب من فرنسا والدول الأفريقية ليدور النقاش بينهم حول المشاركة المدنية، وريادة الأعمال والابتكار، والتعليم العالي والبحث، والثقافة والرياضة، وحول كيفية بناء شبكات جديدة، وتصميم المشاريع المشتركة، وبناء الجسور من أجل بناء ديناميكية جماعية تطمح باريس لتحقيقها بهدف تعويض خساراتها وإعادة التأسيس لعلاقاتها مع مستعمراتها السابقة ومنها الجزائر ومالي.

أشيل مبيمبي: فرنسا منفصلة جدا عن تجارب الشباب الأفريقي

وبعد أربع سنوات من خطاب ألقاه الرئيس ماكرون في واغادوغو، قال الإليزيه إن الأمر يتعلق بـ”الإنصات للشباب الأفريقي” و”الخروج من الصيغ والشبكات البالية”، مشيدا بالصيغة “غير المسبوقة” للحدث.

ووفق مراقبين، فإنها المرة الأولى التي يستبعد فيها قادة الدول الأفريقية من اجتماعات القمة مع فرنسا التي تعودت على تنظيمها منذ العام 1973، وهو ما يعني تحولا من باريس في توجيه مؤشر اهتماماتها من الحكومات إلى منظمات المجتمع الأهلي ورجال الأعمال وصانعي الرأي العام والقوى الناعمة.

وسيحضر الرئيس الفرنسي لقاء الجمعة، وسيجري حوارا في جلسة عامة مع شباب من 12 دولة أفريقية بينها مالي وساحل العاج وجمهورية الكونغو الديمقراطية وتونس وجنوب أفريقيا وكينيا، وقع عليهم الاختيار بعد حوارات أجراها لأشهر في القارة المفكر الكاميروني أشيل مبيمبي المكلف بتنظيم القمة.

وفي القمة سيكون هناك قادة شباب من الحائزين على جائزة المؤسسة الفرنسية الأفريقية، مثل جيرالدين ماهورو، من أصل رواندي والمدير التنفيذي لشركة الاستشارات الذي يرى أن “كل عمل الجيل الجديد هو محاولة جلب تجربة الأفارقة إلى المجتمع المدني الفرنسي لإنعاش العلاقة بين فرنسا وأفريقيا بعد أن تقدمت في السن، وهي علاقات يجب ألا نمحوها، لكن يجب أن تتطور”.

وفي تقرير قدمه إلى الرئيس الفرنسي، أبرز مبيمبي حقيقة تبدو مهمة وهي أن فرنسا باتت منفصلة جدا عن واقع “الحركات الجديدة والتجارب السياسية والثقافية” التي يقوم بها الشباب الأفريقي، وأن بين وجهات النظر المثيرة لخلافات حادة أن هناك ضررا أكبر لفرنسا في علاقاتها مع مستعمراتها القديمة من دعمها المفترض للاستبداد في القارة.

وقال الإليزيه إن “كل المواضيع التي تثير الغضب ستطرح على الطاولة” من التدخلات العسكرية الفرنسية إلى السيادة والحوكمة والديمقراطية، معترفا بأن “الأجواء السياسية الحالية تجعل المناقشات حساسة”.

تجديد للحوار

Thumbnail

يرى الفيلسوف والمؤرخ الكاميروني أشيل مبيمبي، وهو كذلك عالم سياسي ومؤلف وأستاذ في جامعة ويتواترسراند في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا وقرن الشباب، أن القرن القادم سيكون قرنا أفريقيا، ومن خلال هذه الرؤية كلفه ماكرون بمهمة قيادة المناقشات قبل قمة أفريقيا الجديدة، وذلك في إطار الرغبة في تجديد الحوار على جانبي المتوسط.

لقد أصبح واضحا أن باريس لم تعد تعتمد كثيرا على صانعي القرار السياسي من قادة وزعماء ورؤساء دول وحكومات، وإنما أصبحت تتجه نحو الأجيال الأفريقية الشابة بمن فيهم المقيمون للدراسة أو للعمل في الشتات، وكذلك نحو رجال الأعمال ونجوم الفن والرياضة والإعلام ممن يؤثرون يوميا في مجتمعاتهم.

ويعتبر مبيمبي أن الشباب هو “القوة الحية” في أفريقيا، ويقول في هذا السياق “ينخرط الشباب في ريادة الأعمال والتحولات الرقمية والمناخية، أحيانا بموارد قليلة. ما يهم هو جعل الأشياء تحدث، لإحداث فرق. إنه يذهلني ويلهمني كثيرا”.

هذه العبارات لا تختلف كثيرا عما ورد في مقال بصحيفة لوموند نُشر في أبريل 2020 عندما كان العالم في قلب جائحة كورونا، وأكدت من خلاله الباحثة ووزيرة الخارجية السابقة راما ياد أن “أفريقيا فقط، بشبابها الذي هو في حركة دائمة، هي التي تظهر في الصورة للتفكير في المصير الجماعي للبشرية”. وهذه الكلمات فتحت أبوابا واسعة للتأويل والبحث العميق والاستشراف.

ويشير المعهد الفرنسي للدراسات الديموغرافية إلى أن 60 في المئة من السكان الأفارقة تقل أعمارهم عن 24 عاما وبحلول عام 2050 سيكون واحد من كل أربعة مالكين للأراضي أفريقيا، مما يجعلها اليوم القارة الأكثر شبابا في العالم، لذلك ترى باريس أن إشراك شبابها من أصول أفريقية في المشاريع المبتكرة في القارة السمراء يجعل من الممكن إنشاء جسور مع شباب القارة، وهو أمر ضروري لبناء العالم بعد ذلك.

وسيكون على فرنسا أن تعيد إدماج أبنائها من أصول أفريقية في مجتمعاتهم الأصلية بما يساعدها على اختراق تلك المجتمعات وتشكيل رؤي واقعية للتعامل معها.

ويقول علي سوماري وهو فرنسي من أصول مالية، ويعمل مستشار اتصالات بعد أن كان مستشارا إقليميا في منطقة إيل دو فرانس شمال وسط فرنسا، إن العديد من رواد الأعمال الشباب الفرنسي الأفريقي يطلبون دعما أفضل، ليس فقط من حيث التمويل ولكن أيضا في ربط الصلات والاعتراف بعملهم على الأراضي الأفريقية، و”يجب الاعتراف بهم كسفراء لفرنسا، تماما مثل رواد الأعمال الآخرين الذين يجدون أنفسهم أحيانا في مجموعة لا يشعرون بأنهم ينتمون إليها. إن مسألة تحديد المحاورين المناسبين مهمة على الأقل بل إنها لا تقل أهمية عن مسألة التمويل”.

ويرى البعض اليوم أن “المطلوب من رواد الأعمال الفرنسيين من أصول أفريقية أنهم وبمجرد تأسيس أعمالهم في فرنسا، يعودون إلى بلدانهم الأصلية لتطويرها، هذا هو المفتاح، والهدف هو إعادة إنشاء اقتصاد السوق داخل أفريقيا نفسها، وأن يكون هذا الاقتصاد منفتحا على الخارج”. سيكون التنقل والتعليم والاندماج والمستقبل المهني في قلب التبادلات في قمة مونبلييه: وهو ما يكفي لوضع الأسس لإصلاح صحي.

وتنعقد القمة، وفرنسا تخسر الكثير من علاقاتها الودية مع مستعمراتها السابقة، ففي منطقة الساحل حيث تتدخل عسكريا منذ 2013 ضد المجموعات الإرهابية، تواجه فرنسا منافسة على نفوذها ولاسيما من قبل روسيا بينما تشهد باريس خلافا حادا مع مالي منذ أشهر، وفي شمال أفريقيا اهتزت العلاقة مع الجزائر مرة أخرى بعد تصريحات للرئيس ماكرون اعتبرت “إهانة” وقرار بخفض عدد التأشيرات.

ويبدو ماكرون حريصا على فهم مجريات الأحداث لترميم زجاج العلاقات المكسور، يقول أحد مستشاريه إن “السياق السياسي الحالي في عدد من البلدان يجعل هذه المناقشة حساسة، ولكنها ضرورية في نفس الوقت. ونرى أنه لم يعد من الممكن اختزال العلاقة في المناقشات بين الدول”، هذا يعني أن المطلوب هو التوجه إلى الفاعلين الأساسيين في المجتمعات ممن تحاول باريس استدراجهم لإعادة ترسيخ قدمها في القارة السمراء.

7