بوتين يقود "دبلوماسية القمح" عبر نفط الكرملين الجديد

عندما تبوأت روسيا المرتبة الأولى في العالم عام 2017 بوصفها المصدر الأول لتوريد القمح، كان الرئيس فلاديمير بوتين يطلق جملته الشهيرة آنذاك “نحن رقم واحد” واليوم يحول الرئيس هذه المرتبة دبلوماسية فاعلة في علاقة بلاده مع دول العالم، لا تقل أهمية عن دبلوماسية الغرف المغلقة في وزارة الخارجية.
موسكو- لا زال المقربون من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قادرين على رسم ملامح وجهه العبوسة، بمجرد أن سمع من كبار المسؤولين الروس في أول اجتماع اقتصادي له بعد تقلده منصب رئاسة البلاد عام 2000 أن “روسيا تستورد أكثر من 50 في المئة من طعامها”.
اليوم يرسم المسؤولون الروس ملامح مبتهجة لنفس الرئيس وهو يقود ما يمكن أن نسميه سياسة أو اقتصاد القمح في البلاد، التي تعيد لاقتصاد البلاد قوته.
فروسيا وفق بوتين ليست مجرد مصنع لا تتوقف تروسه عن الدوران لبندقية كلاشنكوف، ومصدر للنفط يساوم ويتفق ويختلف مع دول أوبك. إن روسيا بلد قادر على ضمان أمنه الغذائي أولا، ومعزز لقوة الاقتصاد ثانيا في التصدير.
ويكفي الاعتراف بأن روسيا تحتل المرتبة الأولى في إنتاج القمح في العالم، وهي مصدر لعدد كبير من البلدان، جعلت بوتين يمارس مع “دبلوماسية القمح” خططه السياسية، على اعتبار تلك الدبلوماسية مثمرة ومؤثرة بقوة اقتصاد السلاح.
وأطلق بوتين برنامجا تقوده الدولة لتطوير الزراعة من خلال المشاريع الوطنية التي تهدف إلى تحفيز الاستثمار وتطوير الإنتاج في عام 2004. وتضمن هذا البرنامج أهدافا لضمان 80 – 95 في المئة من الاكتفاء الذاتي في المنتجات الرئيسية، بما في ذلك الحبوب.
وبعد عقد من الزمان، تم وضع ميثاق الحبوب لتعزيز الشفافية في السوق. واتفق المنتجون الكبار مع الدولة على جعل هذا السوق ليس إيجابيا فقط، بل ومؤثرا في سياسة البلاد مع دول العالم الأخرى لزيادة كمية الصادرات.

مادينا خروستاليفا: دبلوماسية القمح تتفوق عند روسيا على دبلوماسية السياسة
وساعد في ذلك الانخفاض الحاد في قيمة الروبل مما جعل كلفة الصادرات أرخص، بعد فرض عقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على موسكو إثر ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 والمواجهة مع أوكرانيا المجاورة. وأصبحت روسيا في عام 2017 أكبر مصدر للقمح في العالم، متجاوزة الولايات المتحدة وكندا.
وأعلن بوتين حينها في مؤتمر صحافي لاحق جملته الشهيرة “نحن رقم واحد لقد تغلبنا على الولايات المتحدة وكندا”. بالطبع كان يقصد القمح. لكن هذا المعنى لا يقل أهمية عن النفط وعن السلاح.
وتقدر أرقام الأمم المتحدة أن العالم سيحتاج إلى إنتاج المزيد من الغذاء بنسبة 40 في المئة بحلول عام 2050 لمجرد مواكبة عدد سكان العالم الذي من المتوقع أن يرتفع بمقدار ملياري شخص على مدار الثلاثين عاما القادمة.
قوة زراعية
تشق روسيا اليوم طريقها ببطء عبر أوراسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية كقوة تصدير زراعية قوية حيث تتطلع إلى تقليل اعتمادها على النفط وتحديد أسواق جديدة وتوسيع نطاق وصولها الدبلوماسي العالمي.
ويعبر غالبية المحللين الاقتصاديين عن توقعهم بأن تصبح الحبوب الروسية نفط الكرملين الجديد، كسلعة يمكن من خلالها إبقاء بعض البلدان معتمدة على روسيا في الاستيراد منها، أو على الأقل لفتح أبواب سياسية مع دول أخرى.
وتعزو مادينا خروستاليفا المحللة المتخصصة في المنطقة لدى شركة “تي.إس لومبارد” في تصريح لصحيفة فايننشيال تايمز، الاتفاق الروسي – السعودي على تخفيض إنتاج النفط عام 2016 الذي ولد إثره تجمع أوبك بلاص، إلى دبلوماسية القمح، عندما قدمت موسكو تنازلات نفطية مقابل فتح الرياض أسواقها للحبوب الروسية.
ويجمع الخبراء على أن صادرات الحبوب عمقت الوجود الروسي في البلدان النامية، لاسيما تلك المجاورة أو القريبة بدرجة كافية حتى لا تكون الخدمات اللوجستية مشكلة.
ونقلت فايننشيال تايمز عن أوليغ روغاتشيف عضو مجلس إدارة شركة “روسياغروترانس” تأكيده على أن الأرباح التي تجنيها روسيا تعود إلى موقعها الجيوسياسي في التصدير.
وقال “معظم زبائننا الذين يعانون من نقص في الغذاء، موجودون عمليا بجوارنا، إنهم قريبون جدا، كلهم من أفريقيا والشرق الأوسط ودول آسيا والمحيط الهادئ والشرق الأقصى. أقصر وأسهل طريقة لتلبية احتياجاتهم هي من خلال الإمدادات من روسيا”.
لكن القمح ليس منافسا للنفط في سياسة روسيا، بقدر ما هو داعم ومفيد، إذ تنتج موسكو ما يكفي من النفط الخام لتلبية 10 في المئة من الطلب العالمي، وسبق وأن استخدمت أموال النفط لاستيراد معظم غذائها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية تسعينات القرن الماضي.
واليوم، جعل القيصر الجديد بوتين روسيا تكاد تكون مكتفية ذاتيا من الحبوب إلى الجبن. وتمثل واردات روسيا من القمح ثلث حاجة الشرق الأوسط وأفريقيا، وعشرة في المئة من تلك الموجودة في آسيا. كما توفر حوالي خمس إجمالي الطلب على القمح على كوكب الأرض.
ووضع وزير الزراعة الروسي دميتري باتروشيف خطة بإضافة 50 في المئة أخرى إلى قيمة الصادرات الزراعية بحلول عام 2024. كما أنه يتعرض لضغوط لزيادة إنتاج الحبوب إلى 140 مليون طن بحلول عام 2025 لسد حاجة أسواق التصدير.
الطعام أداة دبلوماسية

1/5 من إجمالي الطلب على القمح في العالم توفره روسيا اليوم من الشرق الأوسط إلى أفريقيا
طالما كان الطعام أداة دبلوماسية في علاقات روسيا مع جيرانها من قبل. فقط حظرت بعض الواردات الزراعية التركية في إطار حزمة من الإجراءات بعد إسقاط طائرة مقاتلة روسية من قبل القوات التركية في عام 2015.
واستؤنفت الواردات بعد ذلك بعامين وأصبحت تركيا أكبر مستورد للقمح الروسي في عام 2019 بعد موافقتها على عبور الغاز الروسي إلى أوروبا بعد أن رفضت بلغاريا.
وفي مقابل مبيعات القمح لإيران، وافقت روسيا على أخذ النفط الإيراني وبيعه كجزء من مبادلة النفط مقابل السلع قبل إعادة فرض العقوبات الأميركية على طهران في أواخر عام 2018.
وذكرت صحيفة فايننشيال تايمز البريطانية في تقرير موسع لها أن ما تغير منذ تلك الأحداث الفريدة هو حجم وطموح اقتصاد القمح، حيث تعتبر روسيا مستقبلها الاقتصادي الكبير فيه، فقد كان القمح محوريا منذ أن تدهورت علاقاتها مع الغرب وحيث أطلقت خط أنابيب غاز رئيسي.
ومع اكتساب روسيا الريادة في سوق القمح العالمي، تحاول إيجاد توازن بين تأمين الأسواق المستقبلية وقيادة السياسة الخارجية. إلا أن خروستاليفا تقول إن دبلوماسية القمح تتفوق عند روسيا على دبلوماسية السياسة على الأقل في الوقت الحاضر، ففي ظل الوضع الاقتصادي الحالي، من المهم الوصول إلى الأسواق الخارجية بدلا من محاولة تحقيق شيء ما في السياسة الدولية.
ورفعت شركة الاستشارات الزراعية الروسية “آيكار” توقعاتها لمحصول القمح الروسي لعام 2021 من 500 ألف طن إلى 79.5 مليون طن. وعزت الشركة زيادة التقديرات إلى تحسن الطقس في الجنوب الروسي واتساع الرقعة المزروعة بقمح الربيع في وسط البلاد.
تمثل واردات روسيا من القمح ثلث حاجة الشرق الأوسط وأفريقيا، وعشرة في المئة من تلك الموجودة في آسيا. كما توفر حوالي خمس إجمالي الطلب على القمح على كوكب الأرض.
ونما الاقتصاد خلال الربع الثاني من العام الحالي بأعلى معدل له منذ 2000 بفضل التعافي من تداعيات إجراءات الإغلاق التي فرضتها جائحة فايروس كورونا المستجد في العام الماضي.
وذكرت هيئة الإحصاء الروسية أن معدل النمو خلال الربع الثاني من العام الحالي بلغ 10.3 في المائة، سنويا، وهو ما يزيد على توقعات المحللين ويزيد على معدلات النمو قبل جائحة كورونا، حيث سجلت قطاعات تجارة التجزئة ونقل الركاب والتصنيع نموا قويا.
وأشارت وكالة “بلومبيرغ” للأنباء إلى أن متوسط توقعات المحللين الذين استطلعت رأيهم 10 في المئة، من إجمالي الناتج المحلي. وأضافت “بلومبيرغ” أن هذه الأرقام تجعل روسيا على خط الأسواق الصاعدة الأخرى نفسه، التي سجلت نموا بأكثر من 10 في المئة، من إجمالي الناتج المحلي خلال الربع الثاني، ومنها بولندا والفلبين.