فيرا تماري رسامة فلسطينية حررت لغتها من الأقوال السائدة

أيقونة تعبر بمواهبها الكبيرة من الرمزية الوطنية إلى الفن المعاصر.
الأحد 2021/08/29
موهبة تتفنّن في تجسيد واقع الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر

بين الرمزية الوطنية والفن المعاصر بشروطه المفتوحة على التجارب العالمية مسافة لا يمكن اجتيازها إلا عن طريق المواهب الكبيرة. فلدى الشعوب التي تعاني من قهر الاحتلال اليومي الكثير من الاعتزاز بالمفردات التي تشيع روح الارتباط بماضي الشخصية الوطنية وهو ما يكرّس ظهور نوع من الأيقونات الثابتة التي ينطوي تكرارها على قدر من العاطفة الإنسانية التي يصعب التخلي عنها.

ذلك هو واقع الفن التشكيلي المعاصر الفلسطيني الذي سعت فيرا تماري ومعها عدد من الفنانين الفلسطينيين إلى تحريكه في ثمانينات القرن العشرين في محاولة منهم للوصول إلى صياغة جديدة لفن وطني ومعاصر في الوقت نفسه.

فكر فني معاصر

تماري هي خزافة في الأساس غير أن ذلك لم يقف بينها وبين ممارسة الفن المفاهيمي في سياق دعوتها للتحول إلى الفنون المعاصرة من غير التخلي عن القضية الوطنية. معادلة ليست صعبة بالنسبة إلى فنانة تؤمن بحرية التعبير. ربما تكمن الصعوبة في الصدمة التي تنتج عن لقاء الجمهور لأول وهلة بتلك الأعمال الفنية التي لا تدخل في إطار ما هو مألوف بالنسبة إليه.

تماري خزافة في الأساس، غير أن ذلك لم يقف بينها وبين ممارسة الفن المفاهيمي في سياق دعوتها للتحول إلى الفنون المعاصرة من غير التخلي عن القضية الوطنية

قبل أن تنتقل تماري إلى الفن المفاهيمي لم تكن علاقتها بالخزف تقليدية. كانت ترسم وتنحت بالطين بالرغم من أن النتيجة تكون دائما لصالح الخزف، انطلاقا من كون المادة والتقنية تنتسبان إليه.

ابتعدت تماري في فنها قليلا عن المنحى الأيقوني للفن الفلسطيني وهو المنحى المكرس نقديا والمقبول شعبيا غير أنها لم تخرج عن دائرة المشكلات التي يعالجها الفلسطينيون في فنهم وفي مقدمتها الذاكرة والهوية.

"كم من محارب مرّ من هنا" عنوان معرضها عام 2019 الذي أقامته في رام الله. عنوان تميل معانيه المتعددة إلى التاريخ كما إلى السرد. هناك الحكاية تقف دائما في الطريق باعتبارها مرشدا. لا يتخلى الفنان الفلسطيني عن الحكاية التاريخية التي تؤكد حقه في الأرض. وهي لازمة تظهر وتختفى من خلال طريقة تفكير الفنان في فنه.

تقدم تماري نموذجا لطريقة حية في التفكير في الفن، تجمع بين الموضوع الوطني والأسلوب المعاصر.

فن فلسطيني بلغة معاصرة  

ولدت في القدس عام 1945. درست الفن في كلية بيروت للبنات وتخرجت عام 1966. تخصصت بفن السيراميك في المعهد الوطني لفن الخزف بفلورنسا الإيطالية عام 1974. حصلت على شهادة الماجستير في الفن والعمارة الإسلامية عام 1984 من جامعة أوكسفورد ببريطانيا. عملت لأكثر من عقدين في جامعة بيرزيت أستاذة لتاريخ الفن والعمارة الإسلامية. هناك أسست وأدارت متحف المقتنيات التراثية والفنية كما قامت بتأسيس “معرض المدن” ما بين عامي 2009 و2012. كانت قيمة لثلاث نسخ منه. عملت تماري في عدد من اللجان التي سعت من خلال نشاطها للترويج للفن بين الأوساط الشعبية الفلسطينية.

تجربة تماري الفنية غير خاضعة للمقاييس التقليدية بعد أن تحرّرت من قيود الفن المقبول شعبيا

يعتبر عام 1974 خط البداية بالنسبة إلى تماري ففيه بدأت في المشاركة في المعارض الجماعية التي غالبا ما تقتصر على عدد قليل من الفنانين وفي إقامة معارضها الشخصية.

نشطت تماري في اتجاهين. الاتجاه الأول يتعلق بطبيعة علاقتها بفنها وهو ما يختصر طريقة تفكيرها في الفن. كانت تجربتها الفنية غير خاضعة للمقاييس التقليدية بعد أن تحرّرت من قيود الفن المقبول شعبيا، كما أنها انفتحت لى فنون ما بعد الحداثة بكل أنواعها وأساليبها. أما الاتجاه الثاني فهو يكمن في أنها كانت النقطة التي تجتمع حولها الجماعات الفنية. كانت رائدة جماعات غير أن تلك الجماعات كانت طريقتها في التعبير عن الارتقاء بالموضوع الوطني إلى مستوى اللغة المعاصرة.

بذلك تكون قد اختصرت الطريق إلى فنها وفي الوقت نفسه يسّرت على الآخرين الوصول إلى نقاط مشتركة من أجل أن تتضح الرؤية أمامهم للتحقق من هويتهم المعاصرة.

شجرة تعود إلى أصلها

في عملها “حكاية شجرة” 1999 تلخص فيرا تماري بطريقة رمزية حكاية تتعدد نهاياتها فيما تعود إلى أصل واحد. شجرة الزيتون وهي رمز فلسطيني تقليدي لطالما تمسك به الفنان الفلسطيني ليقدم من خلاله وطنه. وفي ذلك نوع من الثناء على شجرة يمكن أن تعيد التائه إلى بيته ولو حلميا.

إنها تشكل مكانا روحيا بقدر ما هي إشارة إلى أرض بعينها. الفنانة لا تنكر ذلك حين ترى أن من حق الشجرة التي تضم الغائبين والحاضرين مثل أمّ أن تتغير بتأثير من الزمن. فبدلا من أن تكون خضراء دائما تصبح صفراء وحمراء وبنفسجية وإلى آخر القائمة. العمل يتألّف من صورة الشجرة على الحائط وأمامها منصة رصفت عليها أشجار ملوّنة بأحجام صغيرة.

في ذلك العمل قدمت تماري نموذجا لما يمكن أن تكون عليه العلاقة بين الذاكرة والهوية. فشجرة الزيتون هي عنصر هام من عناصر الهوية الفلسطينية من جهة تجذّرها في الأرض وهي أيضا تعد عنصرا رئيسا من عناصر الذاكرة البصرية.

غير أن الفنانة لا تكتفي بذلك فهي تجد في معالجة الشجرة شكليا مناسبة للخوض في مغامرة رسم الطبيعة من خلال التركيز على خطوطها الأساسية بما يذكّر بتجربة الهولندي بيت موندريان حين نجح في تجريد الشجرة من مظهرها الواقعي ليعود بها إلى حقيقتها التجريدية. تماري هي الأخرى ترسم الطبيعة لكن بقصد أن تنتهي بها إلى أصولها التجريدية. كانت تلك تجربة مدهشة من جهة نتائجها التي تجمع بين المتعة البصرية وغموض المشهد.

حوار مفقود ووجوه غائبة

إبداع فريد

وكما أرى فإن مشروعها في رسم الطبيعة كما رسم الحياة الجامدة قد ألهمها نوعا من التكثيف لطريقتها في النظر إلى الموضوع الوطني باعتباره مسألة إنسانية شاملة تتسع لكل أنواع العواطف.

في واحد من أعمالها الأساسية “حوار” الذي أنجزته عام 1995 تنتقل تماري إلى عالم يغلب عليه طابع الوحشة والشعور بالغربة وضياع فرصة اللغة في أن تكون وسيطا حسنا بين البشر. أقنعة بعيون مفتوحة محمولة على قضبان وهي تنظر في اتجاهات مختلفة. حوار بشري غير أنه قائم على الأسئلة الوجودية التي تظل في حاجة مستمرة إلى إجابات، بسبب المسافة التي تفصل بين السائل وفكرته التي تتغير مع مرور الزمن.

الفنانة تهتم بالفضاء الذي يحيط بأعمالها. من خلاله تتمكن من الإمساك بالخيوط التي تصل بينها وبين المفردات الغائبة. تلك المفردات التي لم تظهر في العمل الفني بعد أن حرصت الفنانة على إخفائها

نفذت تماري عملها كالعادة بالطين غير أنه ينتمي إلى النحت بسبب عناصر تكوينه. وهو بالتأكيد لا ينتمي إلى “النحت الفخاري”. ذلك لأن البحث في الفراغ يفوق البحث في الامتلاء. العمل يكتسب كثافة من طراز خاص من خلال التفكير فيه. وهي كثافة مادتها الهواء.

تهتم الفنانة بالفضاء الذي يحيط بأعمالها. من خلاله تتمكن من الإمساك بالخيوط التي تصل بينها وبين المفردات الغائبة. تلك المفردات التي لم تظهر في العمل الفني بعد أن حرصت الفنانة على إخفائها. وهنا يمكنني القول إن الفنانة في خضم محاولتها الانفتاح على تجارب الفنون المعاصرة لا تنسى أن هناك عالما حيا هو مصدر إلهامها وهي إذ لا تُظهر مفرداته فإنها تحتفي بتلك المفردات داخليا وهو ما يعني أن جوهر تجربتها الفنية إنما يقع في الحكاية الفلسطينية. لم تظهر شجرة الزيتون في أعمالها باعتبارها أيقونة. ذلك صحيح. غير أن الصحيح أيضا أن تلك الشجرة الرمز كانت تعبق برائحتها في الكثير من أعمال الفنانة.

لا تكتفي فيرا تماري برسم ما تراه أو ما تتذكره. بل تضيف إلى ذلك ما تتخيله. وهي بذلك تجمع أطراف لغتها. لغة العاطفة ولغة العقل إضافة إلى لغة المزاج.

إبداع فكري معاصر
إبداع فكري معاصر 

9