المخربون المعاصرون يدمرون الممتلكات العامة مرحًا واحتجاجًا

التخريب يعد ظاهرة اجتماعية "شريرة" عابرة للمجتمعات المعاصرة ولمنع حدوثها يتطلب إجراءات تتعلق أساسا بالتنشئة الأسرية وزيادة المشاركة في المجتمع.
السبت 2021/08/28
التخريب وسيلة دفاعية في العالم الثالث

كان الناس قديما يخربون ما يصنعه الآخرون، أي أن هجومهم العنيف دمر شيئًا صنعه بلد آخر لكنه لم يضر باقتصاد بلدهم. لكن “المخربين المعاصرين” يدمرون شيئًا يخص مجتمعهم، أي تعود خسائره إليهم لكنهم لا يدركون ذلك. وظاهرة التخريب كغيرها من الانحرافات الاجتماعية لها العديد من النتائج الخفية والواضحة، وهي نوع من الجرائم التي تضر بالنظام العام؛ إذ يقلل التخريب من جودة الحياة الحضرية، وبتزايد العدوان والعنف في المدن لا يؤثر هذا التخريب في الأنشطة التجارية والأماكن الترفيهية العامة فقط وإنما يفاقم أيضا مشاعر الخوف والاضطراب.

لندن- قبل شهر عندما تعرّضت محطتا ”الزهور” و”حي الطيران” التابعتان لشركة تونس للشبكة الحديدية السريعة إلى تخريب بعض الأسلاك، رغم أن المشروع لا يزال في طور التجربة، لم يصدق صادق (سائق قطار يبلغ من العمر 58 عاما) الأمر. ويقول إن عقله يعجز عن فهم عقلية المخربين، ويضيف “هذا المشروع تحديدا طال انتظاره. أنا أتساءل: لماذا يفعلون ذلك؟”. ومثل صادق يطالب كثيرون بمحاسبة المخربين.

ويتحدث هاشمي (سائق مترو يبلغ من العمر 40 عاما) عن المراهقين الذين لا يفعلون شيئا سوى الركوب في المترو لتعطيل سيره والوقوف قرب الأبواب لمنعها من الانغلاق ثم تهشيمها. ويقول إنه يضطر كل مرة إلى إبلاغ الشرطة التي تأتي لتعاين التجاوزات على عين المكان.

لا شك في أنه شيء مزعج جدا لأي دولة أن تبني وتعمّر وتجدد وتعمل على تحقيق التنمية بكل ما لديها من قوة ثم يقابل ذلك تخريب من البعض. وتطرح مظاهر تخريب الممتلكات العمومية التي استفحلت بشكر ملفت الكثير من علامات الاستفهام حول الأسباب الكامنة وراء هذه السلوكيات المشينة والعدوانية التي لم يعد يسلم منها شيء حتى حاويات القمامة.

ظاهرة عابرة للمجتمعات

الوقت الضائع لفقدان استغلال المرافق العامة من شأنه أن يؤدي إلى عدم الرضا وعدم الثقة تجاه الإدارة الحضرية ورأس المال الاجتماعي
الوقت الضائع لفقدان استغلال المرافق العامة من شأنه أن يؤدي إلى عدم الرضا وعدم الثقة تجاه الإدارة الحضرية ورأس المال الاجتماعي

يعد التخريب ظاهرة عابرة للمجتمعات المعاصرة سواء كانت دولا متقدمة وصناعية أو دولا نامية. ويعرّف علماء الاجتماع التخريب بأنه تدمير طوعي متكرر ومستمر للممتلكات العامة. وظاهرة التخريب أو تدمير الممتلكات العامة هي ظاهرة اجتماعية “شريرة” يتم تعريفها في علم الاجتماع على أنها نوع من “المزاج المهووس”، ولا تعتمد على الجنس والعرق والجنسية والثقافة والدين والعمر والدرجة الأكاديمية ونوع الأسرة والمجتمع؛ ويمكن أن توجد في مختلف بلدان العالم.

ينقسم التخريب المتعمد إلى قسمين فردي وجماعي، وأغلب عمليات التدمير تتم من خلال التخريب الفردي الذي يلحق أضرارًا جسيمة بالمجتمع. وبناءً على الأبحاث التي أجريت في مختلف أنحاء العالم تبيّن أن أعمال التخريب يقوم بها الشباب دون أن يعرفوا أن هذه الممارسة تعد جريمة. ويعتقدون أن أفعالهم هي نوع من المزاح. وفي ما يتعلق بالتخريب تجدر الإشارة إلى أن المخربين يأتون من طبقات اجتماعية مختلفة ولا يقتصر الأمر على الطبقات الدنيا وغير المثقفة، فحتى المتسللون على شبكة الإنترنت يعتبرون مخربين. ومع ذلك فإن الخبراء الاجتماعيين لديهم مجموعة متنوعة من الآراء في ما يتعلق بحدوث هذه الظاهرة وأسبابها مثل المرض العقلي والنفسي والفقر الاقتصادي وانخفاض مستوى التعليم ومصاحبة المجرمين واضطراب الشخصية المعادية للمجتمع وانخفاض الذكاء والمشاكل التعليمية والعائلية والاجتماعية والثقافية.

وحددت دراسات ستة أسباب رئيسية تسهم في حدوث التخريب، أولها الانتقام من الظلم وحددت لها نسبة 38 في المئة، ويتمثل السبب الثاني في إثبات الذات والتباهي بنسبة 18 في المئة، والتسلية والترفيه بنسبة 14 في المئة، ومحاربة النظام الاجتماعي الحالي بنسبة 12 في المئة، والتسكع مع المخربين بنسبة 10 في المئة، والمطالبة بتبوّؤ مكانة مرموقة ضمن العصابة بنسبة 8 في المئة.

وفي العديد من الأبحاث خلص علماء الاجتماع إلى أن المخربين نشأوا في أسر غير منضبطة وبعيدا عن الأعراف الاجتماعية. وغالبًا ما يشعر هؤلاء الأفراد بالعجز ويظهرون مثل هذا الشعور بطريقة عدوانية ضد نخبة السلطة وجميع المؤسسات والمنظمات الموجودة في المجتمع. هؤلاء الأفراد بسبب عدم قدرتهم على التأقلم مع القيم السائدة في المجتمع ينفصلون عن مجتمعهم ويصبحون أعداء له. من ناحية أخرى يعد التخريب نوعا من السلوك الجماعي والعاطفي الذي يفتقر إلى العقلانية، وينتج في الغالب عن الالتزام السريع وغير المنطقي بأفكار المجموعة المنحرفة. في مثل هذه الحالة يتأثر الشخص المخرب بضغط الأقران ويشرع في التدمير للتماهي مع المجموعة.

ويقول الكاتب الياباني نوبوأكي نوتوهارا، في كتابه “العرب – وجهة نظر يابانية”، لقد فكّرتُّ طويلًا في ظاهرة تخريب الممتلكات العامة، وفهمت أن المواطن العربي يقرن بين الأملاك العامة والسلطة، وهو نفسيًا -في لاوعيهِ على الأقل- ينتقم سلبيًا من السلطة القمعية فيُدمر بانتقامه وطنه ومجتمعه بدلًا من أن يدمّر السلطة نفسها.

نوع من الاحتجاج

الأضرار الناجمة عن التخريب والتدمير جسيمة في معظم البلدان
الأضرار الناجمة عن التخريب والتدمير جسيمة في معظم البلدان

يؤكد المفكر والأكاديمي اللبناني مصطفى حجازي  الأمر بقوله “تلاحظ هذه الظاهرة في ظروف فوران المجتمع، يقبل المواطنون خصوصا الشباب منهم على تخريب وإتلاف التجهيزات العامة في الطرق (كسر إشارات الضوء، اقتلاع شجيرات الزينة، اقتلاع الحواجز على الأرصفة…) مع أن الفائدة المباشرة تعود عليهم قبل غيرهم”! مضيفا “إنهم في عملهم هذا يهاجمون رموز التسلط لإحساسهم بأن ما هو عام ليس ملكهم”!

والواقع أن الإنسان المقهور في المجتمعات المتخلفة يشعر بالغربة في بلده، يحس بأنه لا يملك شيئا، حتى المرافق العامة هي ملك للسلطة وليست مسألة تسهيلات حياتية له هو؛ ذلك أن الهوة كبيرة جدا بينه وبينها وأن ما يستحقه من خدمات تقدم له -إن قدمت- كمنة أو فضل لا كواجب مستحق. هذا الإنسان عندما يخرب المرافق العامة فهو قبل كل شيء يعبر عن عدوانيته تجاه المتسلط.

ويتحدث حجازي عن البنية النفسية للإنسان في مجتمعات العالم الثالث، ويدور حديثه عن الإنسان في العالم المتخلف (إنسان العالم الثالث) بشكلٍ عام، ويستقي مادته من واقع الإنسان اللبناني خاصة والعربي عامة، مشيرًا إلى أن ذلك لا ينطبق على كل لبناني أو كل عربي، فهناك خصائص نوعية في كل حالة، لكنها لا تمنع محاولات النظر في إمكانية التعميم.

ويظهر التخريب كوسيلة دفاعية تجنب إنسان العالم الثالث تراكم التوتر النفسي وتفاقم الحقد الداخلي. فيفرغ هذا التوتر ويقضي على خطر الغليان الداخلي بتصريف الحقد: إنه العنف الذي يتخذ معنى التغيير الفعال ويصبح السلاح الأخير لإعادة الاعتبار للذات، ويصير هذا العنف لغة التخاطب الوحيدة الممكنة مع الآخرين حين يحس الفرد بعجزه عن إيصال صوته بوسائل الحوار العادي، وحين تترسخ لديه فكرة أنه فشل في إقناعهم بالاعتراف بكيانه وقيمته. والعنف هو الوسيلة الأكثر شيوعًا لتجنب العدوانية التي يشعر بها الإنسان المقهور نحو ذاته بسبب فشله، من خلال توجيه النزعة العدوانية إلى الخارج بشكل مستمر أو دوري كلما تجاوزت حدود الاحتمال الشخصي.

وفيما يظل المتسلط يغرس في الإنسان المقهور قيم الجهد والإنتاج والعمل المضني ليكون أداة تخدم أغراضه، نجد الإنسان المقهور يبذل الحد الأدنى من الجهد لتيقّنه من أن كل هذا لن يغير وضعه، ولأنه يئس من إمكانية الارتقاء بوضعه وتحسين مصيره من خلال جهده الخاص، لذا تشيع أساليب مثل الرشوة وغيرها من الطرق الملتوية في الإثراء بشكل مريع.

وبالإضافة إلى كسل الأشخاص العدوانيون هناك أساليب عدوانية أكثر صراحة هي تخريب الممتلكات العامة (كسر الإشارات، اقتلاع شجيرات الزينة، اقتلاع حواجز الأرصفة…). ورغم أنها تعود عليهم هم بالنفع إلا أنهم هنا يهاجمون رموز المتسلط لإحساسهم بأن ما هو عام ليس ملكهم، فالإنسان المقهور يشعر بالغربة في بلده.

ويحاول حجازي فهم العنف في المجتمعات المتخلفة والنظريات التي تفسره، مؤكدًا أن العدوانية والعنف ينخران بنية المجمع رغم مظاهر السكون والسلم، حيث يظل العنف لحظة انفجار الحقيقة الكامنة في بنية التخلف؛ فالإنسان المقهور في حالة تعبئة نفسية دائمة استعدادًا للصراع. يبدو ذلك على محياه وفي حركاته، ولأقل الأسباب ينفجر سيل من السباب ويتدهور الخطاب اللفظي إلى المهاترة والتحدي والوعيد والعنف اللفظي، وينهار التفكير المنطقي، وتطغى الانفعالات وتشل القدرة على تفهُّم الآخرين، وأحيانًا ينفذ التهديد ويحدث الاشتباك باستخدام العضلات أو السلاح، ذلك لأن هناك إحساسًا دفينًا بانعدام فاعلية الحوار.

إن عالم الإنسان المقهور -كما يقول حجازي- هو عالم ذئاب لا يوجد فيه من يضمن له حقه، “إنه متروك لنفسه كي يتدبر نفسه” وعليه أن يحافظ على هذا الحق بالاحتيال أو بالتقرب من ذوي السلطة والنفوذ أو بالعنف والصراع، عليه أن يظل يقظًا طوال الوقت ويتحول الآخر إلى مصدر تهديد أو خطر على الذات.

أضرار جسيمة

ممتلكات عامة وليست ممتلكات السلطة
ممتلكات عامة وليست ممتلكات السلطة

تعد الأضرار الناجمة عن التخريب والتدمير جسيمة في معظم البلدان. وفي كل عام يتم إنفاق ميزانيات عامة ضخمة على إصلاح الأشياء والمعدات التي تضررت جراء عمليات التخريب. ويتوجه التخريب بشكل أساسي إلى شركات النقل وقطاع التعليم والتدريب والأماكن الرياضية وما شابه ذلك. وهذا من شأنه أن يتسبب في خسائر فادحة ويؤدي إلى هدر الأموال العامة ورأس المال الوطني.

تعتبر الخسارة الاقتصادية من أهم وأبرز أضرار التخريب، وفي كل عام يتم إنفاق جزء كبير من ميزانية الدول على إصلاح وترميم المعدات المدمرة. وبالإضافة إلى تكبد الكثير من التكاليف الاقتصادية قد يُحرم المواطنون من المرافق العامة لفترة طويلة حتى تتم إعادة المعدات العامة من مراكز الإصلاح والترميم ويمكن للمواطنين استخدامها مرة أخرى. هذا الوقت الضائع لفقدان استغلال المرافق العامة من شأنه أن يؤدي إلى عدم الرضا وعدم الثقة تجاه الإدارة الحضرية ورأس المال الاجتماعي.

أما البعد النفسي فهو نتيجة أخرى للتخريب؛ فتشويه المناظر الطبيعية الحضرية يؤدي إلى تدمير معنويات المواطنين، ويولد لدى المخربين المزيد من الدوافع لزيادة الدمار.

ومنع حدوث مثل هذه الظاهرة في المجتمعات يتطلب إجراءات تتعلق أساسا بالتنشئة الأسرية وتنمية الوعي الاجتماعي وزيادة المشاركة في المجتمع والاستخدام الدقيق للمساحات المحتملة المعرضة للتخريب، وزيادة المراقبة الاجتماعية وإعادة تصميم التخطيط الحضري من أجل الاستخدام السليم للمساحات والاهتمام بالتجميل والجماليات الحضرية والتخطيط الجيد لبناء المساحات والهياكل الحضرية.

20