ثلاثة فنانين سوريين يشكّلون من الأيدي ملهاتهم الفنية

أكف تستدعي الحياة وتصد جحيم العدم في أعمال وجودية.
الجمعة 2021/08/27
العين واليد في أعمال نور أصاليا وجهان لحاسة واحدة

ثمة دراسات عديدة نشرت حول الألم في الفن وحول كيفية تحوّله إلى جسر عبور غرائبي نحو الحياة ونحو تبجيلها. ولعل هناك عدد لا يحصى من الفنانين المعاصرين العرب، لاسيما عراقيين ولبنانيين وسوريين وفلسطينيين وأردنيين ممّن اتكأوا على الفن كي تستمر الحياة، حياتهم بشكل خاص والحياة بوجه عام، قابلة للعيش بالرغم من الانكسارات.

في عالم يغوص أكثر فأكثر في الابتعاد عن تماس الروح مع الجسد والقناعة بأن نجاة الأول مرتبطة عضويا بنجاة الثاني والعكس بالعكس، يبرز ثلاثة فنانين سوريين يختلفون اختلافا شديدا، إن من حيث التعبير الفني أو من حيث الخبرة الفنية، وهم الفنان التشكيلي السوري الراحل منذ بضعة سنوات عمر حمدي والمعروف بـ”مالفا” والفنانة المتعددة الوسائط نور أصاليا والفنانة التشكيلية المتنوعة التجارب الفنية نغم حديفة.

ضرورة الفن

اليد ترى وتسمع وتتكلم في لوحات نغم حديفة، كأنها كائنات تنطق بأحوالها كما تفعل الوجوه في اللوحات التشكيلية

هؤلاء ليسوا الوحيدين، ولكنهم ربما من أهم الفنانين التشكيليين العرب الذين تجسّدت بالنسبة إليهم استمرارية الحياة بالمعنى المطلق عبر استمرارية الممارسة الفنية، إما في حالة التماس مع خطر التأذّي الجسدي/ الشخصي أو في تواطأ مع الجسد المتألم كحالة وجودية لا تحتاج مسببات خارجية لتحدث، وهي جزء لا يتجزأ من طبيعة الحياة البشرية.

جاءت الحروب والانتفاضات وحل الموت والتشرّد والتهجير والجراح الجسدية والنفسية التي لا تحصى، وذلك منذ أكثر من عشر سنوات، وساهمت هذه التجارب في خلق إبداع فني لصيق بالتجربة الحياتية ومُرتبط ببيئته الجغرافية حتى وإن غادر عدد من الفنانين، أصحاب النصوص البصرية اللافتة، بلادهم بسبب تلك الظروف القاهرة.

وما يلفت في تجربة الفنانين الثلاثة دور اليدين وحضورهما في العمل الفني وذلك في حالتين: إما عبر كونهما موضوعا شائكا في اللوحات، أو عبر كونهما أدوات الفنان العضوية/ العارية والمباشرة في التعامل مع الألوان إصرارا على تحقيق الحياة بالرغم من الموت الذي تسبّبه لصاحبها، أي للفنان.

تنطبق الحالة الأولى على الفنانتين أصاليا وحديفة بالرغم من الاختلافات في الأساليب الفنية والرغبة في التركيز على معنى دون الآخر.

أوجدت الفنانة أصاليا اليدين كأبطال في لوحات الحياة وفي جحيم الوجود لترمزا إلى الإنسان برمته. أياد جمّدتها الفنانة فيما يشبه مُختبرا تفوح منه رائحة الموت.

أعمال كغيرها من أعمالها التي تجسّد أجزاء أخرى من الجسد كالوجه والعينين تغوص في متاهات التعبير عن الجسد ليس الموجوع كما في حالة لوحات الفنانة التشكيلية السورية سارة شمّة، ولكن في حالة كونه الوجع بحد ذاته وقد أصبح بردا وخدرا: حالة عادية ليست شاذة بل من صلب الحياة. حالة لا خلاص منها إلاّ في اندثارها، أي اندثار الحياة بالمعنى المباشر للكلمة.

“مالفا” ونور أصاليا ونغم حديفة تجسدت استمرارية الحياة لديهم بمعناها المطلق عبر استمرارهم في ممارسة الفن

وتحضر في بعض هذه اللوحات خطوط كلسية سلسة تشبه الخيوط التي تستخدم في تقطيب الجروح في العمليات الجراحية لتبدو كأنها تخنقها أكثر ممّا ترمّمها.

تجربة الفنانة أصاليا مع الطبيعة العضوية للحياة بدأت باكرا جدا حين كانت تراقب اهتمام والدها بعالم النبات والحشرات وبكل ما تشمل من تفصيل وتعقيد هو “ببساطته” الطبيعية مثار للفضول وللتقدير.

لاحقا في أعمالها الفنية، ولاسيما في أعمالها الأخيرة، حضرت تفاصيل الجسد الإنساني والحيواني وكأنها دراسات علمية دسّت فيها الفنانة دسامة حسية، ومعنى فلسفي تارة وعلمي/ حيادي تارة أخرى تخطيا في كلى الحالتين محدودية حضورهما أمام عين المُشاهد، ليصيرا شذرات من أزمات تتعلق بمعنى الوطن وماهية الهوية ومعنى الترحال في وعبر تفاصيل الجسد المُفكّك الذي غادرته الحياة.

اليد التي أوجدتها الفنانة في أكثر من عمل فني يمكن أن تكون لرجل أو لامرأة، لذلك برز معنى الإنساني المُطلق والمُجسد في منطق أعمالها.

إصرار على الرسم

"لا تقتل" لوحة الألم الممزوج بالألم للفنان الراحل مالفا
"لا تقتل" لوحة الألم الممزوج بالألم للفنان الراحل مالفا

أما الفنانة حديفة فتحضر اليدان حينا والكفان الواقيان حينا آخر في لوحاتها دون أن يختلفا في تعبيرهما عن الإنسان الذي ينتميان إليه، مجهولا كان أو معلوما.

ويحضر الجرح من خلال الكفّ/ اليد جليا في نزاعاته مع العالم الخارجي المُتمثل بمشحات وضربات لونية تشبه رياحا لونها أبيض كلسي يوحي بالثقل وبقدرته على خنق ما يصول من حوله من أجواء وتفاصيل، وليحضر أحيانا مُلطخا بأحمر الدم.

رسمت القفازات وكأنها “تشخيص” لملامح إنسانية ولمشاعر وأفكار وبيانات رمزية مُلتبسة، قدّمت ذاتها على أنها الوسيط التعبيري المُستخدم والمُعبّر عنه في الآن ذاته.

شيء ما في الكفوف التي رسمتها يجعل المُشاهد يميل إلى رؤيتها على أنها كائنات حية ترى ما يجري من حولها. كائنات تنطق بأحوالها كما تفعل الوجوه في اللوحات التشكيلية.

وجوه الفنانة حديفة تلك هي وجوه “سليكونية” تشبه وجه/ يد ما قدّمته الفنانة أصاليا في مجسم من مادة الريزين ليد كأنها تعاني من القيح كما يمكن للروح أن تعاني من آلام.

كما في أعمال الفنانة أصاليا، الكف أو اليد هما أيضا أبطال في لوحات حديفة: أياد ترتدي كفوفا بيضاء كلباس عضوي ملتصق بها. تتمشّى وتتفاعل مع القفازات الأخرى بدرامية غرائبية وفي وضعيات تحركاتها والتواءاتها.

اليد تقول في لوحاتها “سأظل أرسم رغم التسمّم الذي أصاب أصابعي ورغم التنبيهات الطبية، وسيكون الكف الواقي حليفي وسبيلي إلى التعبير حتى ‘يصيّرني’ هذا الكفّ ليكون هو المعني الأول والأخير بالتعبير”.

الفنان التشكيلي السوري الراحل “مالفا” صاحب اللوحات التعبيرية القصوى كانت له علاقة مختلفة مع “يديه”. فهو لم يرض أن يغلفهما بقناع يخنقهما لكي يحميهما من المواد التلوينية التي حدث أن امتزجت بروحه منذ أن حمل ريشة ألوانه الأولى. كما لم يرض بأن يبتعد عن مرسمه كما نصحه طبيبه الذي أخبره أن احتكاكه المباشر مع هذه الألوان والتعرّض لأبخرتها سبّب له مرض اللوكيميا.

رحل الفنان عن هذه الحياة وهو منهمك برسم لوحته الشخصية التي لم يتح له المرض إنجازها لأنه لم يتح، هو، للألوان أن تأخذ بضع خطوات إلى الوراء، بعيدة عنه وعن جسده المُرهق.

اليد ترى وتسمع وتتكلم في لوحات نغم حديفة
اليد ترى وتسمع وتتكلم في لوحات نغم حديفة

 

17