زلماي خليل زاد يحمل بين يديه إخفاقين، العراق لإيران وأفغانستان لطالبان

لندن – كان الاعتقاد السائد حتى وقت قريب، أن شخصا من البيئة ذاتها التي تندلع فيها النزاعات، سيكون الأقدر على حلحلة استعصاءاتها وتقريب وجهات النظر، وفي نهاية المطاف “جلب السلام” إلى مناطق التوتر والحروب الأهلية. لكن تجربة المبعوث الأميركي زلماي خليل زاد، الملقّب في أروقة واشنطن بـ”الملك زاد”، المكرّرة في العراق وأفغانستان تقول العكس.
سنوات قضاها خليل زاد في العمل الدبلوماسي والمفاوضات وتجريب الوصفات السحرية، إلا أنه ومنذ أن سيطرت طالبان على العاصمة كابول، اختفى تماما ولم يعد يسمع له أحد صوتا، بينما تقول المعلومات إنه يقيم حاليا في الدوحة بعيدا عن الأنظار.
الدبلوماسي البشتوني الذي ولد في أفغانستان، قبل أن يصبح أميركيا، شق العنان حين تولى أعلى منصب يصل إليه مسؤول أميركي مسلم، قبل أوباما بالطبع، حين تم تعيينه سفيرا لواشنطن في الأمم المتحدة في عهد الرئيس جورج بوش الابن. ثم لم يعد أحد يتذكّر أي أثر له في الفترة التي شغل فيها ذلك الموقع.
في ظلال ديك تشيني
في مدينة مزار الشريف وفي العام 1951 ولد خليل زاد، لأب كان يعمل في خدمة الحكم الملكي الأفغاني، ولذلك فقد مكّنته وظيفته من الانتقال إلى العاصمة كابول والعيش بين الطبقات الراقية. فأرسل ابنه في برنامج للتبادل الطلابي مع الولايات المتحدة، ولم يعد. بل بقي أميركا ثم سافر للدراسة في ما كانت تُعرف آنذاك بسويسرا الشرق، بيروت، وفي الجامعة الأميركية التي انطلق ثانية منها إلى شيكاغو للحصول على الدكتوراه في العلوم السياسية نهاية سبعينات القرن الماضي.
وفي تلك السنة تحوّلت أفغانستان إلى أكبر نقطة توتر في العالم حين غزاها الجيش الأحمر السوفييتي. فلم يعد ممكنا لخليل زاد العودة إلى بلاده في أجواء الحرب ومخاطرها، فاستقر في أميركا.
في الولايات المتحدة عمل خليل زاده كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في جامعة كولومبيا، ومديرا تنفيذيا لأصدقاء أفغانستان “مجموعة دعم للمجاهدين الأفغان”. ومن تلك اللحظة والتشويش يضرب عقل أستاذ العلوم السياسية، حين كان يعتقد أن الوسيلة الوحيدة لمحاربة القوة الروسية الغاشمة هي قوة متطرفة غاشمة، ولم يدر بأن تلك القوة ستكبر حتى تلتهم أفغانستان وتمتد نيرانها إلى غيرها.
خليل زاد هو واحد من تلك المجموعة من الهامسين في أذن الرئيس الراحل رونالد ريغان الذين أقنعوه بدعم المجاهدين الأفغان سياسيا وعسكريا وفتحوا أمامهم الأبواب للقائه
منذ تلك اللحظة مضى خليل زاد في مشروع الرؤية الأميركية لأفغانستان، ماحيا دوره الشخصي في تقديم الخيارات واستشراف الغد، فتحول من باحث وأستاذ إلى منفْذ للسياسات، وموظف لدى الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض، سواء أكانت جمهورية أم ديمقراطية.
قادته خطاه من دعم المجاهدين إلى العمل في قلب المختبر السياسي الأميركي، وزارة الخارجية، أواسط الثمانينات، حين كان مستشارا لشؤون الحرب العراقية الإيرانية فوق مهماته كمعني بالغزو السوفييتي لأفغانستان. وهو ابن تلك المجموعة من الهامسين في أذن الرئيس الراحل رونالد ريغان الذين أقنعوه بدعم المجاهدين الأفغان سياسيا وعسكريا وفتحوا أمامهم الأبواب للقائه. ويا لها من فكرة سيدفع خليل زاد وبلاده ثمنا باهظا لها قبل أن تدفع الثمن ذاته نيويورك في مطلع الألفية.
ليونة خليل زاد جعلته قادرا على المرور من حقبة ريغان الرامبوية، إلى حقبة جورج بوش الأب ليصبح سكرتيرا ثانيا لمساعد نائب وزير الدفاع الأميركي للتخطيط السياسي. ثم حلّقت به ليختاره الرئيس الأسبق بيل كلينتون كخبير سياسي بارز في معهد راند في واشنطن.
لو لم يكن خليل زاد قابلا للقيام بأدوار كالتي صبغت مساره، لما اختاره صاحب الأيدي السوداء ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي ليكون ضمن فريقه، وفريق وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، في أحلك الفترات من تاريخ السياسة الأميركية حيال الشرق الأوسط، وزمن احتلال العراق.
جميع مناصب خليل زاد جعلته يقترب أكثر فأكثر إلى الحدث، والمناطق المشتعلة التي درسها بعناية بحكم تفاعله مع الساسة من كل اتجاه وجنسية، وهذا سهّل عليه تقديم خبراته كمساعد خاص للرئيس والمدير الأول في مجلس القومي الأميركي لشؤون الخليج العربي وجنوب غرب آسيا.
حتى جاءت لحظة الحقيقة، وأصبح خليل زاد سفيرا لواشنطن في أفغانستان، بعد غزوها من قبل الأميركيين، فلمع نجمه، وقالت عنه الوزيرة كونداليزا رايس إنه “يملك مقدرة واضحة في التوفيق بين الآراء المتناحرة وفي تحقيق نتائج في طل أوضاع صعبة” رغم لسانه الذي يوصف بأنه “غير دبلوماسي” وتسبّب له بإشكالات مع زعماء دول عديدين. ولن يكون مستغربا بعد هذا كله أن توصل خليل زاد أقداره ليدير شركة “يونوكال” النفطية الأميركية العملاقة.
رحلة خليل زاد في أفغانستان بدأت بتأسيس نظام الحكم الجديد، بعد انتصار أميركا على طالبان والقاعدة، فأنشأ حكومة جديدة، وقاد جهود إعادة الإعمار وأشرف بنفسه على أول انتخابات رئاسية أجريت آنذاك.
بدأ أن الرجل يعيد بناء أفغانستان التي في ذهنه لا التي يريدها الجميع، أفغانستان تحكمها الكارازيات المرتبطة بخيوط تقبض على أصابع اللاعب الأميركي. فإن انقطعت تلك الخيوط انهار الحكم وشخوصه، وهو ما سيحدث لاحقا أمام أنظار العالم.
مهندس الخراب مع سليماني

لم يتكتّم خليل زاد على تجربته ومراراتها حين عيّن سفيرا في العراق بعد الغزو أيضا، لكنه أفصح عنها “بعد خراب البصرة” حرفيا، في كتابه “السفير من كابول إلى البيت الأبيض عبر عالم مضطرب” الذي تحدث فيه عن أدق التفاصيل التي شابت عمله، منذ أن تم تعيينه مبعوثا أميركيا خاصا إلى ما عرفوا باسم “العراقيين الأحرار” والتي كانت تعني آنذاك “المعارضة العراقية في الخارج”.
كشف خليل زاد عن المخطط الإيراني الحثيث للسيطرة على العراق من خلال الأحزاب الشيعية التي دعمتها إيران بقوة، وروى كيف كانت علاقته مع قاسم سليماني قائد “فيلق القدس”، والذي قال إن من رتّب العلاقة معه كان الزعيم الكردي الراحل جلال الطالباني، الذي شغل منصب رئيس الجمهورية لاحقا، وفي ذلك الوقت وجّه سليماني رسالة تهديد إلى خليل زاد.
يقول خليل زاد إن إيران “لم تكن تعارض العنف الذي كان يدفع العرب الشيعة إلى الاحتماء بها، فتقوم باستغلال العنف المتنامي في العراق لإفهام العرب الشيعة بأن علاقتهم معها ضرورية لبقائهم”، وتعمل في الوقت ذاته على ترويض “العرب السنة كي لا يتمكن هذا المتجمع من رفع رأسه مجددا”.
في تلك الأيام أمرت إيران فيلق القدس بتنفيذ عمليات قتل مستهدفا شخصيات سياسية وضباطا سابقين في النظام القديم، ويضيف خليل زاد “ذلك العنف الذي كان يدفع العرب الشيعة للاحتماء بها، وقد بدت عازمة على إبقاء العراق في حالة كافية من عدم الاستقرار لردع أو منع الولايات المتحدة من القيام بأي عمل ضد إيران”.
إيران كما يقول خليل زاد لم تكن تعارض العنف الذي كان يدفع العرب الشيعة للاحتماء بها، فتقوم باستغلال العنف المتنامي في العراق لإفهام العرب الشيعة بأن علاقتهم معها ضرورية لبقائهم"، وتعمل في الوقت ذاته على ترويض “العرب السنة كي لا يتمكن هذا المتجمع من رفع رأسه مجددا"
قامت إيران حسب خليل زاد، بتمويل وتسليح ميليشيات عربية شيعية، و”سمحت بحركة عملاء القاعدة عبر أراضيها، ولم تكفّ يوما عن محاولة تقوية الأحزاب الإسلامية الشيعية التي كانت جميعها موجودة في إيران خلال حكم صدام”.
وهو يعترف، أو يحاول الظهور بصورة من يفعل، إنه كان يريد أن يمنح العرب الشيعة بديلا عن إيران، وكان ذلك حسب اعتقاده يحتاج إلى مصالحة مع السنة، ويختم بالقول إن هذا كله كان بهدف “إقناع جيران العراق من العرب بقبول الشيعة العراقيين كإخوة عرب لهم”.
هذه الكلمات تعكس بالضبط كيف فكّر هذا المستشرق الشرقي، الذي تقمّص شخصية الأميركي الجاهل بعوالم الشرق، معتبرا أن الشيعة العرب والسنة العرب في حالة عداء مسبق، وأن الأمر يتطلب عمليات معقدة لتصحيح هذا الوضع.
فما الذي فكّر خليل زاد بفعله في مواجهة هذا الوهم؟ لم يكن أكثر من تقديم خطّة لسليماني نفسه، من يشعل نيران الفتنة بين الفريقين من العرب، والأكثر من ذلك أن خليل زاد يشتكي من أن سليماني رفض الخطة. ويقول “فهم الإيرانيون لعبتي، فبعد وقت قصير من انتخابات ديسمبر، التقى الطالبني بسليماني، وهو قائد فيلق القدس، الفيلق المسؤول عن الحرب غير التقليدية والعمليات العسكرية التي كانت إيران تقوم بها.
قال سليماني المسؤول عن السياسات الإيرانية في العراق لمحاوره العراقي إنه فهم ما كنت أحاول فعله ولن يسمح بنجاحه، كما حذر الطالباني من عواقب خطيرة على العراق، وعلى مجموعات عراقية محددة إذا ما تعاونت مع خطتي”. ويزيد على ذلك بالقول “علمت لاحقا أن سليماني كان يقول متبجحا إن خليل زاد بشكل خاص، هو أسوأ شخص في العالم”.
من يسمع كيف يصف خليل زاد المسؤولين الإيرانيين الذين كان يتواصل معهم، سيشعر بأن هذا الرجل كان سفيرا لجمهورية من جمهوريات الموز، أو دولة صغيرة في مجاهل أفريقيا، وليس سفيرا للولايات المتحدة القوة الأعظم في عالم اليوم. يقول “بدا لي أنهم (الإيرانيون) كانوا يعاملون العرب الشيعة العراقيين كأناس يمكن التضحية بهم، كنت أقول أحيانا للقادة الإسلاميين الشيعة المقربين من إيران إن طهران كانت تريد تحويل العراق إلى خراب محترق كي تتمكن حينئذ من السيطرة عليه بسهولة ويسر”.
وبعجز مثير، يشكو خليل زاد من السلوك غير المنضبط الذي لمسه لدى النظام السوري، في تشجيع العمليات الإرهابية وزعزعة استقرار العراق، بتصدير الجماعات المتطرفة عبر الحدود، ويقول “سمحت سوريا لقادة بعثيين سابقين ومتمردين بإقامة مراكز لهم في دمشق، وكان المتطرفون الشبان يأتون إلى مطار دمشق بواسطة تذكرة أحادية الوجهة ودون أمتعة، وكان في انتظارهم ممثلون عن منظمات متمردة، وبعد ذلك كانوا ينقلون من منزل آمن إلى منزل آخر، إلى أن يتم تهريبهم عبر الحدود العراقية”. فأين كان الأميركيون حينها عن تلك الأحداث؟
طالبان وحصة الأسد
في العراق اكتشف خليل زاد، كما يقول، تلك العلاقة الوثيقة التي تربط ما بين إيران والأحزاب الشيعية، واكتشف معها أيضا علاقة إيران بالقاعدة، التي نسبت إليها إيران تفجير المراقد الشيعية في سامراء، وفي الوقت ذاته كانت تدعمها بكل ما تستطيع. تأكد خليل زاد أن إيران تؤوي عناصر القاعدة، وكان يحاول الحديث، كما يزعم التحدث مع الأحزاب الشيعية العراقية، للتوسّط مع الإيرانيين حول ذلك، لكن الرد الإيراني كان بتشجيع القاعدة على تنفيذ عمليات في الرياض.
أما في الضفة الأخرى، حيث إدارة الرئيس بوش، فقد كان خليل زاد يعاني، على حد وصفه، من وجود سياستين متناقضتين في واشنطن، فهي “تهاجم إيران علنا وترفض التحدث مع الإيرانيين، ولكنها في الوقت نفسه لم تكن مستعدة للتصدي للأنشطة الإيرانية في العراق”.
يحاول خليل زاد تبرئة ذاته، لكن مساره لاحقا في العلاقة مع طالبان التي أوصلها إلى بسط سيطرتها على أفغانستان، والمشهد المخزي لخروج الولايات المتحدة ودول التحالف وتساقط المدنيين الهلعين من الطائرات الأميركية كلها في رقبة هذا المهندس الذي لا يسمع له أحد صوتا اليوم. بعد أن قال قبل ثلاثة أسابيع فقط وعشية سقوط المدن والمناطق بيد طالبان إن الحركة تطالب في محادثات السلام التي تدعمها الولايات المتحدة “بحصة الأسد من السلطة” في أي تسوية سياسية. وكان يعرف ما يقول آنذاك.
