رسومات سورية يختلط فيها الكابوسي بالحلم المُبلسم

قدّمت صالة “ميسيون دار” اللبنانية مؤخرا معرضا جديدا للفنان التشكيلي السوري عمران يونس، حيث توقّع كل مُطلع على عالم الفنان الكابوسيّ أنه سيرى المزيد من اللوحات المسكونة بتلك الآلام البشرية/ الدموية والفجّة التي لم تهدأ، غير أن زائر معرضه الجديد “قصة الصبّار” تعرّف هذه المرة على عالم ليس بجديد بقدر ما هو وليد عالمه الموغل في الكآبة بصيغة أقل سوداوية.
عرض الفنان التشكيلي السوري عمران يونس خلال الصيف الحالي لوحات جديدة حملت عنوان “قصة الصبّار” احتضنتها صالة “ميسيون دار” البيروتية على امتداد شهر كامل.
معرض أتى في توقيت خاص واستثنائي جعل منه حالة وجودية/ بصرية تعكس الحالة اللبنانية بامتياز، حيث لا حرب ولا صراعات، بل صبر يكاد أن يكون لاإنسانيا ليس فقط لشدّته، بل لأنه مقترن بسكون، لا بل “بخدر” شعب ينتظر فرجا عجائبيا ما دون أن يحرّك ساكن.
صبّار يُعاند الموت
من المعروف عن الفنان عمران يونس أنه ينتقل في موضوعاته الفنية من موضوع إلى موضوع، وهو رهن التبدّلات التي يعيشها وطنه وزمنه على السواء دون أن تكون تنقلاته تلك خارج أسلوبه الفني المجبول بالجمر والمختنق جرّاء الآفاق الموصدة.

الفنان السوري يتخلّى في معرضه الجديد عن سوداويته الموشحة ليفسح المجال لصبّاره للتعبير عن صموده الملهم
وقد قدّم في معرض سابق له في بيروت مثالا مكثفا عن ماهية عالمه الفني وكيفية تطوّره، حيث أثبت الفنان أنه خرج من آتون مُرمّد، بأشكال ذائبة اكتسحت لوحاته وصارت مشحونة بحياة تُعاند الموت بشراسة، أو تنطلق كالصواريخ من أرض الانبعاث/ الموت.
اليوم تأخذ هذه المنبعثات أشكال الصبّار أو مقوّمات “شخصيته”، إذا صحّ التعبير، من حيث قدرته على مقاومة العطش وعلى العيش في ظروف بيئية صعبة، وأيضا من حيث قدرته على تأمين ظل نافع لباقي النباتات التي تجاوره وتقاتل لكي تحيا.
لوحات كثيفة لونيا، فيها صلابة وطراوة في آن واحد وتخلو من الحضور الإنساني إلاّ من خلال إيحاءات تذوب أطرافها في الخلفيات اللونية. ويخفت بشكل كبير التعبير الفجّ في اللوحات عن الواقع المأساوي وعن تأكيد رسوخ ملامحه وجذوره، إذ أسعفها ألق الصبّار الباطني وأزهاره الواعدة بما تحتاج لكي تبقى نضرة.
وقد عبّر الفنان عمّا يعنيه الصبّار بهذه الكلمات “الصبّار يدعو كل شيء للصراخ، وهذا يُظهر أنه حتى الأرض تأخذ حصتها العادلة من الدمار. لا شيء محصّنا، الحروب تطال كل شيء. لكن للصبّار رمزية عالية، فهو لا يُقاوم فقط لحماية ذاته، إنما يشكّل أيضا سياجا واقيا لنباتات أكثر رقة، يحتضنها كما تحتضن الأم أطفالها. أرسمُ الصبّار كما هو الحال بالنسبة إلى أي شيء أرسمه، كما أرسم وجوه الناس وهي تصرخ. يُظهر هذا تعقيد الحياة: جميلة ومريعة، صلبة وحسّاسة”.
ربما تلك النبرة المُخفّفة للمأساة في لوحاته الجديدة ليست إلاّ تظهيرا لتكيّفِِ تعلّمَه الفنان ووجده في الآخرين الذين يشاركونه هذه البيئة المتطلبة والصعبة جدا. هذا التوجه نراه أيضا في كلمات قالها سابقا وتختصر جانبا من نظرته إلى طبيعة الحياة، إذ قال “العنف ليس خيارا. العنف حالة مفروضة علينا، والطريقة التي يُفرض بها علينا تحدّد شكل مقاومتنا له. أنا أواجه العنف بالرسم، عملي الفني هو سلاحي في هذه المواجهة”.
لم يبارح الفنان السوري تماما الأجواء التي تميل إلى الكآبة وإن رسم الخضرة أو النبات في لوحاته كما رسم صبّاره في هذا المعرض ناميا من الأرض، أو كحالة رمزية تعبّر عن الثبات والصبر والسكون الذي يصل في أكثر من لوحة حتى درجة الماسوشيستية تفشّت في أرجاء لوحته التواءات وانحناءات في الخطوط شبيهة بتشنجات عصبية وعضلية.
سيرة صمود وحياة

كما في كل معرض سبق وأقامه الفنان، يظهر “قديمه” وقد وصل إلى لوحاته الجديدة إن كتفصيل أو كعنصر أساسي. وهذا ما جرى تماما في معرض “قصة الصبّار” فقد حضرت بعض التفاصيل البارزة في لوحاته السابقة وصارت هي موضوع اللوحات: مشاهد يصعب تصنيفها بالـ”طبيعية” لكثرة ما هي مُحملة بالرموز وناطقة بما عرفته من مآس تخطّت مآسي الحروب لتصبح انعكاسا تراجيديا لأزمة وجودية عميقة صامدة في وجه الألم. تراجيديا امتدت منذ بداية الحرب السورية حتى نهايتها (هذا إذا كان لأي حرب عصرية في بلاد الشام نهاية لا تتناسل جراحا وخيبات).
الفنان لا يزال يعيش من خلال فنه أحلامه الكابوسية وإن بصيغة مُخفّفة كما عاش الحرب السورية على أرض الواقع. هو في معرضه الجديد يستعرض كما يعيش أمام ذاته وأمام الآخرين إفرازاتها السامة والمُبلسمة في آن واحد.
العلاقة العضوية بين ما قدّمه الفنان في معرضه السابق وهذا المعرض تكاد أن تكون دليلا مثاليا عن كيف يكون الفن التشكيلي سيرة شخصية ليس في “القصص” التي يسردها، بل في أجوائها اللونية وتشكّل خطوطها وأشكالها.
ففي معرضه الجديد تخلى الفنان عن شفراته/ ضرباته التي انهالت على حامليها وضحاياها في آن واحد. وكما كان متوقعا لها حينها، ذابت تلك الشفرات في سكون لوحاته العميقة الحالية، حيث حتى النسمات باتت ثقيلة بالكاد تحرّك “الأخضر” الغامق في لوحاته والذي قصد منه النبات.
ولعل أجمل لوحة وأكثرها تعبيرا عن كيفية رؤية الفنان للصبّار وكيف أنه انتشر في باقي لوحاته أعمالا تجريدية ليست هي إلاّ المادة العضوية التي يتآلف منها، هي اللوحة التي رسم فيها يونس الصبّار بالأسود والأبيض. بالرغم من أنها الأكثر وضوحا من حيث ملامحها، إلاّ أنها الأكثر غموضا في مضمونها لأن الناظر إليها يستطيع أن يرى كل ما يجسّده الصبّار من وجوه بشرية وعين ساهرة، ورياح أثيرية وتجاعيد، وانبثاق لبراعم وثبات الوحدة في أرض موحشة.
وولد الفنان السوري عمران يونس في الحسكة العام 1971، وهو خريج كلية الفنون الجميلة في دمشق ويقيم حاليا فيها، وقد حصل على العديد من الجوائز بعد بروز أعماله في معارض عديدة في الشرق الأوسط والولايات المتحدة، خاصة الجائزة الأولى في المسابقة السنوية الثالثة للشباب في دمشق. أعماله مقتناة اليوم في العديد من الدول العربية والعالمية، كالأردن، لبنان، البحرين، العراق، الإمارات، فرنسا، سويسرا وإسبانيا.