الحوادث المرورية صورة عن مجتمعات عربية مستهترة

ابتليت الدول العربية بالقيادة المتهورة على الطرق السريعة، إذ تتنقل السيارات عبر الممرات بسرعة تزيد على مئة ميل في الساعة إلى درجة يعتقد فيها أن المركبات المحطمة في حوادث الطرقات قد دمرت بفعل قنبلة. وتسجل الدول العربية أعلى المعدلات عالميا في حوادث الطرقات نتيجة لغياب قيم التحضر وعدم التقيد بالقانون عند السائقين المتهورين.
لندن - قال سامي (35 عاما) “ظننت أنها النهاية حقا حينما تعرضت إلى حادث سير جعلني أخسر يدي اليمنى، ظننت أن الحياة ستتوقف لبعض الوقت من أجلي، ولكن لم يحدث هذا على الإطلاق لم أستطع الجمع بين فقد يد من يداي وفقد جزء من تفاصيل حياتي؛ كيف لي أن أخسر جزءا كبيرا كهذا؟ توقفت قليلا قبل الموافقة على قرار العملية ولكن لا بد من إجرائها وسرحت بخيالي وعيناي شاخصتان، ولكن كان المخدر أقوى بكثير من جسدي وأسرع من شفتاي على الرفض”.
يتذكر سامي تفاصيل الحادث الذي حصل منذ 10 سنوات كأنه الأمس، يلقي باللوم على تهوره كان يظن أنه شوماخر زمانه لا أحد يسبقه على الطريق الدائري بالقاهرة.
طرق وعرة
يربط الطريق الدائري بالقاهرة، وهو طريق سريع، طرفي قلب المدينة بالأحياء المحيطة، ويجمع سيارات وحافلات وشاحنات محملة بحمولة زائدة تسير عشوائيا بسرعات عالية. ويقول محمود مصطفى كمال محرر مجلة السيارات العربية على الإنترنت “التوكيل”، “أنا شخصيا أعتبرها طريقا وعرة وليست طريقا سريعة”. وتحدث أيمن سمير، أحد السائقين الذين ظهروا في الفيلم الوثائقي “كايرو درايف”، عن تيار المخاطر الذي يجب على “اللاعب” تجنبه ببراعة. وعلى الرغم من المخاطر المتزايدة التي ينطوي عليها التنقل في هذا الطريق وطرق مصر الأخرى المزدحمة بكثافة والتي لا تتم صيانتها بشكل جيد، إلا أنه لا يتم عمل الكثير لمعالجة المشكلة.
وتتصدر حوادث مروعة عناوين الصحف بوتيرة مقلقة في مصر. وكان عام 2014 مثلا أكثر السنوات كارثية إذ أسفر تصادم حافلتين بالقرب من شرم الشيخ في الثاني والعشرين من أغسطس 2014 عن مقتل 40 شخصا على الأقل (بما في ذلك العديد من الأجانب). وبعد أربعة أيام، في الأقصر، أدى حادث تحطم حافلتين صغيرتين إلى مقتل 19 شخصا، وتسبب حادث تصادم ميكروباصات في الثالث عشر من أكتوبر من نفس العام بالقرب من أسوان في مقتل 27 شخصا وإصابة 18 آخرين.
وفي أبريل من نفس العام أصدرت وزارة الداخلية ووزارة النقل تقريرا مشتركا أشارتا فيه إلى وقوع 100 ألف حادث بين عامي 2008 و2012، وأودى بحياة 33 ألف شخص وإصابة 150 ألفا وتدمير 125 ألف مركبة. وإلى جانب السرطان والسكتة الدماغية وأمراض القلب، تعد حوادث المرور سببا رئيسيا للوفاة في مصر، والتي لديها واحدة من أسوأ معدلات الوفيات المرورية على مستوى العالم.
وتزهق في كل عام أرواح 1.25 مليون شخص تقريبا نتيجة لحوادث المرور. ويتعرض ما بين 20 مليونا و50 مليون شخص آخر لإصابات غير مميتة ويصاب العديد منهم بالعجز نتيجة لذلك.
وتتسبّب الإصابات الناجمة عن حوادث المرور في خسائر اقتصادية كبيرة للأفراد وأسرهم وللدول بأسرها. وتنشأ هذه الخسائر عن تكلفة العلاج وفقدان إنتاجية الأشخاص الذين يتوفون أو يُصابون بالعجز بسبب إصاباتهم، وأفراد الأسرة الذين يضطرون إلى التغيّب عن العمل أو المدرسة لرعاية المصابين. وتتكلف حوادث المرور في معظم البلدان 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
ومن المتوقع أن تكون حوادث المرور خامس سبب رئيسي للوفاة وثالث سبب رئيسي للإعاقة في جميع أنحاء العالم بحلول عام 2030.
حوادث مميتة
بينت النشرة الإحصائية السنوية لحوادث المرور الصادرة عن الأمانة العامة لمجلس وزراء الداخلية العرب أن عدد حوادث المرور بلغ 873086 حادثا مروريا، وبلغت الكلفة التقديرية الإجمالية للحوادث أكثر من 10 مليارات دولار. ومازالت أخطاء العنصر البشري تمثل السبب الرئيسي لحوادث المرور المسجلة في الدول العربية، وهو معطى يشكل كارثة للمجتمعات العربية.
وتعاني المنطقة من أعلى معدلات الحوادث في العالم، حيث يُلقى اللوم على السائقين المتهورين في حوالي 3000 حالة وفاة مرورية شهريا في الدول العربية، وفقا لدراسة أجرتها المنظمة العربية للسلامة على الطرق ومقرها تونس.
وتظهر “المذبحة” كأزمة صحية عامة فهي السبب الرئيسي الثاني للوفاة بعد أمراض القلب في دول الخليج، وسبب رئيسي لاختناق العديد من مدن الشرق الأوسط سريعة النمو.
وتُظهر إحصائيات منظمة الصحة العالمية أن “منطقة شرق البحر المتوسط”، بما في ذلك معظم الدول العربية وإسرائيل وإيران وباكستان وأفغانستان، لديها معدل 26.3 حالة وفاة من حوادث المرور لكل 100 ألف ساكن. فقط معدل أفريقيا هو الأعلى 28.3. وفي أميركا الشمالية والجنوبية يبلغ المعدل 15.7؛ فيما يبلغ في أوروبا 14.5.
وألقت دراسة باللوم في 62 في المئة من الحوادث على طرقات الخليج على مزيج من القيادة المتهورة والسرعة. وقالت إن عادات القيادة المحلية المتهورة لم تتغير على الرغم من التحديث السريع في الخليج.
وفي معظم بلدان المنطقة تطور التحديث بوتيرة أسرع من ثقافة الاستخدام الآمن للمركبات الآلية. وساهم هذا الفارق بين التحديث التكنولوجي والثقافي في ارتفاع معدل إصابات المرور في البلدان منخفضة الدخل والبلدان متوسطة الدخل، وهذا قد يفسر إحجام بعض الناس في المنطقة عن الالتزام بقوانين المرور وأنظمة السلامة.
وفي الأردن مثلا لا يكاد يمر أسبوع إلا ويصحو الأردنيون على خبر مؤسف مفاده وفاة مجموعة من المواطنين نتيجة حادث مروري، وتشير الأرقام الرسمية إلى وقوع خسائر بشرية نتيجة حادث مروري كل 48 دقيقة ووفاة كل 13 ساعة ونصف الساعة.
ويشير التقرير السنوي للحوادث المرورية في الأردن لعام 2019 الصادر عن مديرية الأمن العام/المعهد المروري إلى وقوع 161511 حادثا مروريا عام 2019 نتجت عنها وفاة 643 مواطنا وإصابة 17013 إنسانا إصابات متفاوتة بدرجة الخطورة، وخسرت المملكة بسببها مبلغ 324 مليون دينار أردني سنويا، بمعدل خسارة يومية تبلغ (0.89) مليون دينار أردني.
ولا تتوقف خسائر حوادث المرور في الجزائر كغيرها من الدول، عند إزهاق الأرواح، وترك أمراض دائمة من شلل وفقدان أعضاء حيوية للآلاف من الأشخاص، حيث تخلف أيضا تكلفة مالية باهظة جدا تتجاوز مليار دولار.
ولم تفلح الحملات التوعوية والإجراءات الردعية الصارمة للسلطات العمومية في الحدِّ من حوادث المرور بشكل كبير، فمازال المعدل السنوي للقتلى يقدر بـ4000 قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى.
على من يقع اللوم؟
يزعم تقرير صدر في أبريل 2014 من قسم أبحاث الطرق السريعة بوزارة الداخلية المصرية أن الخطأ البشري كان مسؤولا عن 76 في المئة من جميع حوادث المرور منذ عام 2006، لكن هذا الرقم المضلل لا يصنف الخطأ. السبب الرئيسي وراء الوفيات الناجمة عن حوادث الطرق هو الافتقار إلى ميزات الأمان في معظم السيارات.
وعلى الرغم من أن حوادث المركبات المجهزة بالسلامة تحصد أرواحا أقل بكثير، إلا أن مصر ليس لديها قانون يطالب بأشياء مثل مساند الرأس في المقعد الخلفي (لمنع إصابات الرقبة أو الظهر)، أو الوسائد الهوائية، أو أنظمة الكبح المانعة للانغلاق (ABS) وبرامج الاستقرار الإلكتروني (ESP) للتحكم في عمليات الانزلاق، وهي ميزات قياسية وإلزامية في الولايات المتحدة وأجزاء من أوروبا.
وبدلا من ذلك، يتم فرض ضريبة على السيارات المستوردة بهذه الأجهزة المنقذة للحياة، مما يدفع المستوردين والتجار المحليين عديمي الضمير إلى إزالتها قبل الشحن من أجل زيادة هوامش ربحهم على المركبات منخفضة التكلفة.
وبالإضافة إلى عدم وجود ميزات السلامة، يقول خبير السيارات محمد شيتا إن معظم المركبات قد تكون خطرة بسبب الإطارات البالية والمكابح وممتصات الصدمات. ولا يوجد في مصر نظام لاختبار كفاءة المركبات على الطريق بانتظام، ولا تحظر القوانين استيراد الشاحنات غير المرغوب فيها من أوروبا، حيث يُحظر تداولها.
ويقدر البنك الدولي تكلفة صيانة الطرق في مصر بحوالي 700 مليون دولار سنويا، ولكن مع تخصيص 70 مليون دولار فقط، ستتم صيانة كل كيلومتر ثلاث مرات فقط في كل قرن.
أمان غائب
خسائر حوادث المرور في الجزائر لا تتوقف عند إزهاق الأرواح، حيث تخلف أيضا تكلفة مالية باهظة جدا تتجاوز مليار دولار
يكمل السائقون المتهورون وغير المؤهلين المعادلة القاتلة. ويتطلب الحصول على ترخيص في مصر قدرة أكبر على التنقل في البيروقراطية أكثر قيادة السيارات ولا يعد مؤشرا على كفاءة السائق. وعلى الرغم من أن ما يقرب من نصف السكان هم من كبار السن بما يكفي لقيادة سيارات، إلا أن 12 في المئة منهم فقط يمتلكون سياراتهم الخاصة.
ويضطر معظم المواطنين العاديين إلى استخدام وسائل النقل العام الرخيصة والمزدحمة، وخاصة الحافلات الصغيرة التي يملكها ويديرها القطاع الخاص، والتي تكمل طرقها خطوط المترو والحافلات.
ويتطلب الحصول على رخصة قيادة تجارية فقط اختبار القيادة المعتاد دون المستوى المطلوب والشهادات الطبية التي تؤكد أن مقدم الطلب ليس معاقا أو أعمى. كما أن معظم السائقين التجاريين أو غيرهم لديهم القليل من التأمين على السيارات أو ليس لديهم تأمين على الإطلاق. وفي حالة عدم وجود قوانين تحدد المسؤولية عن الحوادث، تتم تسوية قضايا الحوادث خارج المحكمة.
ولم يبال أحد بدعوات شيتا المتكررة للإلغاء الفوري للرسوم الجمركية وتوحيد معايير أجهزة السلامة، وتفتيش المركبات، وإصلاح اختبارات الترخيص، والتدريب الإلزامي للسائقين التجاريين، وحملات التوعية العامة للسلامة على الطرق. ويقول في حيرة “إنها مسألة موقف.. أصحاب المصلحة الرئيسيون لا يعملون من أجل مصالحهم الأساسية”.
وتتأثر البلدان الفقيرة أيضا “بشكل غير متناسب” بالإصابات والوفيات الناجمة عن حوادث المرور، مما يفرض ضغوطا لا داعي لها على النظم الصحية غير الملائمة وعلى الضحايا وعائلاتهم، ولكن أيضا على المجتمع، نظرا لأن نصف الذين يموتون أو يُعاقون هم من الشباب، وهو أكثر قطاع إنتاجي. ويقدر البنك الدولي التكلفة التراكمية لوفيات حوادث المرور في مصر بنحو 7 مليارات دولار.
ولا يدرك جميع المصريين أن التقنيات التي يمكن أن تنقذ حياتهم أصبحت بعيدة المنال، لكن وفقا لما قاله ماجد كمال مندوب مبيعات في شركة المصرية لتجار السيارات في وسط القاهرة، بدأ الناس في طرح الأسئلة والنظر في ميزات الأمان عند شرائهم على الرغم من التكلفة الإضافية الكبيرة. ويقول “من قبل كانوا يهتمون فقط بالحصول على أقل سعر، لكنهم الآن خائفون، هناك الكثير من الحوادث”. وقد تكون هذه المآسي التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة بمثابة حكايات تحذيرية منقذة للحياة، ولكنها تعزز سمعة مصر كمكان غير آمن للعمل والسفر.
وتعلن الحكومة مرارا التزامها بحماية المصريين، مؤكدة أن جعل طرق مصر آمنة سيستغرق وقتا طويلا.