قطع من السماوات المتداخلة تسرد قصصا مفتوحة

شاركت الفنانة التشكيلية اللبنانية بتينا خوري بدر بالعديد من الأعمال الجديدة في المعرض الجماعي الذي قدّمته صالة “تانيت” البيروتية مؤخرا. هذه الأعمال لفتت إليها الأنظار عبر المنطق الذي يقف وراء القصص البصرية المتباينة عبر انطباعات الفنانة وأحاسيسها وأفكارها، أو تلك التي شاركها الناظر إلى أعمالها فيها أو خالفها، أو انطلق منها نحو عوالم جديدة تخصّه وحده.
إلى جانب الأعمال الفنية التي عرضتها الفنانة التشكيلية اللبنانية بتينا خوري بدر مؤخرا في صالة “تانيت” البيروتية، والتي جسّدت ما يمكن تسميته بمناخات السماء البيروتية بكل ما تحمله من غموض وإفصاح ونصاعة وتلوّث، نشرت الفنانة صورا عن أعمالها الفنية التي تنتمي إلى مجموعتها الجديدة الواسعة على صفحتها الفيسبوكية.
أعمال أرفقتها بتعليقات كتابية تأخذ المُشاهد إلى الباب المؤدّي إلى عوالم تلك اللوحات التي لا ينتظم معناها إلاّ عندما تضعها الفنانة إلى جانب بعضها البعض في تفاعل ضمن مجموعة من اللوحات.
بين انحدار وصعود
لعل أفصح هذه المجموعات تلك التي لم تتعدّ أربعة أجزاء، أو أربع قطع هي لوحات بدت في أحيان كثيرة إما تظهيرا للتلاشي العام وقد تشبّع بزرقة رطبة وباردة أو لوحات جسّدت نصا يسرد تسلسل الأفكار (انحدارا أو صعودا) من خلال مجموعة مشاهد بحتة للسماء التي غشاها تارة الضباب وتارة أخرى أشكال من غيوم تضفي أجواء من الترقب والحزن والخفة والأمل.
أجواء متناقضة وأحيانا متواطئة تخبر الناظر إلى اللوحات عن درجة “الوعكة الصحية” التي أصابت النفس ومزاج الأفراد المجتمعين تحت سماء واحدة وفي بلد واحد يتخبّط بين غيومه وبحره ودمائه وتعكّره دون أن ينهار حقا، ليعلن أن زمن لا جدوى السرد قد حلّ فعلا.
علّقت الفنانة على أحد أعمالها الذي جسّد زورقا “تالفا” مصنوعا من زرقة العملة اللبنانية المتهاوية على صفحتها الفيسبوكية بهذه العبارة “لبنان المتهاوي”، وعلّقت على عمل آخر قائلة “عندما كنت منهمكة برسم سيرة السماء، إذ بالانفجار يلوّث محطات السيرة ويعكّر أزرقها”.
أما هذه السيرة أو هذه الرغبة في السرد العفوي الذي يلتقط أدنى تحوّل يطرأ في النفس لينعكس في هيئات السماء المختلفة والذي نادرا ما ابتعدت عنه الفنانة في أعمالها جعل منها، أي من بتينا خوري بدر، لاعبة “التاروت” الذي صنعت أوراقه بنفسها ولونته ورسمت فيه أشكالا تأرجحت بين التشكيل والتجريد كي تتعقّب تحوّلات ألوان السماء وأجوائها وهيئاتها المُتحوّلة مع هبوب الريح وتشكّل الغيوم وانسحابها إلى الأفق تارة وإلى صدارة اللوحة تارة أخرى في محاولات لسبر أغوار مستقبل قريب وبعيد أيضا.
أما لعبة “التاروت”، وباختصار شديد، فهي عبارة عن مجموعة أوراق تشبه أوراق اللعب العادية، لكنها فنيّة أكثر وتُوظّف بشكل رئيسي لأغراض العرافة أو ما يسمى بـ”التبصير”.
المميّز في هذه اللعبة كما في مجموعة لوحات بدر أن قدرتها على السرد تبلغ أقصاها عندما تقيم علاقة بينها وبين أوراق أخرى تجاورها. وهكذا تسرد الفنانة لوحاتها بلغة مُلتبسة حينا وشديدة الشعرية حينا آخر عبر وضع مجموعة لوحات متجاورة تتنقل فيها العين من واحدة إلى أخرى حتى “يحدث” المعنى.
وهنا، وكما في أعمالها السابقة، يلعب الناظر إلى الأعمال دورا أساسيا في استيعاب اللوحة عبر المشاركة في ابتكار معناها. ومن نافلة القول إن كل شخص يقف أمام مجموعة من مجموعات الفنانة هو كائن استثنائي له تجاربه المتنوّعة وخلفيته الثقافية والاجتماعية والنفسية المختلفة، لذلك سيتعدّد التأويل وتختلف القراءة من شخص إلى آخر.
تأويلات متعدّدة
وتجب الإشارة هنا إلى أنه على الرغم من أن وقْع أعمال الفنانة التي تقع تحت ثيمة السماء البيروتية يختلف باختلاف الشخص الناظر إليها، إلاّ أن معظم هذه الأعمال تشترك في خاصيتين، إحداهما هي الميل إلى التجريد المبني على الاختزال والتقشّف في اللون والخط، والثانية هي الشعرية/ الغنائية الصادحة بصمت “يستقبله” اللون الأبيض واللون العاجي، واللون الأزرق الفاتح والرمادي الزائغ إلى الأسود المتحلّل في أعمالها، كما قد يستقبل الناسك أو المتصوّف في عزلته بريدا أثيريا من عالم آخر بكل ترقب وترحيب وسكينة.
وحازت التشكيلية اللبنانية بتينا خوري بدر من الجامعة اللبنانية سنة 2001 ديبلوما، ومن ثم ماجستيرا سنة 2002 في الفنون الجميلة، لتدخل بعد ذلك معترك التعليم والاشتراك في عدة ورش عمل ساهمت في تطوير ممارستها الفنية. كما شاركت في عدة معارض جماعية منذ العام 2000، كان آخرها معرضا جماعيا اشتركت فيه سنة 2016 في “صالون الخريف” بمتحف سرسق اللبناني.
وللفنانة العديد من المعارض الفردية في بيروت، وقد أطلقت على أحد هذه المعارض عنوان “طبيعة صامتة”، مع العلم أن كل ما قدّمته بدر إلى اليوم يمكن أن يندرج تحت هذا العنوان.
الأشياء لم تكن يوما مجرد أشياء أو جماد بالنسبة إلى بدر، بل تصطبغ بالحياة وتنبض بأهواء البشر ومخاوفهم
وهو ما بدا جليا في معرضها السابق الذي “اكتسحه” التجريد في محاولة واضحة لتشكيل لغة بصرية خاصة بها تخرج فيها عنه -أي عن التجريد- دون مفارقته كليا، وهو ما تحقّق في أعمالها الأخيرة.
فـ”الأشياء” لم تكن يوما مجرد أشياء أو جماد بالنسبة إليها، بل تصطبغ بالحياة وتنبض بأهواء البشر ومخاوفهم. لا تحدّد قيمتها ولا جماليتها ولا صلاحيتها للاستخدام، بل تحدد مدى قدرتها على أن تمثل منافذ إلى الذات وإلى الآخر، ومدى قدرتها على أن تكون انعكاسا لأثر الزمن على الوعي البشري إما إمحاءً أو تأكيدا.
كما لم يكن الواقع البحت في لوحات الفنانة واقعا مكتملا من دون أن “يدحرجه” الخياليّ والمستحيل من عليائه. فكيف لا يكون الواقع إلاّ مصنوعا من خامة الخيال؟ فكل ما يحيط بنا يخبرنا بما قاله يوما شكسبير “نحن مصنوعون من المادة التي تُصنع بها الأحلام.. وحياتنا القصيرة محاطة بالنوم”.
يسهل علينا من هذا المنظور أن نتخيّل هذا العالم/ الواقع “المشكوك بأمره”، والمتمثل في عوالم بتينا خوري بدر، مُشبّع بألوان “النوم” -إنْ صحّ التعبير- التي تستخدمها الفنانة بكثرة في الأبيض والرمادي والأزرق والأسود.