"افتح لمن لا يطرق على بابك" تأملات بيسوا من صومعة جيرونيموس

الشاعر يفكك في مشروعه الكتابي التأملي عناصر الحياة ليعيد تركيبها مثلما يحب ومثلما توحي له مخيلته.
الاثنين 2021/08/09
الشاعر يطل على العالم من شرفة الفلسفة

عمان – ضمن مجموعة بيسوا قدمت دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع أخيرا كتابا بعنوان “افتح لمن لا يطرق على بابك” وهو عبارة عن شذرات للشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا من ترجمة وتقديم إسكندر حبش.

تقدم الشذرات الجديدة لبيسوا تأملاته الفلسفية العميقة بروحها الشعرية العالية. فالإنسان في رأيه ليس سوى “حشرة تافهة تطنّ مصطدمة بزجاج النافذة، ذلك لأنه أعمى”، ويصعب عليه الدنو من الضوء. وحده الشاعر قادر على أن “يهشم الزجاج باتجاه الضوء”.

بيسوا اللشبوني الذي كتب عن مدينته وجعلها مثالية بعض الشيء مثلما يجعل المرء والدته رمزا لهذه المثالية
بيسوا اللشبوني الذي كتب عن مدينته وجعلها مثالية بعض الشيء مثلما يجعل المرء والدته رمزا لهذه المثالية

مع ذلك فإن الشاعر نفسه “أعمى” لأنه يستحيل عليه بلوغ “الحقيقة الأبدية” كما يقول بيسوا. وواصفا نفسه، يكتب قائلا “أنا شاعر مُحَفّز بالفلسفة، ولست فيلسوفا ذا مزايا شعرية”. وهو “مفتَتن بملاحظة جمال الأشياء وبرسم اللامرئي والمتناهي الصغر مما يميز الروح الشعرية للكون”. وهذه الشعرية تكمن بالنسبة إليه في “الأرض التي لا تموت أبدا”.

هل نستطيع، بعد، أن نتخطى فرناندو بيسوا؟ من منّا لم يقرأ له قصيدة، ولو مترجمة، وفي لغة غير لغته الأصل، البرتغالية؟ من منّا لم يقرأ مقالة عنه؟ حتى وإن لم نفعل ذلك، من منّا لم يسمع بعد باسمه، أو لم يشاهد صورته على غلاف كتاب أو في جريدة وهو يتنزّه أو يحتسي كأسا في مقهاه المعتاد “البرازيلييرا” أو وهو شارد في البعيد يتأمل، كأنه يتأمل هذه “الحيوات” الكثيرة التي اخترعها.

 هذا الرجل الذي “شدّ إبليس من ذيله” يرتاح اليوم في صومعة “جيرونيموس”، بين “كاموينش” و”فاسكو دي غاما”. إنه هذا “اللشبوني” الذي كتب عن مدينته، الذي جعلها مثالية بعض الشيء، مثلما يجعل المرء والدته رمزا لهذه المثالية، يقول “أنا الشوارع الخلفية لمدينة غير موجودة، أنا التعليق المهذار لكتاب لم يكتبه أحد مطلقا”.

الشعر عند بيسوا موجود في كل شيء؛ في “البرّ، والبحر، وعلى ضفة النهر”. هو موجود أيضا في المدينة الكبيرة التي يكثر فيها ضجيج السيارات، وحركة الناس. كما يمكن أن يتجسّد في “حركة مبتذلة ومضحكة لصباغ في الناحية الأخرى من الشارع وهو يلوّن إعلانا لدكّان لحّام”. ثمة حاسة تهيمن على حواس بيسوا الخمس تجعله يشعر أنه مختلف عن باقي البشر. لذا هو يرى الشعر حتى في ما هو “تافه، ومُحْتَقَر، ومهمل”، بل هو يراه في “مفتاح، وفي مسمار في جدار، وفي دجاجة تعبر الطريق مقوقئة”.

أصبح بيسوا في فضاء العقود الأخيرة أحد أكبر كتّاب العصر. هذا أقل ما يمكن أن نقوله عن هذا المصير، الذي لقيه بعد موته والذي يشهد على ذلك. يكفي أن نذكر بعض الأحداث: لم تُكتشف “مُخلّفات” بيسوا إلاّ في العام 1968 أي بعد أكثر من ثلاثين سنة على موته، أي لم تكتشف هذه “الحقيبة السحرية” حيث كان يراكم مخطوطاته (بالأحرى الكتب، إذ لم ينشر وهو على قيد الحياة إلاّ هذا الكتاب الصغير الذي أعطاه عنوان “رسالة” (1)، وهو عبارة عن “ملحمة وجدانية في مجد البرتغال”، ماضيا وحاضرا). أما الطبعة البرتغالية من “كتاب القلق” (2) فتعود فقط إلى العام 1982. في حين أن “فاوست”، وهو كتاب يُشكل أيضا إحدى قممه الأدبية، فلم ينشر في البرتغال إلا في العام 1982 أيضا.

تنقل بيسوا بين عدة مهن ليعيل نفسه. وجعله هذا يفهم الحياة بشكل أفضل، وبقي يتساءل في كل ما كتبه من شعر ونثر عن دوره ومعنى أنْ يعيش. وقد انعكست تجارب حياته في ما كتبه من شعر وقصص، اعتمد فيها كاتبها على عدة تقنيات، منها استخدام تداعي الأشياء والأفكار، وبناء الحبكة البوليسية، واستخدام الحوارات مع الذات والتعليقات وغيرها.

Thumbnail

يفكك الشاعر في مشروعه الكتابي التأملي عناصر الحياة ليعيد تركيبها مثلما يحب ومثلما توحي له مخيلته. ليس ما يقدمه من شذرات هنا كتابا نثريا بالرغم من أنه كتبها بتقنية النثر، ولكنه بالتأكيد ليس شعرا خالصا لأنه لا يخلص إلى تقنية الشعر. غير أن الفكر الشعري هو خلاصة شذراته الأخيرة.

هذا كتاب لا يكتبه إلا شاعر كبير. ربما قصد بيسوا أن يخبرنا ما الحياة. ربما أراد أن يهبنا درسا في الشعر الذي نعيشه من غير أن نقرأه. وهو ما دأب عليه في أشعاره التي تعتبر مرجعا حقيقيا للشعرية الإنسانية الحديثة.

14