التحولات المتسارعة تدفع الأسر الجزائرية إلى الانعزالية

أدى تراجع القدرة المعيشية للأسر الجزائرية إلى التخلي عن عادات وتقاليد ألفوها لسنوات من بينها الغلو في مظاهر الاحتفال في الأعراس التقليدية أو مناسبات النجاح، حيث بات يتم الاكتفاء فيها بأقل عدد من المدعوين ومن الكلفة المالية، وفي الكثير من الأحيان يتم إلغاء حفلات النجاح. وقد زادت جائحة كورونا من مضاعفة أزمة تلك الأسر.
الجزائر – بدأت التحولات الاجتماعية والاقتصادية في فرض نمط معيشي يكرس توجها لدى الأسرة الجزائرية للانعزال والفردانية، وهو ما يترجمه تقلص بريق الأفراح والأعراس التي كانت تجمع الأهل والأقارب والجيران، في أجواء من الحميمية حتى ولو كانت وراءها حالة من الامتعاض نتيجة كلفتها المادية.
وفرضت الأوضاع الاقتصادية وتراجع القدرة الاجتماعية، فضلا عن الوضع الصحي، نسقا جديدا في حياة الكثير من الأسر الجزائرية، التي كانت إلى وقت قريب تعتبر نجاح أحد أبنائها في شهادة البكالوريا فرصة تنظم لها احتفالات لافتة، تنحر فيه الذبائح ويطبخ الكسكس، ويدعى الأهل والأقارب والجيران.
لكنها تحت تأثير تراجع القدرة الشرائية نتيجة الأزمة الاقتصادية، والحالة الصحية في البلاد، اكتفت أغلب العائلات بحفلات رمزية أو ألغتها من أجندتها تماما، فالأولوية بالنسبة لها صارت التكفل بنفقات التحاق أبنائها بالجامعات بدل إنفاقه في حفلات فولكلورية.
وانسحب الأمر حتى على الأعراس، التي بات يتم فيها الاكتفاء بأقل عدد من المدعوين ومن الكلفة المالية، وعدم لفت انتباه الآخرين تفاديا للحرج سواء من صاحب العرس أو من المدعو، لاسيما وأن الظاهرة ظلت إلى حين تستنزف موازنة خاصة، كما هو الشأن بالنسبة إلى الموازنات الموسمية، كالأعياد وشهر رمضان والدخول المدرسي.. وغيرها.
الأعراس الجزائرية بات يتم فيها الاكتفاء بأقل عدد من المدعوين ومن الكلفة المالية، وعدم لفت انتباه الآخرين تفاديا للحرج
وظلت الأفراح والمناسبات تشكل فرصة للتباهي الاجتماعي، وإبراز المقدرات المادية والعائلية التي يتوفر عليها صاحب الفرح أو العرس، وحتى نوعية وموكب السيارات والمركبات والألعاب النارية، تمثل أحد رموز المكانة الاجتماعية لصاحبها، لكن الظروف الاقتصادية والاجتماعية بدأت تلقي بثقلها على الظاهرة، لتضع نقطة بداية نحو قناعات جديدة بدأت تترسخ شيئا فشيئا، نحو محدودية العدد ورمزية المناسبة.
كما أنها اعتبرت مقياسا للمكانة الاجتماعية والاحترام والأواصر العائلية وصلة الرحم بين المستدعي والمدعو، ومصدرا للانزعاج أو فتور العلاقة بسبب عدم دعوة هذا لذاك في عرسه أو فرحه، وكما تكلف صاحبها عبئا ماديا كبيرا، فنفس الشيء بالنسبة إلى الطرف الآخر، لأنه سيجد أي فرد نفسه مضطرا لتخصيص موازنة للهدايا والمساعدات.
ويرى مختصون في الشؤون الاجتماعية والدينية، بأن المبالغة في نفقات الأفراح والمناسبات، تشكل عبئا على الفئات الهشة، وتدفع الشباب للعزوف عن الزواج، مما رفع أرقام العنوسة إلى 12 مليون عانس حسب تقديرات مختلفة، وهو ما يحاول الأعيان وأئمة المساجد معالجته بتسقيف مهور الزواج، خاصة في منطقة القبائل التي يهيمن عليها نظام “تاجماعت” (هيئة محلية للأعيان).
ويرى أستاذ علم الاجتماع عاشور قندسي، بأن “هذه التحولات الاجتماعية تصنع تدريجيا، حيث تتراكم مجموعة من الأسباب والعوامل، لتمهد إلى مجتمع جديد وتقاليد مستجدة، فمجرد الحديث مع شخص مسن يحدثك (كنا كذا وكذا)، لكن أين ذلك”؟
وأضاف في تصريحه لـ”العرب” بأن، “العشرية الدموية فرضت نمطا معينا على الأسرة الجزائرية، لكنها لم تؤثر على العادات والتقاليد، لأنها كانت مؤثرا قسريا، فخلالها اختفت الأعراس والأفراح وحتى الزغاريد، حزنا أو خوفا من الجماعات الدموية، لكنها سرعان ما عادت بعودة الأمن والاستقرار منذ مطلع الألفية الجديدة”.
ولفت إلى أن العوامل المادية والاقتصادية والأعباء الاجتماعية، تؤدي دور الضاغط الناعم، وتفرض منطقها بمرور الوقت، مما يمهد إلى تحول جديد ضمن العلاقات الأسرية والاجتماعية، كغيرها من تحولات سابقة، لكن الملاحظ هذه المرة أن المسألة جوهرية لأنها تتجه نحو تقليص تلك الأبعاد والعلاقات إلى نوع جديد من الانطواء والفردانية.
ويرى مختصون أن الحياة العصرية تفرض تدريجيا على الأسرة الجزائرية خصوصياتها، فخلال عقود مضت كان الجد والجدة وحتى الإخوة والأخوات جزءا منها، والكل يذعن لسلطة رأس العائلة الذي يدير ويدبر شؤونها ويتخذ قراراتها، أما الآن فقد اختفى ذلك النموذج لصالح الأسرة الصغيرة (الأب والأم والأولاد)، فظروف الحياة والعمل مسحت مكانة ودور الكبير من الخارطة الأسرية.
وإذ زادت أدوات الاتصال والتواصل من تحديد حجم العائلة، فإن الظروف الاقتصادية والاجتماعية والصحية المستجدة، تدفع بقوة في ذلك الاتجاه، حيث بات الاكتفاء ببعض الحضور والمقربين يكفي لإقامة الأفراح والأعراس، لأن الحسابات تتجه إلى الكلفة المادية والاجتماعية وليس إلى المكانة أو التباهي الاجتماعي.
وتذكر إفادات بأن تقلص القدرة الشرائية وارتفاع تكاليف المناسبات، دفعا عائلات للاستغناء عن تأجير صالات الأفراح والاكتفاء بإقامته في البيت العائلي بعدد قليل من المدعوين، وأشارت أخرى إلى أن عبء الهدايا أجبرت البعض على الاقتراض أو فتح حساب بالتقسيط لدى المحال المختصة.
وجاءت الجائحة الصحية والإجراءات المطبقة في البلاد لمواجهة كورنا، لترفع الحرج على الجميع، فالكل يتحجج بذلك، لكن الحقيقة هي نوع من التخلص من أعباء تلك المناسبات، فالكثير يتمنى ذلك لكن كلام الآخرين أجّل التحول إلى الوقت الراهن.
فايروس كورونا ترك أثارا مدمرة على المجتمع في ظل الضغط النفسي الكبير الذي يمارسه على الأفراد وعلى توازن العلاقات داخل الأسرة التي تعد النواة الأساسية للمجتمع.
كما لم تقتصر تداعيات فايروس كورونا، على الصحة العامة والاقتصاد في الجزائر كغيرها من دول العالم، بل امتدت إلى مناحي الحياه الأخرى خاصة العلاقات الأسرية وعلى رأسها مؤسسة الزواج مخلفة مآس اجتماعية حقيقية.
وتظهر إحصائيات شبه رسمية ان أرقام الطلاق في الجزائر خلال عام 2020 الذي شهد ظهور وانتشار جائحة كورونا في البلاد، ارتفعت إلى حالة واحدة كل ثلاث دقائق بعدما كانت حالة واحدة كل ثماني دقائق عام 2017.
وزيادة على العوامل والأسباب التقليدية المتداولة، لا يتوانى المختصون في تحميل مسؤولية تضاعف حالات الطلاق في ظرف قصير جدا إلى “الضيف الجديد” والذي يأبى الاندثار مفضلا التحور إلى سلالات من أجل التصدي لكل محاولة تستهدف التخلص منه.
وتؤكد المحامية نوال أمقران، زيادة حالات دعاوى الطلاق خاصة عن طريق المبادرة الفردية للزوج منذ ظهور فايروس كورونا، لافتة إلى أن هذا الفايروس ترك أثارا مدمرة على المجتمع في ظل الضغط النفسي الكبير الذي يمارسه على الأفراد وعلى توازن العلاقات داخل الأسرة التي تعد النواة الأساسية للمجتمع.
وتتحدث المحامية أمقران عن ظهور المشاكل العائلية وبروزها للعلن بسبب تواجد الزوجين في البيت وما ينجر عنه من صدام يومي في بعض الأحيان لأتفه الأسباب ينتهي به المطاف في أروقة المحاكم. وتنبه أنّ بقاء الزوجين لأطول فترة ممكنة في مكان واحد يسمح لكل طرف من معرفة الطرف الآخر على حقيقته واكتشاف طباعه وهنا قد تحدث المفاجأة.