كتيبة طبية من عائلة تونسية تتجنّد لمحاربة كورونا

الطب مهمة إنسانية قبل أن تكون وظيفة أو مكانة اجتماعية وتظهر أهميتها لحظة انتشار الأوبئة كما في زمن كورونا الذي نعيشه، وفي تونس تتطوع عائلة طبية لمكافحة الفايروس من خلال السهر على صحة المرضى وإرساء مستشفى ميداني في محافظة القيروان.
القيروان (تونس) - بين أسرّة المرضى بقسم كوفيد – 19 في مستشفى ابن الجزار بمدينة القيروان التونسية تراقب الطبيبة الشابة مريم مفتاح مرضاها فتعاين مستوى تدفق الأوكسيجين ووضعية التنفس بالأجهزة.
وأحيانا تطلب مساعدة قسم الإنعاش أملا بإيجاد سرير شاغر لتنقذ حياة مريضها الذي تدهورت حالته.
وفي مواقف أخرى من الأمل تمضي على ورقة تعافي مريض ونقله إلى المستشفى الميداني. مريم طبيبة متعاقدة مع مستشفى ابن الجزار، وهي حديثة التخرج في كلية الطب، لتكون أول مصافحة لها مع جائحة كورونا في الصفوف الأمامية مع جنود الجيش الأبيض في محاربة الوباء.
انتماء مريم إلى عائلة طبية أكبسها خبرة أكبر، فوالدها طبيب جراح ووالدتها متخصصة في التوليد وأمراض النساء، ومنهما استمدت حب مهنة الطب وأيضا التطوع في العديد من المبادرات الاجتماعية.
تترأس مريم جمعية “أسرتي للتنمية” بالقيروان، وتعمل من خلالها على جمع المساعدات في ظل الصعوبات الصحية التي تشهدها المدينة في مجابهة الجائحة، وما فيها من ارتفاع في حالات الإصابات إلى أكثر من 400 إصابة في الـ100 ألف ساكن وارتفاع نسب الوفيات.
ومن بين المشاريع التطوعية المساهمة في تهيئة مستشفى ميداني وتجهيزه، وهو يُعد اليوم أكبر قسم استشفائي يستقبل مرضى كورونا.
طبيبة تقوم بخياطة الستائر التي تفصل بين الأسرّة داخل المستشفى خلال يوم واحد بسبب ضغط الوقت
منذ بداية الأشغال رافقت مريم والديها في تهيئة المستشفى الميداني، وواكبت جميع مراحل التأسيس وجمع التبرعات. كما تواصل الجمعية جمع مبالغ مالية لاقتناء أجهزة أوكسجين مع تزايد الطلب عليها من المصابين.
“كان الأمر صعبا” بالنسبة إلى الطبيبة الشابة المنهمكة في ملاحقة طلبات المرضى وتساؤلاتهم وحاجتهم إلى الأدوية، وهي ترى أن “أسرّة المستشفى تمتلئ شيئا فشيئا، فيما طاقتها الاستيعابية تتضاءل أمام قدوم المزيد من المرضى الذين يتدفقون بكثرة”، وفق تعبيرها.
واجهت مريم صعوبات كبيرة منذ بداية العمل بالمستشفى الميداني خلال أكتوبر 2020 وسط تشكيك في إمكانية نجاح القسم المخصص لمرضى كورونا.
والمستشفى الميداني القائم اليوم كان قاعة رياضة مهملة تم تحويلها إلى مركز استشفائي يحتوي على نحو 80 سرير أوكسيجين مخصصة لمرضى كورونا. وواكبت مريم والديها في أعمال التأسيس، خصوصاً قيام والدتها بخياطة الستائر، وتابعت جمع التبرعات التي قدمها العديد من أهل القيروان.
بعد انتهاء دوام عملها في قسم كورونا تتحول مريم إلى المستشفى الميداني. وكانت الطبيبة الشابة تراقب نشاط والدها الطبيب السبعيني واندفاعه في مواصلة ما بدأه من عمل تطوعي.
قبل 30 عاما كان والد مريم الطبيب علي مفتاح معيدا في قسم الجراحة بمستشفى القيروان قبل أن يحاكم لأسباب سياسية ويُسجن ويُقصى من العمل بالمستشفى، ليقرر لاحقاً فتح عيادته الخاصة في منزله.
“لقد اعتدت على العمل التطوعي ضمن المجموعة داخل السجن، ما جعله سلوكا اعتياديا”، كما يقول الدكتور مفتاح، مضيفا أن “قَسَمَ الطبيب يلزمه بإسعاف الناس في جميع الأحوال ونجدتهم”.
انخرط الدكتور مفتاح مع آخرين، وبينهم زوجته، في جهود إنشاء المستشفى الميداني بناء على وعود من وزارة الصحة بتجهيزه بالمعدات الطبية.
ويقول “صممتُ بنفسي أروقة المستشفى الميداني الذي هو قابل للتفكيك والنقل، وهو صالح لكل مكان وزمان وليس فقط في القيروان”.
ومع كل نقص يُسجَّل تُنشر تدوينة عبر فيسبوك فيأتي الرد سريعا من مساهمين بشتى أصناف التبرعات والتطوع من هيئات المجتمع المدني، كالكشافة والهلال الأحمر.
بدأ المستشفى الميداني بتركيز 40 سرير أوكسيجين، من متطوعين سهروا على إعداده لاستقبال المصابين في ظل ارتفاع عدد إصابات كورونا مع بداية مايو الماضي.
ويقول مفتاح “أهدي هذا المستشفى المنجز إلى جميع الذين قدموا يد المساعدة، ومنهم من فارق الحياة بسبب كورونا ولم يتمكن من العلاج فيه”.
لم يكن الطبيب صاحب المبادرة يتحرك بمفرده، وإنما جنبا إلى جنب مع زوجته الطبيبة آمال صوة. في عن هذا يقول “زوجتي ليست فقط شريكة حياتي وأمّ أولادي، فهي أيضا شريكتي في العيادة التي نتقاسمها”.

وتقول الدكتورة آمال صوة، مؤكدة أن الجائحة دفعت الجميع إلى التطوع والمساهمة بشتى أنواع المساعدات “أنا طبيبة، وفي الوقت عينه مسؤولة لجنة الصحة في المجلس البلدي. ومن منطلق هذه المسؤولية، سعيت مع جهات محلية إلى استحداث هذا المستشفى الميداني”.
كان المكان غير مهيأ لذلك لكنه تحوّل بإرادة هؤلاء المتطوعين إلى مستشفى ميداني تضافرت فيه جهود إدارة الصحة والبلدية على الرغم من أنه في البداية لم تكن هناك موازنة كافية.
وتتابع صوة قائلة “وضعنا أول لبنة بالمستشفى وهي مقاسم أروقة المستشفى الخشبية، من خلال جمع تبرعات، وهي التي أعطت لجهدنا قيمة ودفعتنا إلى الأفضل، وبدأت المساعدات تتدفق من مختلف الجهات الرسمية وغير الرسمية”.
وبات المستشفى اليوم مجهزا بالكامل ويستقبل منذ بداية شهر يونيو أكثر من 60 مصابا، وتتوافر فيه الخدمات الصحية والأوكسيجين تحت رعاية الهيئات الصحية وإشرافها.
أما الستائر التي تفصل بين الأسرّة داخل المستشفى فقامت صوة بخياطتها في يوم واحد بسبب ضغط الوقت، واعتبرته بمثابة تحدّ عملت على كسبه.
وعن هذا تقول “هناك من أخبرنا بأن كورونا انتهى إلى غير رجعة، وحاول آخرون تثبيط عزائمنا، ولكنني أنا وزوجي وابنتي لم نستسلم، وكانت لنا نظرة استشرافية، فواصلنا العمل”.
وأردفت “لم نهتم بالنتيجة، وإنما تمسكنا بواجب المحاولة. وهذا ما جعل الهدف يتحقق في النهاية، وهو هدف الإرادة في المساعدة وتغيير الوضع”.
وأفرزت الجائحة نسيجا اجتماعياً فريدا ومبادرات تطوعية للمساهمة في تحسين الوضع الوبائي وتخفيف العبء عن المستشفيات. وتحقق ذلك من خلال التبرعات التي تم جمعها عن طريق أطباء ورجال عمال وشركات وجمعيات صحية وجمعيات طبية.
وللخروج من دوامة الوباء ترى الطبيبة الشابة مريم مفتاح أن الحل يتمثل في القيام بحملات لتشجيع الناس وحثهم على التلقيح، وتوعية المواطنين بأهمية التلقيح وجدواه فـ”التلقيح أقل تكلفة من جهاز أوكسيجين، ولا يساوي شيئاً أمام الأرواح” وفق تعبيرها.