هل تغادر فرنسا إقليم الساحل؟

الرأي العام المحلي المؤيد للانسحاب يدفع باريس إلى مراجعة استراتيجيتها العسكرية في المنطقة.
الخميس 2021/07/01
الانسحاب الفرنسي سيخلّف ثغرة أمنية كبيرة

“قرار كان منتظرا”، هكذا علقت وسائل إعلام فرنسية، على قرار الرئيس إيمانويل ماكرون بإنهاء عملية برخان العسكرية في منطقة الساحل الأفريقي، وهي في تقديرها خطوة تمهد لانسحاب تدريجي من منطقة الساحل على الطريقة الأميركية في أفغانستان وذلك استجابة لضغوط الرأي العام المحلي الذي لم يعد يرى في التدخل العسكري خيارا ناجعا في المعركة ضد الإرهابيين خاصة بعد ما تكبدته القوات الفرنسية من خسائر.

في الوقت الذي تتزايد فيه التهديدات الإرهابية في إقليم الساحل وغرب أفريقيا، وتودي بالمزيد من الضحايا في صفوف المدنيين والقوات العسكرية على السواء، تعلو داخل فرنسا أصوات شعبية ورسمية تطالب باريس بتفكيك عملية “برخان” العسكرية المتواجدة في الساحل منذ سنوات، وإعادة الجنود الفرنسيين إلى ديارهم، بسبب الخسائر الكبرى، المادية والبشرية، التي تتكبدها في مسلسل الصراع ضد الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل.

فبعد ما يزيد على 7 سنوات من التواجد العسكري في منطقة الساحل الأفريقي، إذ تتناسل الجماعات الجهادية المسلّحة، وتزداد راديكالية بفعل التدخل الخارجي، تجد فرنسا نفسها في أزمة أمام الرأي العام الداخلي، من دون أن تكون قادرة على تنفيذ وعدها بقطع دابر الجماعات المسلحة، وهو الوعد الذي قطعته للبلدان الأفريقية في العام 2013، حين قررت إنشاء قوة عسكرية محلية تحت اسم “سيرفال”، تحوّلت إلى اسم “برخان” في العام التالي، بمشاركة البلدان الخمسة في المنطقة الأكثر تعرضًا لهجوم الجماعات الجهادية، وهي تشاد والنيجر وبوركينا فاسو ومالي وموريتانيا.

ونشرت “لوموند ديبلوماتيك” الفرنسية، في عددها لشهر أبريل، تقريرا قالت فيه إن فرنسا تنفق ما يزيد على مليار يورو سنويا لتغطية الحاجيات المتعلقة بعملية برخان في الساحل، سواء تعلق الأمر بالجوانب اللوجستية، أو الجوانب البشرية من جنود وخبراء تقنيين وعاملين وأطباء. وقال التقرير إن البلدان الأوروبية الأخرى المشاركة في العملية بقوات رمزية، تحت رعاية الأمم المتحدة، ترفض

القيام ببعض العمليات العسكرية في ملاحقة الجماعات الإرهابية، خوفا من الخسائر البشرية التي قد تؤدي إلى أزمة سياسية في وسط الرأي العام الداخلي، مثل بريطانيا التي لا تزال ترفض مشاركة مروحياتها في العمليات العسكرية، وهو الأمر الذي يجعل فرنسا وحدها في الواجهة، متحملة كل الاستحقاقات التي تخص عمليات مطاردة فلول الإرهابيين المسلحين.

نسبة الفرنسيين المؤيدين للتدخّل العسكري في الساحل تراجعت من 73 في المئة عام 2013 إلى 49 في المئة مؤخرا

وقد أدّى ذلك إلى تراجع نسبة مؤيّدي التدخّل العسكري في الساحل وسط الرأي العام الفرنسي، إذ تراجعت النسبة من 73 في المئة عام 2013 إلى 49 في المئة قبل أسابيع، وبات إيمانويل ماكرون – الذي كان يمنّي الفرنسيين بتمدّد اقتصادي وأمني أكبر في القارة الأفريقية – يواجه مصير الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون في حرب فيتنام في النصف الثاني من القرن الماضي. وفي مواجهة الهزائم التي نزلت بالجنود الأميركيين، أرسل نيكسون المزيد من الجنود إلى فيتنام لتعزيز الوجود العسكري الفرنسي والأميركي، ما عجّل في الهزيمة، وهو الأمر نفسه الذي قام به ماكرون، الذي تعهَّد بتعزيز قوات بلاده في الساحل، من خلال رفع عدد الجنود من 5300 إلى 5900.

ولم يعد سرًا أنَّ فرنسا تدرك اليوم أنّها فقدت زمام المبادرة في بلدان الساحل، وأنَّ ذلك حصل بشكل عملي عقب العملية الانقلابية ضد حكم إبراهيم أبوبكر كيتا في شهر أغسطس الماضي، ذلك أنَّ باريس فوجئت بالانقلاب، ولم تكن تتحسَّب له، بخلاف ما كان يحصل في الماضي في تاريخ الانقلابات الأفريقية. وبحسب خبراء ومحللين فرنسيين، فإن حصول ذلك الانقلاب دون التنسيق مع فرنسا يدل على أن بعض البلدان الأفريقية باتت قادرة على التمرد على الوصاية الفرنسية، بسبب حساسية العلاقات السياسية مع باريس وتأثيرها على شعبية الأنظمة الحاكمة في القارة.

كان واضحًا أن الانقلاب كان يحمل، من جملة الرسائل التي حملها، نوعًا من التبرم من الوجود الفرنسي، لكون الرئيس الّذي أطيح به كان محسوبًا كليًا على باريس، بل تم انتخابه بشكل متزامن مع إنشاء قوة “سيرفال” في مالي في العام 2013. وأكثر من ذلك، إنَّ برنامجه الانتخابي كان يدور حول محور واحد: اجتثاث العنف واسترجاع الأمن، ولم يتحقق أي منهما.

هذه الوقائع التي يشدّ بعضها بأعناق بعض دفعت باريس إلى إحداث نوع من الانحرافات الخجولة عن إستراتيجيتها الأولى، فبدلًا من التوغل كان التراجع، وبدلًا من قرار رفع عدد جنود قوة “برخان” كان الحد منه، إذ بات الرأي العام الفرنسي أكثر ميلًا إلى الانسحاب الفرنسي من الساحل الأفريقي، ما دفع ماكرون إلى أن يفتح الباب أمام تقليص التواجد العسكري الفرنسي في المنطقة بشكل تدريجي خلال قمة “بريست” في الأسبوع الثالث من شهر يناير الماضي، معولًا على إلقاء مسؤولية مواجهة الجماعات المسلحة على كاهل البلدان الخمسة التي تجتمع في “مجموعة الخمسة”، التي تضم كلا من تشاد والنيجر وبوركينا فاسو ومالي وموريتانيا.

Thumbnail

وبعد سبعة أعوام من الوجود الفرنسي، والوجود الشكلي لبعض البلدان الأوروبية الأخرى مثل بريطانيا وبلجيكا وهولندا، لم يتراجع خطر الإرهابيين، بل ازداد اتساعا. وبحسب آخر الأرقام الواردة في التقارير الفرنسية، فإن وتيرة العمليات الإرهابية ازدادت بنسبة 60 في المئة العام الماضي، مقارنة بالعام الذي قبله، أي 2019، وهي نسبة تنذر بالخطر، كما أن تلك العمليات خلفت عشرات الآلاف من القتلى، أكثر من 56 في المائة منهم من المدنيين، الأمر الذي يجر معه مشكلات جانبية على قدر كبير من الخطورة بالنسبة إلى بلدان المنطقة، مثل الهجرات الداخلية للسكان الفارين من الإرهابيين، سواء كانت الهجرة داخلية أو كانت عبر الحدود مع البلد المجاور.

لكن سيناريو الانسحاب من الساحل، في هذه الظروف بالذات، سوف تكون له نتائج سلبية، سواء على فرنسا، أو على بلدان المنطقة. فبالرغم من أن فرنسا فقدت حتى اليوم 50 جنديا في المعارك مع الجماعات الإرهابية المسلحة في الساحل، إلا أن انسحابها سوف يفسر بأنه هزيمة أمام هذه الجماعات، وسوف يترجم باعتباره انتصارا لهذه الأخيرة، ما يؤدي بها إلى توظيف ذلك الانسحاب في رصيدها أمام شعوب المنطقة، وهو ما تبحث عنه مثل هذه الجماعات. أما في ما يتعلق ببلدان المنطقة، فإن الانسحاب الفرنسي سوف يترك ثغرة أمنية كبيرة في الجدار الأمني في الساحل، ويجعل حكوماتها عارية أمام جماعات الإرهابيين التي ستستفرد بالدور الرئيسي في المعركة، في وقت تبحث فيه تلك البلدان عن أحسن الخيارات لمواجهة التحديات الإرهابية وتحاول جاهدة تقوية صفوفها، استعدادا لما بعد رحيل الجنود الفرنسيين العالمين في عملية “برخان”.

سيناريو الانسحاب من الساحل ستكون له نتائج سلبية فبالرغم من أن فرنسا فقدت 50 جنديا في المعارك مع الجماعات الإرهابية إلا أن انسحابها سوف يفسر بأنه هزيمة أمام هذه الجماعات

هذه المخاوف هي ذاتها ما عبر عن تقرير صدر الأسبوع الماضي عن “لجنة الدفاع” في البرلمان الفرنسي، في أعقاب النقاشات حول الانسحاب من عدمه. التقرير انتصر لخيار الإبقاء على عملية “برخان” إلى أن تعطي نتائجها التي وضعت من أجلها قبل خمس سنوات، وتصبح بلدان المنطقة قادرة على أن تتحمل كلفة المواجهة مع الإرهابيين. وحسب التقرير، فإن فرنسا “لا تغرق في الساحل”، بل هي موجودة هنالك لمواجهة الإرهابيين حتى القضاء عليهم، كما أنه “لا يوجد حل بديل لبرخان”. وقال التقرير إن العملية المشار إليها سوف يتم تطويرها مستقبلا بمعية الشركاء الغربيين والأفارقة، بحيث يتم التوافق على وضع آلية أمنية إقليمية تحل محل عملية “برخان” بشكل تدريجي.

ولكن هذه المخاوف ليست فرنسية فقط، ولا هي مخاوف الأفارقة الذين يوجدون في خطوط التماس مع الإرهاب، بل هي مخاوف الاتحاد الأوروبي أيضا. ذلك أن هناك من الأوروبيين من ينظر إلى ما يجري في منطقة الساحل باعتباره تحديا أوروبيا قبل أن يكون أفريقيا، بل الأكثر من ذلك هناك من يعتبر الوجود الأوروبي في الساحل اختبارا حقيقيا للتعاون العسكري المستقبلي بين بلدان الاتحاد الأوروبي، ومحكا للقوة العسكرية الأوروبية ذاتها في المتوسط.

ففي شهر يوليو من العام الماضي انطلقت مهمة القوات الأوروبية الجديدة في منطقة الساحل الأفريقي التي حملت اسم “تابوكا”، لينطلق العداد من جديد لقياس مستوى الفاعلية في ملاحقة الجماعات الإرهابية المسلحة التي تزرع الرعب في هذه المنطقة منذ عام 2012. التنظيمات الإرهابية، من دون هذه القوة العسكرية الموحدة سوف تزداد الإكراهات والتحديات أمام العواصم الأفريقية في المراحل الزمنية القادمة.

Thumbnail

وتتشكل القوات العسكرية الجديدة عن الجانب الأوروبي من قوات رمزية تابعة لتسعة بلدان أوروبية، أبرزها فرنسا التي تشارك فيها بخمسمئة جندي، وأستونيا بأربعين جنديا، تشيكيا بمئة وسبعين جنديا، دورها هو مواجهة الجماعات المسلحة وملاحقة الإرهابيين في منطقة الساحل، وتعزيز القوات المحلية للبلدان الخمسة في المنطقة. بيد أن عدد قوات هذه العملية غير كاف، بحسب المراقبين، ما دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المطالبة بإرسال 2000 جندي آخرين لتعضيد القوات المتواجدة، وهي إشارة إلى ألمانيا التي لا تزال تستنكف عن تقوية انخراطها العملي في المخططات والمشاريع العسكرية الأوروبية في إقليم الساحل، وفي عمليات التمويل.

وقد اعتبرت باريس أن الاتفاق الذي تم في ذلك الاجتماع حول تشكيل قوة عسكرية مشتركة لمحاربة الإرهاب يعد انتصارا لسياستها الأفريقية، بيد أن حزمة الآمال تلك قد لا تتم وفقا لما تسعى إليه حكومة ماكرون، لأن هناك بعض البلدان الأوروبية التي تتحفظ على المشاركة العسكرية بالشكل المطلوب وتريد مشاركة رمزية صغيرة فقط، بينما هناك بلدان أخرى تعلق مشاركتها على تصويت برلمانها لصالح القرار، مثل السويد.

هذا بالنسبة إلى فرنسا والاتحاد الأوروبي، لكن ماذا عن البلدان الأفريقية، الضحية الأولى للإرهاب في الساحل وغرب أفريقيا؟

إن هذا يتطلب من هذه البلدان التفكير في خلق شراكة جماعية لمواجهة الإرهاب والإرهابيين، وتنسيق جهود هذه البلدان في مواجهة الجماعات المسلحة التي قد تزداد مخاطرها في حال شرعت فرنسا في سحب قواتها تدريجيا في الشهور المقبلة، أو على الأقل التقليص منها.

من هنا ضرورة التفكير في خلق قوات عسكرية موحدة مشتركة بين البلدان الأفريقية، وهو الاقتراح الذي سبق أن تقدمت به المغرب ومصر، لأنه من دون هذه القوة العسكرية المشتركة، التي يكون من مهامها ملاحقة فلول الإرهابيين، ومراقبة الحدود بشكل صارم، ومطاردة جماعات الجريمة المنظمة والمهربين الذي يمثلون في الواقع طابورا خامسا في خدمة

6