على الشعراء العرب أن يقدموا صورة أخرى لفلسطين في قصائدهم

شعراء ونقاد عمانيون: فلسطين قضية إنسانية يرفعها الأدب.
الثلاثاء 2021/06/15
الفن له دور كبير في نشر القضية (لوحة للفنان سليمان منصور)

لطالما كان للقضية الفلسطينية مسار واضح في مفردات الشعر العماني، ومنذ عقود شتى، فقد ترسخت فكرتها، لتكون نهجا عمانيا قوميا، لتحدث ذلك الهاجس الفكري والجمالي في أبجديات القصيدة العمانية، وعلى الرغم من اتساع مساحة تلك القضية الواقعية الإنسانية في مفردات الأدب الشعري العربي، فإن للتجربة العمانية خصوصيتها في مقاربة هذه القضية التي سكنت وجدان الأدباء العرب.

مسقط - تناول الكثير من الشعراء العمانيين القضية الفلسطينية في نصوصهم، وكرس كل منهم بصمته في مقاربة واقع فلسطين على المستوى الثقافي والفكري الإنساني.

الحضور الكبير للقضية الفلسطينية في الشعر العماني يطرح العديد من الأسئلة التي تفتح نوافذ البوح وحكايات القصيدة، وأهمها، كيف يرى الشاعر العماني القضية الفلسطينية في شعره؟ وماذا عن آليات إظهارها كقضية قومية إنسانية للأجيال المقبلة بصورة أكثر واقعية، أدبيا وفكريا؟ وما هي التقنيات الأدبية التي يجب أن تتناول تاريخ تلك القضية التي طوقها التغريب من كل حدب وصوب؟

قضية أدبية

الشاعر هو جبهة الدفاع الأولى عن قضايا الخير والعدل والإنسانية بأدواته التي تنبثق من الضمير وتصل إلى الضمير

توضح الناقدة سعيدة الفارسي أن الشاعر العماني تناول القضية الفلسطينية منذ الاحتلال سنة 1948، ولم ينقطع عن تناولها إلى الآن لكونها الهمّ العربي الأكبر منذ بداية سرقة فلسطين.

وعن آليات إظهارها كقضية قومية إنسانية للأجيال المقبلة بصورة أكثر واقعية، أدبيا وفكريا تقول “إن الشاعر ليس بوقا إعلاميا ولا مفتيا إصلاحيا ولا سياسيا يمتهن الدعايات الزائفة حتى ينادي بالقضية. الشاعر إنسان يخاطب المشاعر ومن هنا ينبغي أن يركز على اللقطات الإنسانية في القضية، وهذا ما قام به الشعراء في قضية محمد الدرة مثلا وهي حالة إنسانية هزت العالم بأسره، أو على صور القصف والدمار الوحشي الذي جعل الأسر الفلسطينية مع أطفالهم يفترشون خياما فوق ركام بيوتهم، أو صورة الطفل الخائف بين أسلحة الجنود الإسرائيليين، أو ضرب الجنود لرجل عجوز وإسقاطه أرضا، أو احتلال الصهاينة لمنزل المرأة ومن ثم طردها”.

هذه الصور، كما تبين الفارسي، ذات وقع إنساني كبير وتجسيدها شعرا ثم ترجمة ذلك الشعر إلى لغات عديدة بعيدا عن الشتائم والسباب لليهود، كل هذا له تأثير إيجابي كبير ويوصل القضية إلى الآخر بكثير من الواقعية والصدق بشكل أكثر نضجا وحرارة.

وتضيف الناقدة “هذا يذكرني بموقف الجمهور الألماني في معرض الكتاب العربي بفرانكفورت، ذلك الجمهور الذي حضر بكثافة قبل موعد أمسية الشاعر الفلسطيني محمود درويش ووقفوا في طابور طويل ليشتروا دواوينه، التي ابتيع معظمها؛ لأنها مترجمة أولا للغتهم ولأنهم يعرفون الشاعر سابقا ويعرفون أنه يمثل القضية الفلسطينية، وقبل أن تبدأ الأمسية كانت القاعة الكبيرة قد امتلأت بالجمهور الألماني ومن لم يجد مكانا ظل وقفا مستندا على الجدار، وهذا ينم عن وله حقيقي وشغف وتقدير للفن الصادق المبدع ورغبة من الجمهور في التعرف على جوهر القضية الفلسطينية ومعاناة الإنسان هناك، فالفن له دور كبير في توعية الآخر بالقضية خاصة عندما يكون الفن هادفا وراقيا”.

لا تحيد الناقدة فاطمة الشيدي كثيرا عن الفارسي، تقول “إذا كان الشعر هو ديوان العرب فإن فلسطين هي قضيتهم الأولى؛ القضية التي يجب وجوبا حادا وصارما أن تشغل الجميع بشكل يدفع بها إلى العلن دائما، والشاعر بروحه المتحدة مع الكون وضميره اليقظ بالعدالة والإنسانية والمساواة لا تستطيع روحه إلا أن تتجلى في ما يكتب، ولا يستطيع تجاهل قضية عادلة وإنسانية كفلسطين”.

قضية إنسانية بصورة أكثر واقعية (لوحة للفنان سليمان منصور)
قضية إنسانية بصورة أكثر واقعية (لوحة للفنان سليمان منصور)

وتضيف “الشاعر العماني يكتب بحب عن الحب، وبلهفة عن الضياع، وبحلم عن العودة، يكتب القضية شعرا وإنسانا، فالقصيدة لا تنتهج منهجا، ولا تستطيع توثيقا ولا تروم تحقيقا دقيقا، الشاعر العماني ككل شاعر في كل زمان ومكان يلبس القضية فتنة الحب واللغة لتكون حاضرة وخالدة”.

وعن آليات إظهارها كقضية قومية إنسانية للأجيال المقبلة بصورة أكثر واقعية، أدبيا وفكريا تقول الشيدي “إنه لا يكتبها إلا بآليات الشعر الخاصة به كالصورة الجارحة والإحساس المتلبس بها وليس بنية إظهارها كقضية قومية -وهي كذلك فعلا-  بل لإظهارها بصورة إنسانية للعالم الذي يصم أذنيه، ويعمي عينيه، ويغلق قلبه وروحه عن كل ذلك الدم، وكل ذلك القتل والتشريد والتهجير، يكتبها في القصيدة كي لا ينسى العالم بذاكرته التي يتسع ثقبها يوما بعد يوم، يكتبها للأجيال القادمة بصورة أكثر واقعية وأكثر صدقا وتماسّا مع الإنسان والدم، ولكن بفنيّة عالية تليق بالشعر وبجمالية مدهشة تشبهه تمنحها الانتشار والخلود بعيدا عن الجاهزية الفنية، والكلام المتاح الذي يفقد تأثيره بعد كل انتفاضة وحادثة ويصبح ميتا وغير قابل حتى للتدوير أدبيا وفكريا؛ لأن الشعر هو صيغة الخلود لكل شيء يمسه، ولكل قضية يطرقها من الداخل إلى الخارج ومن الخارج إلى الداخل”.

وفي ما يتعلق بالتقنيات الأدبية التي يجب أن تتناول تاريخ تلك القضية التي طوقها التغريب من كل حدب وصوب، تشير الشيدي إلى أن الشاعر العماني بتحديده الإقليمي وضميره الكوني كما كل شاعر على هذه البسيطة، يبتكر دائما صورته الخاصة ليشعل قصيدته بالرؤى الجديدة، الشاعر الحقيقي هو جبهة الدفاع الأولى عن قضايا الخير والعدل والإنسانية بأدواته التي تنبثق من الضمير وتصل إلى الضمير، وتتدثر بالبلاغة وتتصاعد في المجاز. وسيف الرحبي وسماء عيسى وعبدالله حبيب وصالح العامري -على سبيل المثال لا الحصر- وغيرهم من شعراء الجمال والصدق في عمان كتبوا عن القضايا الإنسانية وعلى رأسها قضية فلسطين الأكثر عدالة وإنسانية وبهاء.

من جيل إلى آخر

القضية الفلسطينية هاجس يؤرق الكلمة الحرة
القضية الفلسطينية هاجسا يؤرق الكلمة الحرة

يقول الشاعر عبدالله العريمي “القضية الفلسطينية مرتبطة بتاريخنا، بإنسانيتنا، بديننا، بكرامتنا العربية، وأي شكل من أشكال التنصل منها يعني التنازل عن مكون رئيس في كل ذلك، وصرف النظر عما تشهده فلسطين من أحداث يسبب خللا في إنسانيتنا بل يؤكد وجود تخشب وتكلس في مفاصل هذه الإنسانية”.

 ويؤكد العريمي في الاتجاه نفسه أن التهجير والقتل وكافة أشكال الاعتداء على فلسطين لا يمكن أن يحقق شعرا صافيا؛ فالقصيدة كائن حي لا يحيا بلا ماء، ماء الحياة الذي يضخه الإحساس بمعزل عن جنون المحيط الحسي، بيد أن هذا لا يعني بالضرورة صمت الشعراء أو صيامهم عن الصراخ الشعري، رغم أن المجاز الذي تشهده فلسطين أعلى من الشعري بكثير، والفعل الإنساني بروحه الإلهية من قبل الفلسطينيين أكثر دقة وأبلغ تعبيرا، وأما فلسطين فإنها تظل محركا ودافعا للكتابة دائما وشكلا من أشكال المقاومة التي يدافع بها الشعراء عن كرامتهم الإنسانية وحقهم في الكلام والحرية.

يقول الشاعر “إن ما يشهده الإنسان في فلسطين واقع مرير لا يمكن تزويره أو تقنيعه تماما كما يستحيل وصفه، ولكن ماذا عن صورتنا نحن كأمة إسلامية وعربية، ماذا سنقول للأجيال القادمة، كيف يمكن أن نبرر لهم موقفنا، كيف يمكن أن نقنعهم بأن القصيدة تعادل لعبة طفلة على هامش الحياة وفي ظلمة سماسرة الموت، وأن الكلمات يمكن أن تكون تعويضا عن الحياة، لسوء حظنا أن حياتنا ستكون هيكلا لهزيمتنا كأمة، لذلك فإننا لا نحتاج إلى آليات كتابة تنقل صورة واقعية لفلسطين؛ لأن الأجيال القادمة ستكون أكثر حساسية تجاه الحق الفلسطيني، الحق الذي يولد من الباطن الإنساني، وهذه المساحات سواء في الوعي أو اللا وعي هي ما تحقق المعادلة الأدبية والفكرية ليدرك القارئ ما درج عليه أناس قبله، وكيف عاشوا وكيف ماتوا، وهو الأمر الذي سيولد كزهرة لوز وسط ما خلفه الدمار والألم”.

ويتفق الشاعر عبدالله الكعبي مع طرح الشاعر عبدالله العريمي في ذات القضية، يقول “لا يمكن أن يخلو شعر أي عماني من القضية الفلسطينية واعتبارها المحرك الأساس للكتابة”.

ويبين الشاعر أنه في عصرنا الحاضر باتت الطرق كثيرة في نشر وفضح ما يقوم به العدوّ الصهيوني من سلب الأراضي وقضّ الراحة والأمان للأطفال والعجزة، بنشر وفضح كل الانتهاكات الإنسانية، فما أسوأ أن تفقد بيتا بسهولة في فلسطين وتهجير أهله، وعليه فإن نشر كل كلمة حق عنهم في وسائل التواصل الحديثة واجب إنساني وعربي، إما بكتابة نص وإما بنشر صورة. فالعصر الحالي، في اعتقاده، هو عصر النشر والإعلام المرئي وسهولة النشر في المواقع التواصل الاجتماعي، حتى عن طريق الحوار من خلال الغرف الاجتماعية الافتراضية في مواقع التواصل الاجتماعي للتحاور عن القضايا.

وعن التقنيات الأدبية التي يجب أن تتناول تاريخ تلك القضية التي طوقها التغريب، يقول الكعبي “في هذا الشأن لنا أن نبين أن الأرض أصلها عربي ومستلبة وأنها حق الفلسطينيين، ويجب تناولها دوما من خلال الحوار والوسائل المنطقية. نعم تقبل التعايش ولكن ذلك بعد أخذ الحقوق، فالشعر برأيي أهم الوسائل في نشر القضية وهو أسهل وأعمق تناولا من خلال العاطفة. الشعر يبقى ديوان العرب، وهو المحرك لشحذ الهمم والعاطفة لأهم قضية عربية على مرّ التاريخ، التي تحتاج لمناصرتنا دوما”.

على الشعراء أن يكتبوا عن فلسطين للأجيال القادمة بصورة أكثر واقعية وأكثر صدقا وتماسّا مع الإنسان والفن

وللشاعرة رقية البريدي حديث تتقاطع أفكاره مع الشعراء العمانيين أعلاه؛ حيث تقول “رغم سطوة الذاتية على الشعر العماني إلا أن حضور القضية الفلسطينية بملامحها المختلفة وصورها المتنوعة بين الغضب والألم والحزن والتفاؤل والاستنهاض كان قويا وملهما ولاسيما مع كل صدى للمقاومة أو صرخة للثوار أو مشهد للظلم والاحتلال، ولا أعتقد أن الشاعر العماني يقصد مجرد رصد حدث تاريخي، أو وصف مشهد درامي أو إظهار براعة فنية في نقل صورة دامية من خلال تناوله للقضية الفلسطينية، ولكنها تكوين حقيقي لهويته العربية والدينية والثقافية والإنسانية”.

وتضيف البريدي “التكوين الفكري للأجيال مختلف ولكل جيل خصائص ومعطيات تتناسب مع بيئته الثقافية التي نشأ فيها، فنحن على سبيل المثال تلقينا القضية الفلسطينية من الجيل السابق من الشعراء من خلال شعر المقاومة والاستنهاض، وربما كان ذلك أكثر مناسبة لبيئتنا الثقافية البسيطة بين ما نتلقاه في مناهجنا المدرسية من أشعار من الاتجاه الأدبي وبين القيمة الدينية التي تغرس في نفوسنا عبر ترسيخ المكانة الدينية للقدس الشريف، لكننا ندرك أن الأجيال القادمة لن تشبهنا في نظرتها للقضية الفلسطينية ولن تحتاج لتلقي دفعات الاستنهاض على سبيل المثال، وإنما يتوقع من الأجيال القادمة أن تكون أكثر وعيا قانونيا بالحقوق والواجبات، وأكثر اتساعا في نظرتها للقضية الفلسطينية كقضية إنسانية قائمة على قوانين واتفاقيات لضمان الحقوق، لذلك بدأنا نرى مسارات أكثر اتساعا للشعر العماني في هذا الجانب”.

وتؤكد في حديثها أن التغريب يشكل تحديا صعبا، لا يمكن تجاوزه دون الإيمان بدور الأدب بمختلف أشكاله شعرا ونثرا في دعم القضية الفلسطينية، ولكن طريقة التلقي يجب أن تتناسق مع معطيات الحداثة والتطور الفكري والثقافي واتساع الوعي.

في نهاية هذا التطواف حيث القضية الفلسطينية، وكيف يرى الشاعر العماني أن تكون في شعره، يقول الشاعر محمد العبري “لا تزال القضية الفلسطينية هاجسا يؤرق الكلمة الحرة، والنفوس الأبية، والروح المنسجمة مع قضاياها وما يحيط بها، وما يعتري الإنسانية جمعاء باختلاف أوطانها وألوانها ولغاتها، وهذا ما يتمثل جيدا في الشاعر العماني الذي يؤمن بالحق، ويأبى الظلم، تتجلى له الفضيلة فيتخذها بوصلة لا يحيد مسارها، ولا يضل صاحبها”.

ولا يغفل العبري ضرورة إظهارها كقضية قومية إنسانية للأجيال المقبلة بصورة أكثر واقعية، أدبيا وفكريا، عندما يؤكد بقوله “يظل الشعر أداة مهمة في ترسيخ أهمية القضية؛ فهو الحارس لأحداثها والموثق لمقتضياتها، والمحفز النشط في قلوب العامة ليؤمنوا بها ويقدموا لها كل نفيس حتى تنجلي غمة جثت على صدر أمة، فكم قرأنا من الشعراء العمانيين في مواقع التواصل بين الفينة والأخرى أشعارا تعظم القدس ومكانتها وحق الدفاع عنها مثلا”.

ويختتم العبري حديثه بإيضاح التقنيات الأدبية التي يجب أن تتناول تاريخ تلك القضية، وهنا يؤكد حديثه عندما يقول “لا يكفي أن نعبر عن إيماننا بهذه القضية في مواقع التواصل، بل يجب علينا غرسها في النشء وتعليمهم بأنها مبدأ وعقيدة وحياة، والشعر أمكن في النفوس، وأقدر على التأثير”.

15